لنا في حيات العظماء، عبر التاريخ، معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والإيمان والأمل، فهم القمم التي نتطلع لها بشوق، والمنارات التي تكتسح الدياجير من أمام أرجلنا وأبصارنا، وهم الذين يجددون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة وأهدافها البعيدة السعيدة، ولولاهم لتولانا القنوط في كفاحنا مع المجهول، ولرفعنا الأعلام البيض منذ زمان وقلنا للموت: نحن أسراك وعبيدك يا موت، فافعل بنا ما تشاء. إلا أننا ما استسلمنا يوما للقنوط ولن نستسلم، فالنصر لنا بشهادة الذين انتصروا منا، والإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) منهم. والحسين معنا في كل حين وإن قامت بيننا وبينه وهدات سحيقة من الزمان والمكان، فلا الزمان بقادر على أن يخنق صوته في آذاننا، ولا المكان بماح صورته من أذهاننا.

إن الله (سبحانه وتعالى) يوجه ويحرك تاريخ البشرية ويدير حياتها على وجه الأرض، وقد يصل الانسان الى طريق مسدود فيفتحه الله، وقد تصل البشرية الى حافة السقوط فتدركها رحمة الله فتنقذها من التردي الى الهاوية. يقول تعالى: "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون". لقد احدث الإسلام ثورة في القيم والمبادئ والأخلاق والذوق، بل ثورة في كل شؤون الانسان وتصوراته. ولقد قال الرسول (صلوات الله عليه) يوم فتح مكة: "إن الزمان قد إستدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"، وكان يعني بذلك أن سيرة الإنسان قد تغيرت، ورجع هذا الإنسان الى فطرته التي فطره الله عليها. وقال (صلوات الله عليه): ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي.

إلى جانب هذه الثورة المدوية، احدث الرسول (صلوات الله عليه) ثورة أخرى في المواضع الاجتماعية حيث رفع فئة كانت مستضعفة ومعزولة عن ميدان الحياة، وعزل فئة أخرى كانت متسلطة وجائرة على المجتمع. هذه الثورة المزدوجة (ثورة القيم وثورة المواقع) حدثت بتخطيط ورعاية الرسول الأكرم تعزيزا لقوله تعالى: إن اكرمكم عند الله أتقاكم.

لقد حدثت انتكاسة مخيفة في المحيط الإسلامي الذي كرس الرسول (صلوات الله عليه) حياته كلها من أجله، حيث أنه بعد وفاته، وبعد أفول الخلافة الراشدة، عادت الفئة المعزولة تدريجيا إلى مواقعها السابقة في المجتمع الجديد، وسيطرت عليه من موقع الشرعية الإسلامية، يعني خلافة الرسول الأكرم، والأخطر من ذلك أنها إعتلت عرش الخلافة وهي تحمل نفس العقلية التي حاربت بها الرسول الأكرم خلال السنوات الأولى للدعوة إلى الإسلام. إذا عرفنا هذه الحقيقة سنعرف مقدار الخطر المحيط بالإسلام ومستقبله، وكان الحسين يرقب هذا التحرك المريب بكل تفاصيله ويدرك مدى خطورة المرحلة المقبلة. يزيد بن معاوية يتزعم الخلافة التي آلت اليه بالوراثة نقضا للصلح الذي أبرمه معاوية مع الحسن بن علي بترك الخلافة شورى بين المسلمين بعد وفاة معاوية، ويعمل لتغيير رسالة الله من خلال الشرعية الإسلامية بإسم الرسول الأكرم. أضف الى ذلك ان المسلمين اصابهم الخدر والغفلة نتيجة إنقلاب المفاهيم الإسلامية عن معانيها الحقيقية، حيث كثر المنافقون والمتقولون على الرسول الأكرم، وأبعد الصالحون وحوربوا في ارزاقهم وصفي الكثير منهم تصفية جسدية.

كل ذلك واجهه الحسين بمرارة وشدة، وقد أدرك أن الإسلام سيحرف تحريفا كاملا إن لم يكن له دور فعال في مواجهة هذا التيار المدمر، وأدرك ان التصحيح وحفظ الرسالة لا يمكن أن يحدثا بالوعظ والإرشاد وطرح المبادئ السليمة، حيث ان القاعدة الفكرية للمجتمع أصبحت مناقضة بصورة كلية لروح الإسلام وتعاليمه، ولا يمكن وقف هذا التيار الزاحف إلا بالتضحية، ولا يهز ضمير الأمة ويوقظها من سباتها العميق إلا تضحيات كبرى.

قد يعتقد البعض ان الإمام الحسين قاد المعارضة الإسلامية ضد الحكم الأموي بزعامة يزيد بن معاوية من أجل تولي الخلافة وهذا اعتقاد خاطئ، فالحسين سار على خطى أبيه الإمام علي وأخيه الحسن في هذا الأمر. والمعلوم تاريخيا أن الإمام علي قد نأى بنفسه عن الخلافة (وإن لم يخف حقه فيها) منذ البداية أي بعد وفاة الرسول (صلوات الله عليه) واختلاف المهاجرين والأنصار حول أحقية كل طرف منهم فيها. ولم يقبل الخلافة بعد مقتل عثمان إلا بعد الإلحاح والإصرار الشديدين من أغلبية المهاجرين والأنصار، وخوفه من وقوع فتنة كبرى تضر بالإسلام والمسلمين. أما إبنه الحسن فقد عزف عن الخلافة وأبرم الصلح مع معاوية حقنا لدماء المسلمين، ولكن معاوية نقض العهد بتسمية إبنه يزيد وليا للعهد.

الهدف الحقيقي من الثورة الحسينية هو التصدي للانحراف والظلم والاستئثار، وهي أيضا تمثل بداية التحرك الإيجابي والجدي للأكثرية المحرومة والمستضعفة، وقد تمكن الحسين من تحقيق الأهداف التالية:

  1. التعبير عن الثورة الإنسانية والاجتماعية.
  2. إشعار الناس بواقعهم السيئ المرير.
  3. بعث روح جهادية، ومبادئ نضالية واخلاقية جديدة في نفوس عامة الناس.
  4. تأكيد مبدأ هام وأساسي في الإسلام، هو أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتولى أحد أمور المسلمين بغير رضاهم وقبولهم به.

وقد أعلن الحسين هذه الأهداف النبيلة، فقال قولته الشهيرة التي لا تزال تتردد - حتى يومنا هذا- على ألسن الأحرار والمطالبين بالعدالة: "إني لم اخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد، أريد ان آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق". كلمات قليلة لها أبعاد إنسانية واجتماعية عميقة، حدد بها أهداف ثورته الخالدة في السطور والعقول والقلوب، فلا غاية له من ورائها إلا الحق. فهي ثورة الإسلام التي تترفع عن مستوى الأفراد والأشخاص والغايات الدنيوية، لذلك بقيت رمزا مشعا للاستشهاد في سبيل الحق تعيش في ضمير الإنسان ووجدانه ما بقي في الكون حق وباطل.