إنَّ الخيار بين المشروع الإيراني والمشروع الأميركي في المنطقة، خصوصاً في العراق، هو كالخيار بين الكوليرا والطاعون، تماماً كما كان في وصفنا الخيار بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية عام 2015.
المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي قال قبل أيام إنَّ إيران أفشلت المخطط أو المشروع الأميركي في المنطقة، وكان يقصد، بشكل خبيث، أن البرجوازية القومية الإيرانية باتت تتسيد المنطقة. لكن ما هو المشروع الإيراني البديل الذي أحله خامنئي محل المشروع الأميركي؟
الحرب الوحشية المستعرة التي تقودها إسرائيل في غزة أسقطت الرتوش ومزقت الأقنعة التي كان يلبسها الجميع في مسرحية طالت مشاهدها وفصولها، وظلوا يرسمون صورة كاذبة ومخادعة عن وجودهم بعناوين سياسية مختلفة، واحدة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأخرى باسم المقاومة والممانعة أو مقارعة الاستكبار العالمي أو الامبريالية، والناتج الحاصل بينهما هو الحروب والاغتيالات والفقر والجوع والسجون والمعتقلات والتهجير.
الصراع بين المشروعين الإيراني والأميركي في المنطقة هو صراع رجعي بامتياز، صراع من أجل الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وكانت إسرائيل وما زالت تشكل رأس حربة أميركا في المنطقة، كما تمثل الميليشيات الممولة من إيران ذراعاً ضاربة لها.
الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن عسكرتاريتها، تستخدم أدواتها الأخرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات مجلس الأمن والأمم المتحدة وسيطرتها على المفاصل المالية والاقتصادية في العالم، من أجل اخضاع منافسيها إلى سيطرتها السياسية، بينما لا تملك إيران غير الاستثمار السياسي والعسكري في الدول الفاشلة، كما نرى في العراق ولبنان واليمن وسوريا.
العناوين السياسية التي يستخدمها المشروع الإيراني أو المشروع الأميركي هي عناوين للتضليل، وإخفاء ماهية هيمنتها الاقتصادية والسياسية، وما يحدث اليوم في المنطقة يبين زيف تلك العناوين.
على أرض الواقع، بينت التجربة العملية أنَّ المشروع الأميركي في المنطقة لم يكن أبداً مشروعاً من أجل تأسيس أي نظام علماني وديمقراطي في أي بلد، بل على العكس تماماً، خلف نهوض وتقوية كل التيارات الإسلامية والرجعية في المنطقة، بدءاً من تعويم الخميني ودعمه والالتفاف على الثورة الإيرانية عام 1979، ونقله إلى طهران من باريس على متن الخطوط الجوية الفرنسية وفتح القنوات الإذاعية لخطبه مثل صوت أميركا والبي بي سي ومونت كارلو، مروراً بتجنيد الشباب في المنطقة وإرسالهم إلى القتال في صفوف المعارضين الأفغان للاحتلال السوفيتي عام 1979 تحت عنوان محاربة الإلحاد الشيوعي والكفر، وتحول السفير الأميركي في القاهرة في الثمانينيَّات من القرن المنصرم إلى أكبر داعية للتجنيد في المنطقة، وانتهاءً بتنصيب الأحزاب الإسلامية في السلطة داخل العراق بعد غزوه واحتلاله، ممن يتبجحون اليوم بكل صلافة بعناوين المقاومة والممانعة، إلى جانب دعم الأخوان المسلمين في مصر وتونس وكل الجماعات الإسلامية بعد ما سمي الربيع العربي في سوريا والمنطقة، وبما يشمل عقد الجلسات والاجتماعات بين ممثلي الكونغرس الأميركي، وعلى رأسهم المرشح الرئاسي جون مكين، في سوريا عام 2012 مع أبي بكر البغدادي وقادة داعش الذين اغتالتهم القوات الأميركية للالتفاف أيضاً على الثورتين التونسية والمصرية والتصدي لهبوب نسيمهما في المنطقة.
بينت انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019 في العراق أنَّ السياسة الغربية، بما فيها الأميركية، لم تبال بكل عمليات التصفيات والاغتيالات التي ارتكبت بحق المتظاهرين السلميين الذين بلغ عددهم أكثر من 800 شابة وشاب، إضافة إلى أكثر من 20 ألف جريح. فهي لم تحرك ساكناً عبر فرض العقوبات الاقتصادية على قادة الميليشيات وحكومة عادل عبد المهدي، التي لقبت بحكومة القناصين الملطخة أياديها بدماء المتظاهرين، بل على العكس تماماً ساعدت الأحزاب الإسلامية سياسياً ومعنوياً في عبور الأزمة التي أحدثتها انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) في السلطة السياسية. وقد كشفت حرب غزة نفاق السياسة الأميركية، فعندما تتعرض القواعد الأميركية للقصف أو تصل أسلحة إلى حزب الله عبر شركة "فلاي بغداد” على سبيل المثال، تفرض العقوبات الاقتصادية عليها وعلى قادة تلك المليشيات.
أما المشروع الإيراني كما تحدثنا فهو الاستثمار في الدول الفاشلة أو في البلدان التي تنعدم فيها أي أسس للدولة بالمعنى القانوني والهوياتي والأمني والسياسي. وإذا كانت الحرب هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، فإيران دولة غير قادرة على المنافسة الاقتصادية في السوق الرأسمالية في المنطقة من دون مليشيات وقوة عسكرية. أي لا تملك الأموال بسبب العقوبات الغربية عليها، ولا تملك التكنولوجيا الصناعية التي تؤهلها للمنافسة الاقتصادية.
عليه، ومثالاً لا حصراً، ليس هناك منافسة اقتصادية عادلة بين السلع التركية والإيرانية في السوق العراقية، فالأولى تتفوق على الأخيرة بكل المعايير، إلا أنَّ الثانية تهيمن على السوق العراقية في المدن الجنوبية وبغداد، وهذا يتم عن طريق المليشيات التابعة لإيران، التي تلوي عنق الأسواق المحلية أو تقوم بتدوير رؤوس أموالها التي تهرب من العراق عبر أدواتها إلى إيران، أو تعيد تدوير رؤوس الأموال التي تمول ميليشياتها.
وهكذا بالنسبة للتحرش الحوثي وإبراز القوة في البحر الأحمر، فليس له علاقة لا من بعيد ولا من قريب بـ"نصرة الشعب الفلسطيني"، إنَّما هو بعث عدة رسائل، أولها وجوب الاعتراف بالحوثيين كقوة موجودة في المعادلة السياسية اليمنية والتفاوض معها وليس مع الحكومة التي تمتلك مقعداً في الأمم المتحدة وتعترف بها حكومات العالم، والثانية طمس كل الأوضاع المأساوية التي تمر بها الجماهير الواقعة تحت سلطة الحوثيين من الفقر وقمع الحريات والفساد. وكتحصيل حاصل، تستفيد إيران بأن تقول إنها تستطيع التحكم بجزء من عصب الاقتصاد العالمي عبر الحوثيين.
إقرأ أيضاً: أهمية إدانة أحد مرتكبي مجزرة عام 1988 في إيران
في نفس السياق، يقصف الحرس الثوري مدينة أربيل؛ فعندما فشلت الميليشيات التابعة لإيران في العراق في ردع القوات الأميركية في العراق، قامت بضرب مدينة أربيل في استعراض القوة، وجاء القصف بعد هجمات القوات البريطانية والأميركية على الحوثيين.
أي بمعنى آخر، إن التضامن مع الشعب الفلسطيني هو يافطة تختبئ المليشيات المجرمة خلفها، والجدير بالذكر أن انضمام ميليشيات الحشد الشعبي في العراق إلى "محور المقاومة والممانعة" أو تعليق يافطتها في قنواتها الفضائية وعلى جدران مقراتها جاء متأخراً جداً وتحديداً خلال أيام انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عندما طالب الملايين من المنتفضين بمحاكمة الفاسدين في الأحزاب الإسلامية وتوفير ضمان بطالة وفرص عمل وتقديم الخدمات وتحقيق المساواة، وكي تبرر تلك المليشيات حملتها الوحشية للقضاء على الانتفاضة وإضفاء الشرعية على قتل المتظاهرين بدم بارد، رفعت يافطة محور المقاومة والممانعة على دكاكينها الممولة من سرقة ونهب ثروات جماهير العراق.
إقرأ أيضاً: كيف أحبط الإعلام الرقمي البروباغاندا الغربية
إنَّ النقطة الجوهرية التي نود الإشارة إليها، هي الأوهام التي تنشرها القوى المؤيدة لأميركا، وتقول إن انسحاب أميركا من العراق يعني أن يحل محلها الاحتلال الإيراني. يعد مثل هذا الكلام في الحقيقة جزءاً من الوهم، والعزف على الوتر القومي المشروخ، وبشكل أحادي. والسؤال الذي يجب أن نطرحه ماذا جنت جماهير العراق من الوجود الأميركي في العراق؟ إنَّ القوميين الذين يحملون نزعة معادية لما يسمى بالعدو الفارسي، هم من يروجون لهذه الأوهام، واستغلت أميركا تلك الأوهام لإدامة حرب ضروس دامت ثمان سنوات هي الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وقتل فيها أكثر من مليون شخص إضافة الى تدمير مقدرات المجتمع، تحت عنوان حماية البوابة الشرقية للأمة العربية.
خلال كل الوجود الأميركي، سواء أكان على شكل غزو واحتلال العراق أو على شكل تواجده بعد اجتياح داعش لثلث مساحة العراق، لعبت السياسة الأميركية دوراً فعالاً في تقوية نفوذ الجمهورية الإسلامية. وكان كلا المشروعين دعامة صلبة لإدارة أزمة السلطة السياسية في العراق.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وأميركا أفضل من إيران وحماس
إنَّ كل عمليات الفساد والإجرام والفقر والاغتيالات والسجون السرية وقانون مادة أربعة إرهاب وقوانين رجعية أخرى مناهضة للنساء وحقوق الإنسان وتحويل العراق إلى حديقة خلفية للجمهورية الإسلامية تجري وتترسخ عبر دعم السياسة الأميركية. لأن ما يهم مصالح الولايات المتحدة الأميركية أن يكون العراق سوقاً للعمالة الرخيصة، وتسن فيه قوانين استثمار ذات جاذبية في جلب رأس المال، وحماية مكانة العراق كمنتج للنفط في السوق الرأسمالية العالمية، وألا تؤثر على ازعاج صفو حركة الرأسمال في المنطقة، وأي شيء غير ذلك فهو هراء من وجهة نظر المصالح الأميركية. أمَّا بالنسبة إلى إيران، فهي تبحث من خلال هذه الأوضاع عن مكانة لها، وما عدا ذلك فلا شأن لها بها.
وأخيراً، فإنَّ حرب غزة بينت أن جماهير المنطقة ليس أمامها، إذا أرادت أن تعيش في حرية وأمان وتحصل قوت أطفالها وتتمتع بثرواتها، إلا إفشال المشروعين في المنطقة، أو مكافحة الكوليرا والطاعون معاً.
التعليقات