د. شاكر النابلسي
&

&
&-I-
أكدت مصادر مصرية مقربة من الأزهر أن الفتوى حول تحريم التعامل مع مجلس الحكم الانتقالي العراقي قد أعدت بناء علي تكليف من لجنة الفتوى في الأزهر، وهي تحمل ختم اللجنة المذكورة تأكيداً لصحتها. فقد حرّمت فتوى أصدرها الأزهر التعامل مع مجلس الحكم الانتقالي العراقي. ووصفت الفتوى التي أعدها نبوي محمد العش عضو لجنة الفتوى بالأزهر المجلس، بأنه "فاقد للشرعية الدينية والدنيوية".
وقالت الفتوى "ان مجلس الحكم في العراق فاقد للشرعية الدينية والدنيوية لأنه قام علي نقيض مبدأ الشورى، ولأنه فُرض على العراقيين بقوة الاحتلال ليكون موالياً لأعداء الله". وقالت الفتوى ان "كل دولة أيدت هذا المجلس أو تعاملت معه سواء أكانت عربية أم اسلامية، فلينبهها اخوانها حتى تعود الي شرع الله وحظيرة اجماع المسلمين في هذه الحياة، فإن استجابت حسب ذلك لها، وان لم تستجب فلا يجوز التعاون معها حتى تعود لصوابها". وأكدت ان تعامل أي دولة أو جهة مع هذا المجلس هو تعاون مباشر مع أعداء الاسلام، وهو مما لا يجوز بحال من الأحوال. وقالت ان كل الدول التي لم تعترف بمجلس الحكم العراقي الحالي قد أصابت شرع الله جل جلاله ووافقت سنته في كونه". وأكدت الفتوى علي اقامة "حكومة شرعية اسلامية مختارة بإرادة الشعب العراقي الحرة المطلقة حتى لا تضيع هوية العراق الاسلامية ويحرم من الاستقرار والتمتع بالنعم التي وهبها الله له".
&
&-II-
لا أدري لماذا انتفض بعض الكتاب وهاجموا الأزهر وشيوخه من جراء هذه الفتوى التي لا تساوي في ظني "شروى نقير" كما يقول العرب؟ وأنها لا تساوى ثمن الورقة الصفراء التي كُتبت عليها من قبل شيوخ لا يفقهون في الدين ولا في السياسة، وإنما تُحركهم السياسة وأموالها وأهواؤها. ولا أدري مدى سعة اطلاع هؤلاء الأشياخ على الحالة العراقية؟ وأنهم بالقطع لا يعرفون من العراق إلا ذهب صدام الذي غرقوا فيه، والمسروق من أفواه وقوت الشعب العراقي.
فمن المعروف أن الأزهر مؤسسة رسمية دينية، تنطق باسم الحاكم لمصر الذي يُعيّن شيخ الأزهر ويعفيه من منصبه، ويُعيّن كذلك معظم كبار شيوخ الأزهر في الدوائر المختلفة ومنها دائرة الافتاء، لكي تأتي الفتاوى كتزكية دينية لقرارات الحاكم. فالأزهر لا يُصدر قرارات سياسية، ولكنه يضع ختمه الديني عليها على شكل فتاوى دينية على هذه القرارات، وليس له الحق أو السلطة للمشاركة في القرارات السياسية بقدر ما هو (بصمجي) ديني، يبصم على قرارات الحاكم. وبالتالي، فإن فتاوى الأزهر السياسية لا قيمة سياسية لها على الإطلاق. فهي طحن كلام فارغ، لا قيمة سياسية له. وهي صدى ديني ضعيف ومتهافت لقرارات الحاكم. ولم يصدر في تاريخ الأزهر الحديث في العهد الملكي أو العهد الجمهوري المصري أية فتوى دينية سياسية مخالفة لسياسة الحاكم أو ضد أي قرار سياسي أصدره. وأنا كمسلم سُنّي أحترم فتاوى الفاتيكان السياسية وموقفه من القضايا السياسية المختلفة بين حين وآخر أكثر مما أحترم فتاوى الأزهر التابعة لنظام سياسي، والتي تتلون بألوانه وترتدي أرديته. ذلك أن الفاتيكان لا يخضع لسياسة دولة معينة، بل هو حر الإرادة والقرار أكثر من الأزهر كما نعلم.
ولعل ما أغضب بعض الكتاب الأحرار المستنيرين الذين كتبوا ضد فتوى الأزهر المعادية لمجلس الحكم العراقي، هو أن هذه الفتوى لا تخدم الشعب العراقي والعراق الجديد، بقدر ما تضره، وتفرّق بين صفوفه، وتشق وحدته، المتمثلة بمجلس الحكم.
فمن المعروف أن فتوى الأزهر المذكورة الصادرة عن مركز ديني سُنّي ضد مجلس حكم أكثريته من الشيعة (15عضواً من مجموع 25 عضواً) وضد مجلس حكم رضيت به وباركته غالبية الشيعة العراقية (15 مليون من مجموع عدد سكان العراق البالغ 25مليون)، فيه حساسية دينية كبيرة، وفيه اساءة كبيرة لمشاعر الشيعة العراقيين الذين مُثِّلوا لأول مرة في مثل هذا المجلس بعد تغييب سياسي طويل، دام أكثر من ثلاثين سنة من حكم المماليك البعثيين للعراق.
&
&-III-
فماذا تساوي فتاوى الأزهر السياسية، والأزهر هو الذي تبنى الدعوة إلى تنصيب الملك الطاغية فؤاد والد الملك فاروق خليفة للمسلمين بعد أن أطاح أتاتورك بالخلافة العثمانية في العام 1923؟
&وعندما أصدر الشيخ الليبرالي علي عبد الرازق كتابه القنبلة (نظام الحكم في الإسلام) رداً على هذه الدعوة، نافياً أن يكون الإسلام ديناً ودولة، وأن الإسلام دين فقط، قام الأزهر بتجريد الشيخ عبد الرازق من شهادته العلمية الأزهرية، وطرده من القضاء الشرعي المصري بناء على أوامر القصر الملكي آنذاك. فقد كان الأزهر لعبة في يد الملك فؤاد وابنه الملك فاروق بعد ذلك. فالأزهر هو الذي اقترح أن يتم تتويج الملك فاروق في الأزهر لاضفاء صفة الخليفة عليه، إلا أن النحاس باشا رفض ذلك، وقال يومها إن فاروق هو ملك الأمة ويجب أن يتوج في مجلس الأمة. والأزهر هو الذي دفع الإخوان المسلمين إلى التظاهر والهتاف للملك فاروق (الله مع الملك) واطلاق نعت (الديوان الملكي الإسلامي) على ديوان الملك فاروق الذي كان مليئاً بالعاهرات الايطاليات.
&
-IV-
وما هي قيمة فتاوى الأزهر السياسية، وهذا الأزهر مثلاً لم يصدر فتوى واحدة ضد التطبيع مع اسرائيل ومعاهدة كامب ديفيد، لأن السادات وقتها كان شديداً ومعارضاً ومانعاً لتدخل الأزهر في السياسة، وهو صاحب الشعار المعروف: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"؟ وهو شعار مؤقت رفعه السادات لتمرير معاهدة الصلح، والتطبيع مع اسرائيل، وللجم الأزهر والجماعات الإسلامية في مصر وخارجها وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين من التدخل في السياسة.
&
-V-
&والدليل على تسييس الأزهر الحالي واستعماله مطيّة للحكام أن قام الأزهر بدعم تجديد مدة رئاسة مبارك فترات أخرى. وهو الذي يدعم توريث ابنه جمال مبارك للحكم. ومفتي الجمهورية السابق الشيخ نصر الله فريد هو الذي أصدر فتوى في انتخابات تجديد ولاية الرئيس المصري الدائمة والأبدية في العام 1999 والتي كانت تقول: "إن المبايعة واجب ديني، وكل من تخلف عن المبايعة أو نكص عنها فقد خان نفسه وأهله ووطنه ودينه، وكان من المنافقين المفسدين في الأرض. وأن بيعة مبارك هي بيعة لله ولرسوله (جريدة "الأهرام"، 24/9/1999).
&
-VI-
وما قيمة هذه الفتاوى السياسية إذا كان الأزهر أداة طيعة بيد الديكتاتوريين من الحكام العسكريين وغير العسكريين؟
فالأزهر هو الذي التزم الصمت تجاه كل ما فعله عبد الناصر في الإخوان المسلمين وغيرهم من السياسيين المعارضين له من قتل، وتنكيل، وسجن، وطرد من مصر. وهو الذي التزم الصمت حيال جرائم صدام حسين في العراق والمقابر الجماعية ومجازر حلبجة وغيرها، ولم يصدر فتوى واحدة بتجريم المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجرائم الفظيعة. وكيف لشيوخ الأزهر أن يفعلوا ذلك وهم الذين ملأ صدام قفاطينهم وعمائمهم بالذهب؟
&
-VII-
وماذا تساوي فتاوى الأزهر السياسية، وقد كان الأزهر في تاريخه الطويل ضد الحرية الفكرية، وضد الفكر الجديد، وضد الحداثة، وضد التنوير، وضد الديمقراطية، ومع الحكام المسلمين المستبدين؟
فالأزهر هو أول من اخترع مقولة (المستبد العادل) من الحكام المسلمين، وطالب "الرعية" بأن لا تخرج على الحاكم الظالم.
وكان شيوخ الأزهر يرددون صباحاً ومساءً أقوال "السلف الصالح" في اطاعة الحاكم الديكتاتور الطاغية حتى ولو سرق& المال وجلد الظهر.
فهم يرددون دائماً على مسامع الشعب والحاكم المُفتري الحديث النبوي القائل:
"اسمع لحاكمك وأطعه، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك".
وكذلك الحديث النبوي الذي يُروى عن الحسن البصري:
"لا تعصوا أولي الأمر منكم، فإن عدلوا فلهم الأجر وعليكم الشكر. وإن بغوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر. فهو امتحان من الله يبتلي به من يشاء من عباده. فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة، لا بالثورة والغيظ".
وكذلك الحديث النبوي الذي رواه أحمد بن حنبل عن رواية عبدوس العطاري:
"من غلب على المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسُمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً باراً كان أم فاجراً".
وهذه كلها أحاديث موضوعة غير صحيحة، تمَّ وضعها في العصر الأموي لتثبيت الخلافة الأموية المغتصبة للسلطة تحت مظلة الدين. ولكن شيوخ الأزهر ما زالوا يرددونها حتى الآن، وعلى مسمع من الحكام الظالمين والشعوب الجاهلة.
&
-VIII-
والأزهر هو الذي حارب ومحا كل آثار حملة نابليون الحضاريـة على مصر في (1798-1801). فشيوخ الأزهر هم الذين كسّروا البرج الذي اقامه نابليون لاستطلاع الفلك ودراسته، واعتبروه رجساً من عمل الشيطان. وهم الذين كسّروا المختبرات الكيميائية التي بناها نابليون، كما أجهزوا على كل علم ومعرفة جاء بها نابليون من بلاد عصر التنوير في ذلك الوقت، بفعل العصاب الديني والنرجسية الدينية المستحكمة في شيوخ الأزهر.
&
-IX-
وما قيمة هذه الفتاوى السياسية، والأزهر هو الذي حارب الحداثة، وفكر التنوير المصري، والمفكرين التنويريين المصريين كمحمد عبده، وجمال الأفغاني، ولطفي السيد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعلي عبد الرازق، ولويس عوض، وخالد محمد خالد، وغيرهم؟ وهو الذي كان وراء الدعوة إلى قتل طه حسين عندما أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي) وهو الذي صادر الكتاب، وسيّر المظاهرات الصاخبة ضده، وطرده من الجامعة، وألّب عليه حزب الوفد، وأمر بحرقه، وحرق كل من يروّج له.
والأزهر قبل ذلك هو الذي وقف ضد قاسم أمين في دعوته إلى تحرير المرأة واعتبر قاسم أمين خارجياً، وندد به وبكتبه وبدعوته إلى تحرير المرأة، وخلع الحجاب.
والأزهر هو الذي أقام الدنيا وأقعدها على الشيخ والمصلح الديني والسياسي خالد محمد في العام 1950 عندما صدر كتابه المدوي (من هنا نبدأ) والذي نادى فيه بفصل الدين عن الدولة، واعطاء المرأة (الرئة المعطلة) حقوقها السياسية والاجتماعية والتعليمية كاملة، ومحاربة الكهنوتية الدينية.
والأزهر هو الذي ساند ودعم فتوى تطليق زوجة نصر أبو زيد من زوجها، واصدار الحسبة ضده، مما اضطر أبو زيد إلى الهروب من مصر.
والأزهر هو الذي يثير الفتن الثقافية ضد الكتاب والمثقفين العرب باصداره الفتاوى من حين لآخر ضد هذا الكاتب أو هذا الكتاب، ويمنع تداول الكتب، ويقوم بغزوات بوليسية على مكتبات الجامعات، ويصادر منها ما طاب له من الكتب، دون حسيب أو رقيب.
&
& -X-
&وأخيراً، فليس من المعقول أن يغرق الأزهر في السياسة، ويبقى بعيداً في الوقت نفسه عن أوحالها وسهامها. سيما وأن الأزهر لا يغرق إلا في هذه الأوحال، والتي لا دافع دينياً لها، ولكن دافعها هو دافع سياسي، إما أن يكون داخلياً أو خارجياً!
&
&
&