في خطوة متأخرة، وضعت اتفاقية التعاون العسكري المصري الصومالي العصا في عجلة أديس أبابا المتجهة نحو ساحل أرض الصومال، ورفعت من مستوى التصعيد بين مصر وإثيوبيا إلى أقصى درجاته. ومع ذلك، لا يمكن وصف سلوك المصريين بـ"التهور"، ما دام المسار الدبلوماسي التفاوضي حول سد النهضة قد استنفد كل الفرص التي تحمي حقوق مصر. الأجدر بنا أن نصف هذا التطور الجديد على أنه يأتي في سياق ملء الفراغ الذي أحدثه مغادرة بعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في الصومال "أتميس"، وأيضًا كخطوة ضرورية أفرزتها مقتضيات "الملء الأخير" لسد النهضة وخطورته على مستقبل الأمن المائي المصري.

القاهرة، إذ ترغب في إظهار حضورها على خلفية الدور المتنامي لإثيوبيا وتركيا ودول أخرى في منطقة القرن الإفريقي والصومال تحديداً، تجد نفسها مضطرة إلى البحث عن أوراق ضغط تمكنها من تخطي سياسة الأمر الواقع التي تريد أديس أبابا فرضها في ملف سد النهضة. تشارك مصر في قوات حفظ سلام جديدة في الصومال، وتتمتع بتواجد عسكري تحت غطاء شرعي وقانوني بما أن اتفاق الدفاع المشترك مع الصومال يؤمن ذلك.

مشاكل الصومال مع حركة الشباب وأطماع الإثيوبيين ليست وليدة اليوم، والمصريون ربما اختاروا تأجيل الدخول في لعبة التوازنات الإقليمية والصراعات في منطقة القرن الإفريقي لأنهم أرادوا الوصول أولاً إلى آخر نقطة في مسار مفاوضات سد النهضة، واضعين خيار التصعيد كآخر ورقة يمكن اللجوء إليها. وهذا يتضح من خطوة التعاون العسكري المصري الصومالي، التي تأتي بعد 9 أشهر من إبرام إثيوبيا اتفاقًا لتأمين الوصول إلى البحر الأحمر من خلال منفذ ساحلي عبر أرض الصومال لمدة 50 عامًا. قبل ذلك، وبسنوات عديدة، اعتبرت إثيوبيا السيطرة على الصومال أمرًا ضروريًا لأمنها. أطاح الجنود الإثيوبيون بالحكومة الإسلامية في مقديشو عام 2006 وقاتلوا المتمردين الإسلاميين في جنوب الصومال، وهو ما يكشف أن طموحاتهم أبعد بكثير من مجرد استئجار ميناء بحري.

من منظور إثيوبي، فإنَّ احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة تظل ضعيفة رغم التحذيرات التي أطلقتها أديس أبابا بعد الإعلان عن ميلاد اتفاقية التعاون العسكري بين مصر والصومال. السبب الأول هو أن توسيع الصراع في منطقة القرن الإفريقي سيعيد تصفية الحسابات الداخلية، وسيكون فرصة لمليشيا "فانو" الإثيوبية في إقليم أمهرة لتتغذى منه وتتنصل من اتفاق بريتوريا الهش، وقد تتقاطع مصالحها مع جبهة تحرير شعب تيغراي وتتحالف معها في مواجهة القوات الحكومية إذا وجدت دعمًا من الأطراف الإقليمية، مما سيضعف نظام آبي أحمد.

إقرأ أيضاً: إعادة الإعمار.. الهاجس التالي لما بعد حرب غزة

السبب الثاني هو أن خيار التصعيد في الصومال قد يؤثر على العلاقة مع تركيا، الفاعلة أيضاً في المنطقة، والتي تمتلك أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج في مقديشو. تصنف تركيا بأنها ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا، مما يعني أن بإمكانها أن تمارس ضغطًا اقتصاديًا على إثيوبيا للعدول عن فكرة المساس بسيادة الصومال. قد تتخلى إثيوبيا عن فكرة استغلال ميناء في أرض الصومال وتعوضه بالمقترح الجيبوتي تفاديًا لصدام لا يخدمها.

من منظور مصري، التحركات الأخيرة في الصومال تفرضها ضرورة الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في سواحل البحر الأحمر في سياق منافسة إقليمية شديدة في منطقة القرن الإفريقي. وفي الوقت ذاته، هذه الورقة الرابحة لقطع الطريق أمام النفوذ الإثيوبي في هذه المنطقة الاستراتيجية تعزز من حاجة إثيوبيا إلى التفاوض بما يضمن الاستجابة لمطالب المصريين المشروعة بشكل سلمي. لكن إذا استمر التعنت الإثيوبي، فقد لا تجدي الخيارات المتاحة نفعًا، وقد تضطر مصر إلى اللجوء لأسوأ السيناريوهات. ربما يشكل احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي يتفهم الخطورة التي قد تملي ردة الفعل المصرية، عنصرًا قد يضبط إيقاع هذا التوقيت ويدفع أديس أبابا إلى اتخاذ سلوك أكثر حكمة قبل فوات الأوان.

إقرأ أيضاً: طريق أردوغان الى دمشق سالك ولكن!

الصين، التي تمر 60 بالمئة من صادراتها نحو أوروبا عبر البحر الأحمر، باعتبارها أكبر شريك تجاري وأكبر مصدر للاستثمار لإثيوبيا، ترى اليوم أن مصالحها الاقتصادية عرضة لأزمات المنطقة. الصين تتابع عن كثب ما يجري وتفهم خطورة ما قد تؤول إليه الأوضاع في حال لم يتم احتواء الصراع. لذلك، من المرجح أن تحرك دبلوماسيتها لخدمة استقرار يحمي مصالحها ونفوذها في منطقة القرن الإفريقي. من غير المستبعد أن تتحرك الصين لاحتواء الوضع وتقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا من جهة، والصومال وإثيوبيا من جهة أخرى، تفادياً لأي أزمة قد تتفاقم مخاطرها إذا لم يتم احتواؤها.