ينقسم السلوك البشري في العلاقة مع الله تعالى إلى قسمين رئيسيين هما الإيمان والكفر، وتتفرع على هذين القسمين عناوين عديدة ومسميات لا حصرلها، فالمؤمنون لهم إعتقاداتهم التي يعرفون بها وما يفرضه عليهم واقع الزمان والمكان وتشعب أفكارهم وكذلك الكفار لهم نصيب من هذا التشعب الذي يضفي إليهم مسميات مختلفة حسب الطريقة التي يتبعها كل فريق منهم فهناك من ينكر وجود الله تعالى. وهناك من لا ينكر هذا الوجود إلا إنه يجحده مع الإستيقان، كما قال تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) النمل 14. وهذا النوع يسلك طريق الظلم والعلو قباله تعالى مع علمه بحقائق الأمور، ثم أن المؤمنين حسب توجههم إليه تعالى لا يمكنهم أن يخرجوا من ذلك التوجه دون إختبار وتمحيص فليست العملية ترفاً علمياً وليست هي باللعب الديني وإنما فتنة مقرونة بهوى النفس وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد وما إلى ذلك من المغريات التي تكون قد وضعت في طريق الإيمان، لأن ما ينتظر الإنسان من حياة أبدية لا يمكن الحصول عليه بالأماني فلابد من الإختبار والفتنة كما قال تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) العنكبوت 2. إذاً الفتنة تلاحق الإنسان في جميع توجهاته، فإذا إجتاز هذا الإختبار العسير فإنه يلمس النتائج الإيجابية في هذه الحياة وقبل أن ينتقل إلى الدار الآخرة كما قال تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً *** ويرزقه من حيث لا يحتسب ) الطلاق 2 - 3. والقصص القرآنية تذكرنا بهذا الواقع وكيف أن الله تعالى ينصر عباده المخلصين ويمدهم بأسباب النجاة وعند سرد القرآن الكريم للقصة فإنه لا يشير إلى زمانها أو مكانها أو حتى أشخاصها وذلك لأن العبرة ليست بالزمان أو المكان أو الأشخاص المشار إليهم فيها وإنما موضوع القصة هو السبب في عرضها، وأحياناً يكون الأنبياء هم الموضوع نفسه لذلك يشير إلى أسمائهم، علماً إن ذكر الأنبياء لا يتعدى الإسم الأول لكل منهم إلا عيسى ( عليه السلام ) فإن القرآن ينسبه في أغلب القصص إلى أمه ليلفت الأنظار إلى أن عيسى هو إبن مريم ولم يأتي عن طريق الأب لإزالة الإبهام والإختلاف الذي حدث بسبب مولده ( عليه السلام ) لأن هذا الإختلاف ليس وليد زمن بعينه أو حدث عابر. وما قصة أصحاب الكهف والرقيم إلا واحدة من القصص القرآنية التي تغاضى القرآن عن ذكر أسماء أبطالها، وزمان الحدث ومكانه، وما ذكره المفسرون من أسماء أصحاب الكهف فهذا لا يعول عليه ولا يوجد دليل لذلك إلا في الكتب القديمة التي لا يمكن إثبات صحتها وإذا ثبت صحة ذلك فليس فيه كثير فائدة، وإنما الفائدة في جعل هؤلاء الفتية قدوة لكل من يريد أن يواجه الطغاة والظلم وبمختلف الطرق التي يعتقد أنها الحل لإعلان المواجهة التي تحدث التغيير، وهذه المواجهة لابد أن تكون مبنية على أسس سليمة يقرها الشارع. ولا يمكن للمؤمن الذي يريد أن يحدث التغيير أن يسير بنفس الإتجاه الذي كان عليه الطغاة حين حصول ذلك التغيير كما هو حاصل اليوم في العراق، فإن الأحزاب التي نظمت في العقود السابقة وكان يعتقد منظموها أن عملهم هذا مطابق لما يرتضيه الله تعالى ولكن ما إن حدث التغيير حتى أصبح الحزب الذي ناضل وتسبب في إزهاق الكثير من أرواح أبناء العراق أصبح يسير بنفس النهج الذي كان عليه الطغاة. وبالعودة إلى مواجهة الطغاة.
فإن المواجهة إذا كانت متكافئة بالعدة والعدد فليس هنالك مبرر لترك البلد الذي فيه الظلم والجور وإنما يواجه ذلك الظالم بنفس الطريقة التي جعلها أداة لظلمه أما إذا كان المتسلط على رقاب الناس ذو قوة جبارة فلا يمكن أن يواجه بالطرق التقليدية ففي هذه الحالة لا بد من الحل الفطري الذي يرتضيه الشارع والمتمثل بترك البلد والإتجاه إلى أرض أخرى وبخلاف ذلك فإن الإنسان الغابر هو الذي يتحمل عاقبة عدم تركه البلد. والله تعالى يقول : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأؤلئك مأواهم جهنم وسائت مصيراً ) النساء 97. ولذلك فإن القرآن الكريم أعطانا درساً مهماً في قصة أصحاب الكهف حيث قال تعالى : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) الكهف 9 ثم ذكر تعالى بأنه زادهم هدىً بعد إيمانهم وهذا من أعظم النعم التي ينعم بها تعالى على عباده، ثم جاءت المرحلة الثانية وهي الربط لأن الربط على القلب هو السلاح الأكبر الذي يجعل المؤمن في حصن حصين كما قال تعالى في أم موسى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ) القصص 10. لذلك فإن أصحاب الكهف كان توجههم بعد مرحلة الربط بكل قوة وبدون شطط إليه تعالى ومن ثم فإنهم نبذوا حياة الرفاهية التي يعيشونها ثم إعتزلوا إلى الكهف وكانوا على يقين من أن الله تعالى سوف يهييء لهم من أمرهم رشداً. هذا هو الكهف الذي يتلى ويتعبد به وبأصحابه وكلبهم في آيات بينات إلى أن تقوم الساعة لأجل أن يكون مثالاً صادقاً لكل من يرغب في إعتزال الظلم وأهله ومحاربة الباطل ونبذ الفتن لأن الإنسان مع ضعفه إذا إجتاز تلك المراحل التي مر بها أصحاب الكهف فإن الله تعالى يمده بالقوة التي تكون كالنتيجة والمحصلة لما قام به في مواجهة الظالم المتسلط. وهنالك إعتزال من نوع آخر وهو إعتزال رفاق السوء، وكل ما من شأنه أن يبعد الإنسان عن الصراط المستقيم، لذلك جعل الله تعالى هؤلاء الفتية قدوة لكل مخلص ومؤمن ومهاجر بدينه ومعتزل عن الشر والأشرار. وعندما يتطرق أحد إلى قصة أصحاب الكهف فلا بد أن يوجه إليه السؤال التقليدي الذي تتناقله ألسنة الناس وهو : كم عدد أصحاب الكهف ؟.. وهنا أقول إن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم وقد خاض في هذا كبار المفسرين واستخرجوا العدد بطرق مختلفة وفي هذا يقول الزمخشري في الكشاف : عن قوله تعالى : ( ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) يقول فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولين ؟ قلت هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك [ جاءني رجل ومعه آخر ] و [ مررت بزيد وفي يده سيف ] ومنه قوله تعالى : ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) الحجر4. وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على إتصافه بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم والدليل عليه إن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله ( رجماً بالغيب ) وأتبع القول الثالث قوله ( ما يعلمهم إلا قليل ). إنتهى كلام الزمخشري رحمه الله. أما الطباطبائي في الميزان : فيذهب إلى أن عددهم سبعة أو أكثر ولكنه يؤكد ذلك بطريقة أخرى يقول رحمه الله : والظاهر أن القائلين ( ربكم أعلم بما لبثتم ) غير القائلين ( لبثنا يوماً أو بعض يوم ) فإن السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانياً غير المتكلمين أولاً ولو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال [ ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا ] بدل قوله ( ربكم أعلم ) الخ ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم ( قال ) مرة و ( قالوا ) مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم عن سبعة. إنتهى كلامه رحمه الله. أقول : لا يمكن أن يكون العدد أكثر من سبعة كما إحتمل الطباطبائي وذلك لأن هذا العدد كان آخر الإحتمالات في الآية 22. إلا أن الطباطبائي إستشف هذا الإحتمال من قوله ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) لكن هذا لا يعني أن العدد يحتمل الزيادة أو إنه مبهم لأنه تعالى عقب بنفس الطريقة بعد قوله : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً ) الكهف 25. عقب بقوله ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض... الآية ) الكهف 26. علماً إن مدة اللبث معلومة فتأمل ذلك. لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض فليس ثمة إختلاف كما قال تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً ) النساء 82. فإن قيل :
عنوان المقال : الكهف.. قصة لها تكرار. هل يعني هذا أن القصة تكررت في القرآن الكريم ؟ أقول : لم تكرر القصة في القرآن الكريم إلا أنها تكرر في واقع الحياة فكل يوم هنالك كهف وكل كهف له أصحاب.

عبدالله بدر إسكندر المالكي