بوذا وشبنهور:
كتب الأستاذ: منصور النقيدان هنا في إيلاف، مقالة مثيرة في فكرتها، سأضيف هنا على الطرف المتعلق بإعادة الاعتبار للحضارات الشرقية عامةً وللحضارة الصينية بشكل خاص؛ تلك الدعوة التي يعود ندرة من نادى بها عربياً إلى انهمام جماعي- له مبرراته الحقيقية- بالحضارة الغربية وبكل تفريعاتها، غير أننا وعبر استعراض سريع لقياس التأثير الذي صبغته النزعة الروحية الشرقية على بعض سياقات الفلسفة الغربية نعثر على تلاقح فكري غنيّ لم يكتب له الاستمرار والترويج، فصدى البوذية حضر مثلاً في كتابات الفيلسوف الألماني quot;شبنهورquot; خاصة في الشق الخلاصي، والانزواء نحو التفكير الخالص زد على ذلك أن تشاؤم شبنهور الفلسفي فيه إلحاح على quot;الفناء الكلي من لوازم الحياة كطريق نحو إيقاف سلسلة التوالدquot; تلك الفكرة هي نفسها مرحلة quot;النرفاناquot; التي وضعها quot;بوذاquot; قديماً كوصية ثامنة ضمن وصاياه المعروفة بـquot;الوصايا الأخلاقيةquot;.

زرادشت فارس، وزرادشت نيتشه:
حضر طيف فارس في توظيف نيتشه لاسم quot;زرادشتquot; حيث أطلق نيتشه اسم quot;زرادشتquot; على الناطق بأفكاره التي يريد أن يصنع من خلالها quot;الإنسان الأعلىquot; وفعلاً ndash;كما يقول هيدغر- فقط جسّد نيتشه عبر زرادشت طريقة تعبير عُليا لأفكاره عن الإنسان الأعلى، وفي مقولة أخرى رأى هيدغر أن quot;زرادشت نيتشه هو المبشر بالعود الأبدي، والإنسان الأعلىquot; زرادشت الفارسي (560 ق.م) لا علاقة له بزرادشت نيتشه، فالأول أسس ديانة توحيدية ذات ثنائية واضحة وهي ديانة quot;أهورا مزاد (الإله الأعظم) ويطلق عليها أحياناً quot;المزدكيةquot; بينما نطق زرادشت نيتشه بأفكار مختلفة ذات صبغة إلحادية صارمة ساهمت في التأثير على مسار التفكير الفلسفي وأدخلت الإنسان المفكر في مرحلة أخرى، وتفجرت فلسفة نيتشه عن مدارس شتى وساهمت في التأثير على مختلف فنون الحياة فنيتشه فيلسوف quot;حياةquot; حاول أن يغير جذور طريقة تفكير الإنسان منذ أن وجد. وسنجد غير نيتشه وغير شبنهور الكثير من الفلاسفة الذين جذروا من علاقتهم بكافة الحضارات. ألم يدرس كلود ليفي ستراوس quot;الأساطيرquot; بأسفارٍ هي الأضخم، ويتغزّل بالبرازيل بعد زيارته لها وقد بهرته بأساطيرها وألوانها وطفرتها الأسطورية، قام كلود ليفي ستراوس بتعريف الأسطورة بقوله: (هي قصر أيديولوجي مبنيّ بحطام خطاب اجتماعي قديم).

نيتشه ضد البوذية:
غير أن الجديد لدى نيتشه يكمن تحديداً في ربطه بين quot;الفلسفة المثاليةquot; وبين quot;الأخلاق المسيحيةquot; وهو الانتقاد الأشد حدة حينما وصل بين فلسفات تأسيسية حديثة وبين جذورها المسيحية، كما جعل من quot;زرادشتquot; -الذي يُنشد وصاياه على رأس الغابة- quot;الناطق من رحم الطبيعةquot; لذا كان بجواره quot;النسرquot; و quot;الثعبانquot;، لم تكن علاقة نيتشه وثيقة بالحضارات الدينية، لكنه كان على ارتباط بالجزء المطمور من الحضارات، من هنا ارتبط اسمه quot;بالتفكيكquot; لأنه زحزح المراكز على حساب الأطراف، هذا مع هجومه المستمرّ على quot;البوذيةquot; وذلك لتأسيسها للضعف والاستسلام فالبوذية تناقض فلسفة القوة التي يؤسس لها نيتشه، في المقابل أثنى نيتشه- في الصفحات الأخيرة من كتابه quot;عدو المسيحquot;- على quot;الإسلامquot; وذلك لتأسيس الإسلام لمبدأ القوة عبر تشريع quot;القتالquot; وهاجم المسيحية التي رأى فيها تأسيسات نظرية للتطبيع الديني مع quot;الضعفquot;. يأتي امتداح نيتشه للإسلام-ربما- نكاية بالمسيحية، وإلا فنيتشه في الأغلب الأعم يردد النص الأبرز في نقده لكل الأديان قائلاً:quot;إن الديانات التي سادت سيادة تامة حتى اليوم قد أسهمت إسهاماً واسعاً في إبقاء النموذج الإنساني على مستوى سافلquot; وفي مكانٍ آخر اتهم نيتشه المسيحية الغربية بـquot;المسؤولية عن بناء المجتمع الصناعي الحديث بمساعدة البرجوازية الصاعدةquot;.


يمكن أيضاً أن ننظر إلى quot;الثقافات الشرقيةquot; على أنها حضارات ذات بعد quot;سكونيquot; ليس من ضمن استراتيجيتها quot;التوسعquot; أو quot;التبشيرquot;-كما في المسيحية- أو quot;الدعوةquot;-كما في الإسلام- بل هي ذات مدد روحي، فهي ذات تعاليم مرتوية روحياً، وهو ما ميّز الحضارة الشرقية حيناً من الدهر أنها حضارة quot;قلقةquot; تسكن الأسئلة وتألفها، ولا تحاول الخروج منها، على خلاف النموذج الغربي الذي يكسّر الأسئلة تكسيراً، ليصنع إجابات هي بدورها تفرز أسئلة أخرى، في الغرب مكمن quot;النشاطquot; هذا هو الأساس، كما أن طبيعة التفكير الشرقي يمكن رصد ملامحه عبر بعض النماذج.

في الهند، انشقاق البوذية عن الفيدا:
إذا كانت بدايات الفلسفة في الهند تاريخياً تعود إلى quot;الفيداquot; القديمة جداً، ووفق كتب التاريخ فإن أقدم خطّ وجد لها يعود إلى (1500 ق.م) برزت وهي تؤسس للعبادة الذاتية، وقد أسس quot;الكاهنquot; أدبيات تربط بين العلم الديني والعلم الأسطوري، وحتى نهاية العصر quot;الفيديquot; لم يشهد التاريخ الفكري تلك الفترة أيّ شخصيات أو مدارس، إلى أن تخلّصت الفلسفة شيئاً فشيئاً من سلطة quot;البرهْمانquot; =الكهنة، حينها تغلغلت وسط الطبقات الشعبية وبشكلٍ يشبه ما سيحدث في أوربا بعد فترة طويلة، الانشقاق عن التفكير quot;الفيديquot; وانقسم الناس بين من يرى في quot;تعاليم الفيداتquot; القداسة وبأن المكتوب هو من النصوص الموحى بها، وبين من يرى فيها سلطة ليست وحيدة، وسميت الأولى بـquot;الصراتيةquot; والثانية quot;بغير الصراتيةquot; ويدخل في الأنظمة غير الصراتية quot;البوذية، واليانِسْماويةquot; كأنظمة لا تعترف بسلطة الفيدا المطلقة وإنما الجزئية.
سيكون هذا الانشقاق مهماً في التميهد البطيء لقبول نسبي ستتمتع به الفلسفة في الهند لقبول الأفكار الغربية، وهو ما حث بالفعل، إذن كان في الهند quot;حضارةquot; ذات حركة طبيعية، تذكرنا بالحتمية التاريخية، على قاعدة quot;انجلزquot; الشهيرة: quot;يشق التطور طريقه في آخر المطاف طريقاً لنفسه رغم الأعراض الظاهرة والخطوات المؤقتة إلى الوراءquot;، والهند الآن هي أكبر مستودع ديانات ولغات في العالم برغم الإهمال التاريخي لكل ذلك الغنى الفكري والعقدي ولكل مناطق الغنى الوثني.

في الصين، تطوير الكونفيشوسية بالين-يانغ:
في الصين-التي تطرق لها صديقي منصور- حركة فكرية خفيّة، وكانت فرحتي كبيرة بإعلان قناة الجزيرة في العام الماضي تخصيص أيام من quot;الصينquot; لكنني صدمت باهتمامهم السطحي في أمور شكلية وعادات لن تروي غليل المتعطش، كل شيء عربي بعيد-حتى الآن- عن الصين، في الصين تحركت الفلسفة على أشدها وأصبح النص quot;الكونفشيوسيquot; أحد النصوص التي تفرعت عن نظريات أثّرت على quot;الواقعquot; الصيني، كما هي التعاليم والتأسياسات في الدولة والأخلاق، كتابات-ظاهرها الحكمة والتعاليم- وباطنها التأسيس لرؤى كونية، كما هي نظرية (ين-يانغ) وهي النظرية التي quot;استعانتquot; بالكونفشيوسية وبالطاوية من أجل بناء نظرية كونية أوسع وذلك وفق عملية حسابية وشكلية ليس هذا موضع بسطها. ليست الكونفشيوسية وحدها-بل حتى الطاوية- الأدبيات التي تستند إلى كتاب لتاتو كينغ القرن الخمس (ق.م) أسست للأخلاق ولطريقة الحياة quot;الفرديةquot;.

استطراد ضروري:
إننا لا نقول أن الطاوية أو البوذية أو الكونفوشيوسية تؤسس لتنوير كبير كما قد يتوهم البعض، بل كانت تأسيساتها مثل كأي تأسيس يطمح إلى رسم خط محافظ، وكونفوشيوس (479 ق.م) كانت تعاليمه ذات ترتيب سلالي لمرويات أقدم عهداً أما مضمون عقيدته فهو قبل أي شيء آخر تأمين فلسفة أخلاقية وسياسية محافظة. لكن الذي يمكن الاستفادة منه من ذلك العرض هو تفتق تلك العقائد عن خطوط فكرية أخرى انشقاقية استطاعت أن تنحّي السلطات العقائدية من التحكم بالفرد والحياة، كما استطاعوا أن يخرجوا عن quot;الفهم القديمquot; وأن يكتبوا تفاسير ذات صبغة انشقاقية وتحررية وتنويرية للتفسير الرئيسي، كما هو الحال في الأنظمة الغير صراتية ومنها البوذية وفي الطاوية أيضاً التي وجد من ضمن معتنقيها من اهتم بفلسفة اللغة والمحاججة بالمنطق.


أوربا ليست وحدها في انشقاقها quot;الفكريquot; عن التعاليم السكولائية، وquot;الدينيquot; عن الكنيسة، وquot;السياسيquot; عن استبداد الحاكم الفرد، في الشرق أيضاً صنعت quot;انشقاقاتquot; هادئة مرت بهدوء وسلام وجددت من نفسها وفكرها. لقد استطاعت العقائد الشرقية رسم سير انشقاقية عن التفاسير السائدة، في تاريخ الإسلام كل المحاولات التطويرية فشلت وأخفقت، وحتى القرن التاسع عشر ارتدّت محاولات التنوير إلى مستنقعات فكرية تغذي فطريات العنف والإرهاب الديني.


فهد الشقيران
كاتب سعودي.
[email protected]