فيما يواصل جيش الاحتلال عمليته العسكرية والتي وضع لها القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" هدفاً على رأس أولوياته، تبدو الأوضاع على الأرض معقدة، في ظل غياب الحسم. ومع اقتراب الحرب من شهرها الرابع وسط كارثة إنسانية لحقت بقطاع غزة، وأضعفت بشكل كبير الموقف الغربي الداعم لإسرائيل بالتوازي مع ازدياد الضغط الشعبي داخلياً ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يمكن القول إن التحولات على الأرض تصب في صالح حماس، التي تركز على عامل الزمن كحل وحيد للخروج من هذه الحرب. لكن هل سيكون بإمكان حماس التواجد في المشهد السياسي ما بعد طوفان الأقصى؟

من بين السيناريوهات المطروحة لمستقبل ما بعد الحرب، إسرائيلياً، وضع قطاع غزة تحت إشراف سلطة عسكرية تفتح الباب لعودة الاستيطان. لكن المراقبين والمحللين يقللون من شأن هذه الخطة، بالنظر لمعارضتها أميركياً، إذ ترى فيها إدارة الرئيس جو بايدن مشروعاً خطيراً قد يؤدي إلى اختلال علاقة الإدارة الأميركية بشركائها في المنطقة، ويجهز على ما تبقى من بصيص أمل لحل الدولتين، كما يبرز أيضاً مقترح تشكيل قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات لإدارة قطاع غزة، لكنه أجهض مبكراً إذ أنه لم يلق تجاوباً لا من حكومة نتنياهو ولا من السلطة الفلسطينية، حيث تراه تل أبيب مقترحاً عديم الجدوى، وتراه رام الله محاولة فصل جديدة ما بين الضفة وغزة.

وبرزت إلى العلن المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة، وتضع المرحلة الثالثة منها تصوراً للمشهد السياسي في غزة ما بعد الحرب، حيث تقترح القاهرة تشكيل حكومة تكنوقراط في قطاع غزة والضفة الغربية قوامها قوى فلسطينية متنوعة من بينها حماس، لكنَّ مصر اضطرت إلى تعديلها بعد مطالبة الأطراف الفلسطينية بإرجاء الحديث عن البند الثالث منها، على اعتبار أنَّ المسألة تتعلق بشؤون داخلية فلسطينية ينبغي أن تناقش في إطار الحوار ما بين الفصائل، وهنا ستعود أكثر المسائل المعقدة لتطفو من جديد في وضع بالغ الدقة والحساسيَّة.

الاجتماع الاخير للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بحث إمكانية انضمام حركة حماس للمنظمة، وقدم أربعة شروط ينص رابعها على أنَّ المقاومة الشعبية هي الشكل المناسب والملائم لهذه المرحلة، لكن هذا الشرط لا ينفي أحقية الفلسطينيين بممارسة جميع أشكال النضال، إذ أنَّه يربط مسألة المقاومة الشعبية بمسألة الظرف فقط، وهو الأمر الذي يبقي سلاح المقاومة خارج الحسابات، ما يعني أن إسرائيل لن تر في انضمام حماس إلى منظمة التحرير واعترافها بإسرائيل اختراقاً كبيراً في عملية السلام، بل سترى فيه مجرد تكتيك مرحلي يجبرها على البقاء في حالة الترقب والترصد.

تجد حماس نفسها اليوم في مفترق طرق، وقد لا يسعفها الوقت للمناورة أو تضييع الفرص. ففي حين يستمر الجناح العسكري في المكابرة بإرجاء الحديث عن التسوية ما دامت الحرب لم تحدد الطرف الفائز بعد، وما دام بالإمكان أن تجلب التطورات الميدانية موقفاً تفاوضياً مريحاً، يرى الجناح السياسي أن من الضروري أن تشارك الحركة في أي نقاشات تحدد مصير قطاع غزة بعد الحرب، وأن لا مناص من تقديم تنازلات تضع حداً للإشكالات ونقاط الاختلاف التي تكتنف الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بل إنَّ هذا الانضمام هو الخيار الوحيد الذي يضمن لحماس تواجداً في المحادثات مع المجتمع الدولي، خاصة أنَّ موقف الحركة ازداد سوءاً بعد السابع من أكتوبر. لكن المشكلة تكمن في مدى تجاوب الأجنحة داخل بيت حماس مع ما يستوجبه الإنضمام لبيت المنظمة والتقيد بالتزاماتها المختلفة، ومن بينها السلام والاعتراف بإسرائيل، خاصة أنَّ الجناح المحسوب على إيران لا يرى في مثل هذه الخطوة سوى الإعلان عن قطع حبل الود بين الحركة وطهران.

أمام هذه المرحلة المفصلية التي تضع مستقبل حماس على المحك، ليس فقط قطاع غزة بل في المشهد الفلسطيني ككل، فإنَّ تلبية شروط الانضمام إلى منظمة التحرير لم يعد خياراً بقدر ما هو ضرورة فرضها طوفان الأقصى بنتائجه العكسية التي وضعت حماس في موقف حرج. وسيفتح هذا الأمر الباب لاحتمالين: إما لإنعطافة تاريخية في مسار الحركة تدفعها إلى تعديل وثيقة المبادئ والسياسات العامة، أو لا نقسام داخلي يدفع المعارضين للثورة إلى الوقوف ضد هذا الخيار، واستنساخ حركة جديدة تتبنى نفس الخطاب الراديكالي الذي قامت عليه حماس في سنة 1987.