يوجز المؤلف في فصل "الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية" ص 254 المذهب الرأسمالي بثلاث مبادئ رئيسية وهي: حرية التملك وحرية الاستغلال (استغلال الفرد ثروته) وحرية الاستهلاك اي حق الفرد في انفاق ماله كما يشاء. وفي معرض حديثه عن حق الاستغلال يقول: "كما له [اي للفرد] أن يترك الأرض دون استغلال".

ورغم أنه يعترف باستثناءات حق الملكية الخاصة لدى الرأسمالية، كقيام الحكومة مثلا بتأميم مشاريع معينة عند الضرورات، فقد فات المؤلف ان يعترف بتكيف الرأسمالية من خلال تبنيها سياسات لينة بين الفينة والأخرى، منحنية للضغوط الجماهيرية كلما اتسعت الفجوة بين طبقة ارباب العمل من جهة وطبقة العمال من جهة أخرى، فتعيد توزيع الثروة من خلال إعادة تعريف علاقات العمل بطريقة أكثر عدالة أو أقل جوراً.

وما رفع مقدار الحد الادنى للاجور في الدول الرأسمالية بين فترة واخرى تبعا لارتفاع تكاليف المعيشة أو دعم التعليم الجامعي أو الضغط على شركات التأمين الصحي لتقليص النفقات الصحية للمواطن أو تأسيس صندوق الضمان الاجتماعي للمتقاعدين او حتى تقليص نسب الفائدة على شراء المساكن ... الخ الا أمثلة واضحة على تلك السياسات.

وضع الرأسماليون (نقصد بذلك الدول التي تتبنى نظام اقتصاد السوق الحر Free Enterprise System) قوانينا تمنع الاحتكار، فتم شطر شركات كبرى لضمان استمرار المنافسة ــالتي هي أهم مبادئ الرأسماليةــ ولتقديم اسعار تنافسية معقولة للمستهلكين. يحظر قانون شيرمان الأمريكي لمكافحة الاحتكار The Sherman Antitrust Act جميع العقود والتوافقات والمؤامرات التي يحوكها رجال الاعمال او المدراء التنفيذيين للشركات لتقييد النشاطات التجارية الداخلية والخارجية. ويشمل ذلك الاتفاقات بين الشركات المتنافسة لتحديد الأسعار، والتلاعب في العطاءات، أو إقصاء شرائح خاصة من العملاء، إذ يعد القانون هكذا نشاطات جرائماً جنائية.

أما فيما يخص ملكية الارض ـــ التي أشار المؤلف خطأً الى ان الرأسمالية تهب مالكها حق عدم استغلالها ـــ فتحكمها قوانين معقدة تختلف من دولة لاخرى، ففي الولايات المتحدة مثلا، تفرض الحكومة الفيدريالية غرامات مالية على مالكي الاراضي الذين لا يزرعونها لما لذلك من مضار اقتصادية وبيئية.

الحديث عن النظرية الرأسمالية الكامنة في بطون كتب القرن التاسع عشر، الكتب التي تغطيها الاتربة في رفوف المكتبات العتيقة، لا يعكس حقيقة الرأسمالية التي تطبق على الواقع الراهن او حتى الواقع الذي عاصر صدور كتاب اقتصادنا عام 1961. لم يأخذ السيد محمد باقر الصدر بنظر الاعتبار المراحل التطورية او المراحل التي تكيفت خلالها رأسمالية القرن التاسع عشر ــــ والتي تأثرت بالاشتراكية او أجبرت على تبني كثير من مفاهيمها في مراحل لاحقةـــ وتناول الجانب النظري فحسب وأهمل الجانب التطبيقي. في المقالات القادمة، سنسوق لكم أمثلة تؤكد عدم المام المؤلف بالجوانب التطبيقية للنظرية الرأسمالية.

انتقد المؤلف المذهبين الرأسمالي والاشتراكي لأنهما يرتكزان على "نظرة فردية" ويعتمدان على "الدوافع الذاتية والانانية". فقال في ص 256 "وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين اشباع دوافهم الذاتية وتنمي نزعتهم الفردية.. تتجه الماركسية الى غيرهم من الافراد فتثير في دواخلهم الدوافع الذاتية والانانية... وتسعى الى تنمية هذه الدوافع بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه". وأما المذهب الجدير بصفة المذهب الجماعي ـــ يجادل الصدر ـــ فهو المذهب الذي يعتمد على وقود من نوع آخر، على قوى غير الانانية والدوافع الذاتية: "هو المذهب الذي يربي في كل فرد شعورا عميقا بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه". ومن أجل هذا الهدف، يفرض عليه أن يتنازل عن شيء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصة لصالح المجتمع.

دعونا نتأمل الأمر جيدا لنرى ماذا يقصد الصدر بالضبط بدعوته لمذهب اقتصادي لا يرتكز على الانانية والنزعة الفردية بل يربي في كل فرد شعوراً بالمسؤولية تجاه الجماعة ويجعله يتخلى لصالحها عن نسبة من ثمار عمله وامواله وممتلكاته. اقتصاد السوق الحر او الاقتصاد الرأسمالي لم "ينمي النزعة الفردية" ولم يوجدها بل أسس نظاما اقتصاديا يرضي هذه النزعة لانها مدفوعة بغريزة فطرية لا يمكن اقتلاعها من اعماق الفرد ولا يمكن تجاهلها. وأي نظام اقتصادي يهمل أو يصطدم بالجانب الفردي والمتطلبات الغزيزية الفطرية للأنسان حتما سيفشل، وفشل النظام الشيوعي ـــ كما أسلفنا في مقالات سابقةـــ خير مثال على ذلك. دعونا نكون أكثر وضوحا: النظام الاقتصادي الناجح هو الذي يأخذ بعين الاعتبار الغرائز "الحيوانية والملائكية" لدى الانسان على حد سواء ويوازن بينهما. وهذا النظام يتجسد بالنظام الديمقراطي الاشتراكي في النرويج وفنلندا والدنمارك ويعتبر أمثل النظم الاقتصادية بالعالم حتى الآن.

كي يؤسس لنظام اقتصادي اسلامي، يلمح الصدر ـــ ولعله سيصرح في الفصول القادمةــــ الى ان نظامه الموعود سيرتكزعلى الجانب "الملائكي" وحده للانسان من خلال "الايمان بالغيبيات" فيتخلى الانسان عن أنانيته وفرديته في حب التملك والاستحواذ على المواد لإيمانه باليوم الآخر ومبدأ الثواب والعقاب المتمثل بالجنة والنار، فيخلق، بالتالي، أفرادا يحملون شعورا عميقا بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه على أمل الاثابة في اليوم الآخر.

التاريخ الانساني، بما فيه التاريخ الاسلامي، لم يشهد نجاح أمة او شعب باعداد أفراده إعداداً روحياً عن طريق الوعظ والمحاضرات الدينية حتى صار افراده يتخلون طواعية عن جزء من أملاكهم وثمار جهودهم لصالح المجتمع بدافع الايمان بالله. نعم يحصل هذا في كل المجتمعات، لكن بشكل فردي محدود لا يمكن اعتباره قاعدة، نسمع ونقرأ يوميا عن أناس تبرعوا بمبالغ كبيرة مما يملكون أو كل ما يملكون لمنظمات خيرية تعنى بالمستضعفين من الناس والحيوانات وأحيانا تشمل اصلاح او المحافظة على البيئة، ولسوء الحض اغلبهم ليسوا مسلمين، ولم تكن دوافهم بالضرورة إرضاء آلهتهم او الأمل في نيل ثوابها.

التاريخ الاسلامي يؤكد ان الامة الاسلامية -حتى في صدر الاسلام الأول- لم تصل للمستوى الذي يبشرنا به نظام الصدر الاقتصادي الاسلامي، وعجز المسلمون الأوائل عن "تربية شعور عميق بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه في كل فرد" فكيف لنا إذن أن نبلغ مستوى من الايمان لم يصله حتى صحابة الرسول ونتخلى عن جزء من أموالنا طواعية؟ امتنع مسلمون كُثُر عن دفع الزكاة وهي من أركان الاسلام الخمسة، فحكم المشرع الاسلامي بأخذها عنوة تطبيقا للشرع الاسلامي القائل: (إذا منع المسلم الزكاة، أُخِذَت منه عنوة وعُزِّر، وإذا خرج بذلك عن قبضة الحاكم الشرعي، قاتله حتى يؤديها).

بعد وفاة الرسول محمد (ص) امتنعت قبائل في الجزيرة العربية عن دفع الزكاة للخليفة ابو بكر، ماذا حدث لهم؟ اتهموا بالردة عن الاسلام وسُيِّرَت عليهم الجيوش لتجبرهم على دفعها وهم صاغرين. تسائل عمر قائلا: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا لقاتلتهم على منعهم".

إذن فالنظام الاقتصادي الاسلامي الذي كان يبشر به الصدر هو أقرب الى ديكتاتورية البروليتاريا ـــ إحدى مراحل الشيوعيةـــ وليس الى الصورة المثالية التي يروج لها. فهو يتهم الماركسية بأنها تنمي النزعة الفردية والانانية لدى أفراد الطبقة العاملة حتى "تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثوريا"، وتقل للذين تتصل بهم "أن الآخرين يسرقون جهودكم وثروتكم"، فلاتقروا هذه السرقة بحال لانها اعتداء صارخ على كيانكم الخاص.

النظام الاقتصادي الاسلامي الذي دعى اليه الصدر ينمي الروح التسلطية والقيادية لدى طبقة رجال الدين بحجة تنفيذ شرع الله وبالتالي "فهو لأجل هذا لايعترف بالحريات الفردية بل يهدرها في سبيل القضية الاساسية، قضية المجتمع بكامله" وهذا اقتباس لنص الاتهام الذي وجهه الصدر للمذهب الماركسي في صفحة 256. فهو لم يحصر العملية الاقتصادية وتاليا الصراع الطبقي بالعمال وأرباب العمل، كما هو معروف تاريخيا، بل بين رجال الدين من جهة وبين عامة الناس من جهة أخرى. وهو بذلك لم يأت بجديد، فقد شهدت أوربا ذلك الصراع في القرون الوسطى لكن الفرق الوحيد ان رجال الدين هناك كانوا مسيحيين أما الذين يدعو الصدر لتوليهم ادارة دفة قيادة الاقتصاد والسياسة فهم رجال دين مسلمون هذه المرة.

تجربة النظام الاسلامي في ايران ،والتي إعتمدت ايران في ارساء دعائمها على الكثير من أفكار الصدر، أفضت الى نشوء طبقة ديكتاتورية متمثلة بطبقة الفقهاء الشيعة بقيادة افقههم الذي ينصبونه ولياً عليهم وعلى العامة، لا يكترثون لفردية الافراد ولا لأنانيتهم بل يفرضون مايعتقدون انه شريعة الله، فلا حكم الا لله. لكننا لم نر، خلال أكثر من أربعين عاما من حكمهم، وصول النظام الاسلامي في ايران الى الاكتفاء الذاتي نتيجة تبني نظام اقتصادي اسلامي لاربوي ولم نر "المذهب [الاقتصادي] الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم... باثارة الدوافع الجماعية في الجميع، وتفجير منابع الخير في نفوسهم"، الذي يحدثنا عنه المؤلف في ص257. ولم تبرهن طبقة الفقهاء التي تحكم في ايران لنا إنها افضل من طبقتي الرأسماليين والبروليتاريين من حيث الفردية والانانية والاسئثار بثروات الشعب، القيمة الفائضة من جهود الطبقة الكادحة.