العقل هو عضو صغير نسبياً في جسم الإنسان، لا يتعدى وزنه 1.3 إلى 1.5 كيلوغرام، أودعه الخالق عند كل إنسان دون تمييز، ليكون مصدر إبداعه وأساس تطوره، به تُبنى الحضارات وتُطوَّر المجتمعات. لكن، وكما يبدو، فإن بعض الأنظمة قررت تسخير هذا العضو لشيء آخر، لا يفهمهُ إلا الراسخون في السلطة.

في عراق ثمانينيَّات القرن الماضي، إبّان سيطرة نظام البعث وصدامهم، برزت صناعة فريدة من نوعها، لم تكن تحتاج إلى معامل أو خطوط إنتاج، ولم تُبنى بأموال طائلة، بل كانت صناعة فكرية ومعنوية، استهدفت عقول العراقيين بغرض حرفها وتوجيهها وتوحيدها نحو مسار واحد مرسوم مسبقاً.

بدأت بجعلنا نكاد لا نرى طفلاً في أزقة ودرابين المنطقة لا يرتدي بيجامة "البازه" كملابس موحدة، لا تمييز فيها بين ابن العائلة الفقيرة وابن العائلة المتوسطة، فالجميع يرتدون البازة، وكأنها زي رسمي للشعب، يُخفي وراءه أفكاراً غامضة كأنها حزورة "والي حلب".

ليس هذا فحسب، فحتى الطعام كان مُوحداً، حيث كانت "الحصة التموينية" لا تغادر مطبخ أي بيت، والتي بالرغم من أنها ضرورة للبقاء على قيد الحياة في زمن الحروب والأزمات، إلا أنها حولت وجبات العراقيين إلى قائمة مكررة يومياً. رغيف الخبز الواحد الذي لم يخلُ من برادة الحديد كان عنصراً رئيسياً على موائد العراقيين، وبات الحديد جزءاً لا يتجزأ من غذائهم، وكأنما يهدف النظام إلى قولبة الشعب ليصبح "شعباً من حديد" صامداً لكن بلا طعم ولا تنوع.

ثم تأتي "سهرة الشعب"، تلك الفقرة اليومية الثابتة التي تُبث بعد ساعات من المدح والتمجيد للقائد الضرورة، حيث تتكرر الأفلام نفسها، والبطلة هي نفسها، وكذلك البطل نفسه، وكأن هناك قانوناً ضمنياً يمنع المشاهد من التفكير في حبكة أخرى أو مناقشة مشاعر مختلفة.

إقرأ أيضاً: شهداء على طريق الحق

أما من يتجرأ على التفكير خارج هذا الصندوق أو يحاول الهروب من "مجتمع البازة"، فهو معرض للتهديد بالمطاردة والملاحقة، لينتهي به الحال بأن يرتدي الحبل في عنقه لا البازة، ويجد نفسه معلقاً على أعمدة المشنقة.

هكذا حاول صدام جعل المجتمع كقطيع يرتدي "البازه"، ويأكل الحديد، ويتابع البطل الذي يُمجد القائد، بلا فكر أو اختلاف في الآراء، أما الحرية فقد كانت نسيّاً منسيّاً.

إقرأ أيضاً: القوة بين الصراخ والتأثير

إن كل هذا "التنميط" كان له تأثير واضح، حتى بعد سقوط الدكتاتور وانقضاء زمنه المظلم، حيث لا زلنا نجد العديد من المتأثرين بالزمن "الأسود" يشغلون مناصب داخل الحكومة الحالية، ويشاركوننا العديد من الوظائف والأعمال.

إن الطبقة التي عايشت النظام السابق، هي بطريقة ما، لها دور في عرقلة تقدم المجتمع الحالي، الذي لن يتغير حتى يتم الاعتماد على الجيل الشبابي الذي وُلد في أحضان الديمقراطية، ليستطيع أن يفكر خارج الصندوق، أو المزج بين قوة الشباب وفكر بعض الشيبة، ليعملوا على بناء الهوية العراقية بشكل صحيح، بعيداً عن التعصب والدكتاتورية.