يظلّ الإنسان فخوراً مزهوّاً بنفسه، يعجبه أن يلفت الانتباه بأي شكل وبأي طريقة ليجعل من نفسه ومن شؤونه موضوعاً للحديث المتداول بين الناس، وليغدو بطلاً للحكايات والوشوشات والهمسات، التي تنطلق كأسراب من الطيور المُحلِّقة بين أقوام البشر تنثر عليهم الحكايات، كما تنثر ريشاً، فيتلقفها الناس الباحثون عن كلّ جديد وغريب لكي يكسروا روتين حياتهم الراكدة والكسولة والمكرّرة التي ضاقوا بها ذرعاً وتبرّموا منها.

من الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحقيق هذه الرغبات هو اقتناء سلع تحمل علامات تجارية شهيرة، أو ما يُسمّى بالماركات، أو البراندات التي ذاع صيتها وبلغ الآفاق. والماركة هي عبارة عن مفهوم من مفاهيم التسويق الشائعة بين الناس في عالم السوق والتسوّق. فكما لنا نحن الأفراد هوية، أو عدة هويات، فللسلع سواء كانت بضائع أو خدمات هوية أيضاً، وهذه الهوية هي التي تميّز السلعة عن غيرها من السلع الأخرى في السوق. وقد تكون هذه الماركة عبارة عن اسم، أو رمز، أو تصميم، أو شعار يساعد المستهلكين على التعرّف على السلع والتمييز بينها. وبالطبع فإنّ هذا الاسم أو الشعار الذي يشير للماركة لن يبقى مجرد اسم أو شعارٍ خاوٍ من أيّ قيمة، بل سيتم إنتاجه لكي ينطوي على القيم التي تعبّر بها شركة معيّنة عن نفسها ليشمل كذلك الشخصية المعنوية لهذه الشركة، وسمعتها، والوعود التي تمنحها للمستهلكين، وخبرات المستهلكين معها. فالماركة ليست السلعة نفسها، وإنما هي التصوّر العامّ لجمهور المستهلكين وانطباعاتهم عن شركة معيّنة.

الهدف من خلق الماركة هو التعريف، أي مساعدة المستهلك على التعرف على السلعة، وعلى بناء جسور من الثقة بينه وبين السلعة، وجعله وفياً تجاه هذه السلعة، وحثه على شرائها وإعادة شرائها مرة بعد مرة. ولذلك فإن الماركة تحمل بين طياتها خصائص عاطفية لها القدرة على التأثير على خيارات المستهلكين، وذلك عبر تمرير رسائل محددة لجمهور المستهلكين بأن هذه الماركة هي الأجود والأفضل في مجالها مقارنة بالماركات الأخرى. ولذلك فإن الشركة المنشئة للماركة تحاول خلق هوية مميزة ومختلفة عن بقية الهويات، وذلك عن طريق التصميم الفخم للسلعة، واستخدام الوسوم الباذخة، والتغليف الأنيق والمبهر، واستخدام تدرّج فريد للألوان، وكذلك إدخال المؤثرات البصرية والسمعية.

يفضّل معظم المستهلكين عادة شراء سلع تكون بضائع أو خدمات تحمل ماركات معروفة وشهيرة لعدة أسباب، منها أن المستهلكين يفترضون أن هذه الماركات تمتلك مصداقية، وأنهم يمكنهم الوثوق بها والاعتماد عليها. وقد حصل هذا لأن هذه الماركات قد تمكنت عبر أعوام كثيرة من تأسيس سمعة طيبة. وهكذا أصبحت هذه الماركات رمزاً للجودة والصلابة والدقة، مما يقلل من تخوّف المستهلكين من عملية الشراء. وبالإضافة لذلك فإنّ معظم المستهلكين ينجذبون نحو شراء السلع التي يألفونها والمعلومة لديهم، عوضاً عن السلع الجديدة التي لم يعرفوها من قبل، والتي قد يسبب شراؤها قلقاً وإرباكاً لهم.

ومما لا يعرفه الكثير من الناس أن اقتناء السلع التي تحمل ماركات ذائعة الصيت قد يكون طريقة من الطرق التي يلجأ لها الكثير من الأفراد لتعزيز الثقة بالنفس، لأنهم يظنون أن حيازتهم لهذه الماركات قد يغدق عليهم مزايا إيجابية مثل الانتماء للطبقة البرجوازية، أو امتلاك حياة مهنية ناجحة، أو التمتع بحياة باذخة ومرفّهة. فالهيبة المرتبطة بهذه الماركات المترفة قد تساهم أيضاً بإضفاء مشاعر الثقة والإنجاز على من يقتنيها. وبالإضافة لذلك فإنّ الكثير من الناس يجد متعة بالغة في استعراض البضائع التي تحمل ماركات معروفة للحصول على مشاعر مجزية عاطفياً، مثل تعزيز الثقة بالنفس، وردم شعورهم بالدونية، وتعويض الشعور بالنقص الذي يعانون منه، عندما يقارنون أنفسهم بالآخرين المحيطين بهم.

إن هذه المشاعر التي يتحصل عليها هؤلاء المستهلكون لهذه الماركات المترفة تمنحهم وهماً مؤقتاً، وتجعلهم يحلقون في عالم من الخيال المترف. فهذه الخيالات التي تجعلهم لوهلة من الزمن قادرين على الهروب من واقع لا يحبونه وينكرونه ليصدقوا لهنيهة أنهم ينتمون بالفعل لطبقة اجتماعية أعلى من الطبقة التي ينتمون لها أصلاً، وهذا الوهم المزركش الملوّن الذي يعمل على خلق صورة ذاتية زاهية وأنيقة لا يلبث أن ينطفئ بعد فترة وجيزة. فهذه المشاعر المؤقتة من السعادة النفسية، والانتماء لطبقات المجتمع العليا من نجوم الفن والرياضة أو رجال الأعمال لا شك أنها ستضمحل وتتلاشى بعد زمن. ولذلك فإن هذا الاقتناء لهذه الماركات لا يصلح أن يكون علاجاً ناجعاً للأمراض النفسية المختبئة مثل ضعف الثقة بالنفس، واهتزاز صورة الذات، والشعور بالخزي من الانتماء لطبقة اجتماعية معيّنة، أو الشعور بالعار من العيش في بيئة أو منطقة معينة.

ومن الأمور الأخرى التي تجعل الناس يبحثون عن الماركات عند شرائهم للسلع هو أن الإنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي ينشد الانتماء لمجاميع بشرية تحمل قيماً وطرق عيش معينة يكون هو معجباً بها، أو مدافعاً عنها. وهذه المجاميع البشرية قد تكون جامعة يدرس فيها، أو حزباً ينتمي له، أو نادياً يمارس فيه هواياته. فالماركة تمنحه هذا الشعور بالانتماء لهوية تعجبه ويهواها.

واليوم جاءت الصين لتكسر أسطورة ما يُسمّى بالماركات العالمية، بعدما شاهدنا عشرات الأشرطة المصوّرة على تطبيق "تكتوك" الشهير لأصحاب مصانع وتجار صينيين يؤكدون أن معظم الماركات العالمية الشهيرة للملابس والحلي والأحذية والحقائب لا تُصنع إلا في الصين أساساً، وذلك لرخص المواد الخام، ورخص الأيدي العاملة كذلك. ويؤكد هؤلاء المصنّعون لهذه السلع أن ثمنها بمتناول معظم الناس، وإن هذه السلع تُوَرّد بعد ذلك من المصانع الصينية إلى شركات في دول أخرى، في أوروبا وأميركا وكندا، لتُوسم بماركة الشركة المستورِدة، وتُختم بأختامها وشعارها، ثم تُغلف بأغلفة باذخة وأنيقة تعكس فخامة الماركة ليُقبل الناس على شرائها طمعاً بهذه الماركة التي يعلمون جودتها ورقيها، ولكنهم لا يعلمون شيئاً عن ولادتها ونشأتها. فالماركة الفخمة تخطف أعين المستهلكين وتبهرهم بهذا الضوء المترف الطاغي، وتخدّرهم بهذا الاسم الذي يسافر بهم إلى عالم أخّاذ من الترف والغموض والمشاهير والنجوم. وبالتالي فإن هذه السلعة التي تمنح المستهلك هذا الخيال الملوّن، وتعطيه الأمان بأنه في أيادٍ موثوقة، سيكون ثمنها أكبر بأضعاف مضاعفة من ثمنها الحقيقي، وهو سعر كلفتها الأصلية.

هذه الأشرطة المصوّرة على تطبيق "تيك توك" جاءت كصدمة غير متوقعة لملايين المستهلكين للماركات العالمية الشهيرة، الذين أنفقوا مئات أو آلاف الدولارات على سلع لا يتجاوز ثمنها الحقيقي إلا خمسين، أو عشرين دولاراً على أكثر تقدير، وربما أقل من ذلك. وقد جعلت هذه الحملة التي شنّها أصحاب المصانع الصينية على شركات الماركات الأوروبية والأميركية المستهلكين يشكّكون في خياراتهم، ويرتابون في الثقة التي منحوها لهذه الماركات التي خدعتهم بأن باعتهم سلعاً صُنعت في الصين مقابل أثمان أكبر من الكلفة الحقيقية لها بأضعاف مضاعفة.

الحملة التي شنّها أصحاب المصانع الصينية كشفت الأوراق وأظهرت لجمهور عشاق الماركات العالمية أنه ليس من المهم أبداً أن تنتقي سلعة مختومة بماركة مشهورة، وأنت لا تعلم شيئاً عن منشئها ومصدرها وتصنيعها، لأجل أن تتباهى بأموالك وثرائك، ولكن الأهم هو أن تنتقي سلعة أنت تثق بجودتها، ليس من خلال الماركة المختومة عليها، وإنما من خلال رصانة المواد الخام التي تدخل في صناعتها، ودقة تصميمها، وبراعة صنعها.