أعود مرة أخرى الى الحديث عن الماضي،فبداخلي شيء ما يدفعني الى ذلك،ويجعلني أشعر بحنين دائم الى تلك الإيام الخوالي،الى أجواء الستينات والسبعينات من القرن الماضي.. الى مناظر مدينتي والمدن الأخرى التي شاهدتها وحفرت بذاكرتي، وأحاول اليوم وأنا أتجول في شوارع مدينتي وأزقتها أن أزيل مناظر العمارات والبنايات الشاهقة التي تكاثرت من حولي وأستعيد في خيالي رسم الصور القديمة التي كانت تحتل المساحة التي تشغلها العمارة الخرسانية اليوم.
وكلما ألتقيت بصديق أو بأي شخص آخر عاش في زمن الستينات والسبعينات أستعيد معه ذكريات وملامح العصر الستيني الذهبي، حيث البساطة وروح التسامح السائدة في المجتمع، أواصر القربى والصداقة المتينة بين الناس، تكاتف أبناء المجتمع بعضهم مع بعض، التعايش الأخوي بين أبناء الطوائف والأديان، حتى أنه لم تكن هناك مدينة أو بلدة كردية تخلو من حي خاص باليهود أو المسيحيين،وما زالت هناك محلة في أربيل تدعى بمحلة ( اليهود) تحتل مركز المدينة،كان الجميع يعيشون كأخوة قبل أن تطردهم دولة القومجية، مع أن أكثرية هؤلاء اليهود لم تكن لهم علاقة أو يد في تأسيس دولة إسرائيل.
حتى المناخ لم يكن سيئا كما هو الحال عليه اليوم.كانت مروحة سقفية أو منضدية واحدة تكفي لجعل أجواء البيوت كالمصايف، ومدفئة نفطية صغيرة تدفي أرجاء البيت الذي لم يكن يتجاوزغرفتين صغيرتين لأغلبية العوائل.واليوم إفتقدنا فصل الربيع الزاهي الذي إنمحى من جدول فصول السنة، فإما شتاء قارص في ظل أزمة المحروقات، وإما صيف لاهب في ظل فقدان الكهرباء وتوقف المبردات والمكيفات التي لم تعد تنفع بدورها لتكييف الهواء..
كانت كل الأشياء في تلك الفترة أصيلة وأصلية. لا غش في التجارة، لا تلاعب بالأسعار، لا إستغلال. التاجر في أسواق الشورجة ببغداد يرسل شاحنات من المواد الى تاجر أربيل من دون أن يستلم منه درهما، فيبيعها تاجر أربيل أو السليمانية ثم يتحاسب معه.
واليوم تجرد معظم التجار من الجيل الجديد من ضمائرهم الإنسانية، فيتلاعبون بكل شيء، يخلطون النفط الأبيض مع البنزين، ويمزجون البطاطا مع الدهون!. حتى أن أحدهم تفتق ذهنه عن فكرة جهنمية لزيادة وزن البرتقالة، وذلك بزرقها بأبرة تحتوي على الماء!.
هناك مئات الأطنان من المواد الغذائية الفاقدة لصلاحية الإستهلاك البشري يبيعها التجار الى الناس بعد التلاعب بتاريخ النفاذ!.
الموظف الحكومي الذي كان يتفانى في عمله لخدمة المواطنين ويعتبر نفسه خادما لهم،يستعلي اليوم عليهم ويعتبرهم خدما له!.
الشعراء أبدعوا في ذلك الزمن وأعطونا أجمل ما جادت به قرائحهم.. الملحنون قدموا أجمل ألحانهم لأجمل الأصوات بقيت نتاجاتهم خالدة لحد هذا اليوم رغم مرور ما يقرب من نصف قرن..الكتاب كتبوا أروع الروايات والقصص الخالدة ما زالت تقرأ الى يومنا هذا بكل شغف وشوق.
وأنا أستذكر تلك الأيام الجميلة في حياتي، وأقارنها بما أعيشه وأراه اليوم من تفتت أواصر المجتمع،وإنهيار القيم والأخلاق الفضيلة، أتمنى لو لم أعش حياتي الى هذا اليوم الزفت، حيث الأخ يغش أخيه،والتاجر يقطع أوصال المستهلك، والحكومة تمتص دماء الشعب!.علاقات مأزومة بين أبناء البلد، الكردي مع العربي، السني مع الشيعي، المسلم مع المسيحي،قطيعة تامة بين الشعب والحكومات، الفساد المستشري في مفاصل الدولة وبين الأحزاب السياسية، صراع على النفوذ والجاه والسلطان، مافيات مفسدة متسلطة على رقاب الشعب بدعم من الحكومة،إنحدار الذوق الأدبي والفني الى الحضيض وتشبه معظم النتاجات الأدبية والفنية، الساندويتشات أو ( الفلافل وإنت ماشي)!.
لهاث جنوني وراء السحت الحرام، إستغلال بشع للإنسان، شباب مائع كل همه الجري وراء أخر موديلات الموبايل والنظر الى الأجسام العارية لمغنيات الفضائيات، وصرف ملايين الدولارات في إتصالات طلب الأغاني من فضائيات العهر والعربدة، وهي مبالغ تكفي لإعمار بلدان!. ثقافة مشوهة ممسوخة تنشر بأموال الدولة وهي تمجد العنف الطائفي والعنصري!.هذه الظواهر التي لم نألفها من قبل أصبحت اليوم جزءا من مفردات الحياة؟؟!!
قد ينعتني الكثيرون ممن لم يتذوقوا حلاوة الماضي، بشخص رجعي أو متخلف متعلق بماض إنقضى، ولكني أتحدى كل فرد أو مجموعة سواء كان حزبا أو تجمعا سياسيا أو إجتماعيا أن يبرهن لي أنه قدم شيئا مفيدا للناس،أو مكسبا للشعب؟. فالمكاسب والمنجزات التي تتبجح بها الحكومات والأحزاب ليست بناء العمارات الشاهقة أو توسيع المدن ومد الطرق وشبكات المياه، بقدر ما هي بناء الإنسان ومستقبله.. فمن يا ترى له مستقبل في بلداننا الشرق الأوسطية؟ الكل يسير نحو المجهول منقادا بحكومات مستغلة وبأحزاب متصارعة وطوائف متناحرة كل همها أن تعيش يومها، ولتذهب المباديء والقيم الى الجحيم.
لفت نظري في كتاب الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر الذي عنونه بـ( عام قضيته في العراق) عندما تحدث عن أحوال الدولة أول إستلامه للحكم الإحتلالي. ففي صفحة من كتابه يتحدث عن وضع الكهرباء في العراق. ويقول أبلغني أحد مستشاري، أن العراق برمته من زاخو الى الفاو بحاجة الى توفير طاقة كهربائية ما يعادل إنارة مدينة أمريكية صغيرة؟!!. أي أن كل ما يحتاجه العراق من الطاقة الكهربائية التي يئن تحت وطأتها العراقيون منذ عشرين سنة وهي شريان الحياة لا يساوي ما تستخدمه بلدة أمريكية واحدة؟!! فأين إذن كل تلك الإنجازات والمكاسب الكبيرة التي كان حزب البعث يتحدث عنها طوال الـ35 سنة من حكمه للعراق والتي ملئت مئات الملايين من صفحات الصحف والكتب حتى نال الكثيرون من دكاترة اليوم شهاداتهم الأكاديمية بذكرتلك الإنجازات والمكاسب العظيمة في أطروحاتهم لنيل شهادات الدكتوراه؟؟!!. وسيكون للحديث صلة..
شيرزاد شيخاني
التعليقات