إيلاف من لندن: من كان يصدق انه بعد ثلاثة اشهر من دخول اكبر الرؤساء سنًا البيت الابيض، سنحذر من تعريض ادارته للاستقرار العالمي ومستقبل الديموقراطية والاقتصاد الدولي للخطر؟

كنا نتوقع أن انتخاب جو بايدن، ابن الـ 78 خريفا، هو تسليم دفة السفينة لقبطان يتمتع بالحكمة والخبرة في الحياة وادارة الامور بهدوء واستقرار.

ما يحدث في اميركا يؤثر هنا مباشرة علينا في بريطانيا، بحكم الارث الثقافي واللغة المشتركة والنظام الاقتصادي، وحسب القول المعروف اذا عطست اميركا اصيبت اوروبا بالبرد؛ وفي تداخل المصالح العالمية سيكون التاثير السلبي على منطقة الخليج وشمال افريقيا اكثر فداحة.

فنخب الطبقات المتوسطة والمستثمرون فيها اليوم تتبع التيارات الاميركية بعكس ابناء جيلي خريجي مدرسة الحضارة الاوروبية الكلاسيكية من ثقافة عصر التنوير كحرية الراي والديموقراطية.

هجين ناضج

كان الليبراليون وعدوا وتوقعوا أن يكون بايدن هجينا ناضجا من بيل كلينتون وجون كينيدي، ليلم الشمل ويعيد لاميركا ونظاميها الاقتصادي والديموقراطي بريق القدوة للاخرين بعد اربعة اعوام من الاضطراب (لم يكن دونالد ترمب المسؤول وحده عنه حسب ادعاء آلة البروباجندا الليبرالية العالمية، بل لعبت الدولة العميقة ولوبيهات المصالح والصحافة دورا اكبر في عرقلة عمل ادارته).

فبايدن يرتدي "زي الحشمة" في الاسلوب الخطابي، بدليل عدم شطب تويتر وفيسبوك لحسابه، ويمارس الشعائر "الايجابية" في معبد البيئة والتسخين الحراري، بدليل انشاد بي بي سي وي أن أن لتواشيحه، وتوقعنا، علي هذه الناحية من الاطلسي، أن يتجه إلى اصلاح وتجديد البنية التحتية - مما يروج الاقتصاد ويوفر فرص العمل - ويواجه تحديات روسيا والصين (في مجالات الطاقة وحقوق الانسان والامن الدولي).

في ندوة افتراضية، نوقشت التوقعات مع ثلاثة من حلفاء بايدن حاولوا طمانتنا (نحن في المجموعة اللندنية المشاركة في مجموعة تفكير تنتمي للتيار المحافظ) بان ادارته ستكون من التكنوقراط، الخبراء الذين يحتكرون المنصات في دافوس الاقتصادي؛ وان بايدن لن يسمح للاشتراكيين من اليسار المتطرف بدخول كابينة القيادة.

بحسب الخبراء، الايدولوجيا تؤثر دائما في السياستين الخارجية و الداخلية وفي الاقتصاد والتجارة والمال؛ فحرية السوق (التي تنظمها القوانين والسياسات المالية والضرائبية) هي المناخ الطبيعي المناسب للراسمالية كاطار سياسي اقتصادي -اجتماعي أدى لرفع مستويات معيشة الملايين حول العالم وازدهار التعليم والتجارة والمبتكرات العلمية، وانتشار الديموقراطية.

ملامح مختلفة

يرى جميع المشاركين في الندوة أن ملامح ادارة بايدن تختلف كثيرا عما وعد به الخبراء الثلاثة المقربين منه في الحلقة النقاشية؛ اذ تبدو ادارته الاكثر جنوحا لليسار منذ ادارة فرانكلين روزفيلت (1882-1945) التي استمرت منذ 1933 حتي مطلع 1945، وذلك من ناحية سيطرة اليسار الراديكالي المتطرف علي سياسة الحزب الديموقراطي.

في اللقاء الافتراضي الثاني للمعهد اللندني حول الموضوع نفسه هذا الاسبوع، ساد بيننا (وكانت اغلبية المشاركين بريطانيين وقلة من الاوروبيين والاميركيين) الشعور بالقلق المتزايد من تاثير ادارة بايدن على الاستقرار العالمي.

فالايدولوجية المستحدثة – للـ woke - " ووك" ، (و لم تترجم صحافيا للعربية بمعني واضح بعد) اصبحت عابرة للقارات، والمقصود هنا بحسب الخبراء المشاركين الاجندة المعلنة وفقًا لشعارات شرائح "الووك" التي اشعلت الحرب الثقافية الجديدة عالميًا ضد الاغلبية الصامتة الكادحة التقليدية من عباد الله، بقيادة الاقلية (المتفوقة اجتماعيا من صغار السن) العالية الصوت المسيطرة على وسائل تشكيل الراي العام وفق "الموضة" التي صمموها.

أيديولوجيات مؤثرة

تلخيص عقائدية المجموعة المسيطرة على الادارة الديموقراطية هي انها محصلة خلطت أيديولوجيات متاعب القرن العشرين كالماركسية والفرويدية ومابعد التحديثية، مع التيارات المستحدثة كالبيئية الانتقائية، ونظرية العنصرية النقدية، ودراسات تغيير الجنس البيولوجي، والنسوية الراديكالية، والـ intersectionality أي التقاطعية او التداخلية الاجتماعية باعادة تقسيم الطوائف عرقيا او طبقيا او جنسيا، والاربعة الاخيرة يستند اليها اليسار الراديكالي في حرمان المحافظين والليبرتاريين من منابر التعبير، او فصلهم من عملهم في الجامعات، مع مكافئة من لا يستحقون وتعينيهم في المناصب بلا جدارة او مؤهلات (بحجة تعرضهم للتميز العرقي او الجنسي).

يرى الخبراء أن البيئية الانتقائية مثل فرض الضرائب الباهظة وتخريب الاقتصاد لحماية البيئة من التسخين الحراري في اوروبا واميركا، واستثناء الصين لان حسابها لاضافة الكربون والعادم من الصناعات الي الاجواء ليس بكمية المحروقات سنويا وانما يحسبونها منذ بداية الثورة الصناعية في 1760، ( والمعتدلون منهم يحسبها منذ نهاية الفترة في 1840)، بينما الصين، المسؤلة عن اكثر من 30 في المئة من مجموع ما يتدفق يوميا من غازات المحروقات، تحسب منذ نصف قرن فقط لاعطائها فرصة " انتقائية" للحاق بالركب.

بجانب الاضرار التي ستلحق بالاقتصاد الحر المفتوح وليس بالصين (رغم انتهاكها حقوق الانسان)، فان سيطرة "الووك" على ادارة بايدن تهدد الديموقراطية العالمية والحرية والتقدم والمكاسب الحقوقية والمدنية والاجتماعية والحريات التي حققها العالم منذ بداية عصر التنوير في 1715.

بقايا قديمة ومستحدثة

هذا الخليط من بقايا الايدولوجيات القديمة والمستحدثة في السنوات الاخيرة يعمي ابصار مجموعات "الووك" عن نور عصر العقل؛ اذ يرفضون التفكير النقدي المنطقي، ويرون حرية الراي والتعبير شكلا من ممارسة العنف ضد النساء والاقليات، ويرفضون حكم القانون (فقد صاغه المستعمر الابيض العنصري!) ويرفضون العدالة الطبيعية (الشخص برئ حتي تثبت ادانته بأدلة لا يرقي اليها الشك) بدليل شطب حسابات التواصل الاجتماعي واقالة صجفيين وفصل اكاديميين عبروا عن راي مخالف (خارج مجال العمل) لأن صاحبه مضلل أو هو زيف وعيه وضميره.

حتى الان لم يصدر عن بايدن نفسه ما يناقض ادعاء أيديولوجية "الووك" بان الاغلبية المنتخبة ديموقراطيا (اي الجمهوريين) غير شرعية وبالتالي تغيير الاساس الدستوري الديموقراطي لتصفية الاغلبية، مثل محاولة بايدن تعديل تركيبة المحكمة العليا لان اغلبية قضاتها من المحافظين، يجعله مثل ترمب في رفضه نتيجة الانتخابات.

بحسب هؤلاء الخبراء، إن الايديولوجيا التي خربت المعاهد الاكاديمة واخرست المفكرين - ناهيك عن تاثيرها في بايدن في سياسة رفع الضرائب علي الافراد والمؤسسات الاستثمارية - تطرب لها آلة صناعة رأي ضخمة ذات تاثير هائل في المؤسسة السياسة في بريطانيا واوروبا لتقليدها، بجانب التوجيه التضليلي لسياسة حقوق الانسان كاداة ضغط في السياسة الخارجية.

وكما خبرنا، فإن الوسائل الصحفية التي يسيطر عليها "الووك" الأيديولوجي تستهدف بحقوق الانسان بلدان الخليج والحلفاء التقليديين في الشرق الاوسط الذين يتعرضون للتهديد المباشر والارهاب من السياسات التخريبية الايرانية التي ستزداد حدة بالعودة الي سياسة اوباما المتساهلة مع المتطرفين، ناهيك عن احياء الاتفاق النووي الايراني سيء السمعة.