منذ سقوط النظام الفاشي وأنا أتابع يوميا مشاهد الجرائم التي ترتكب في العراق. وبحكم عملي الصحفي أصبحت على تماس مباشر بالأحداث الجارية في البلد وقريبا الى حد ما من الأوساط السياسية المختلفة قد يؤهلني للإطلاع على خفايا بعض الأمور التي تكون مستورة على الآخرين..


كنت في بغداد بمهمة صحفية بعد سقوط النظام مباشرة، ولم تكن أوضاعها كما هو عليه الآن..إستأجرت بيتا في منطقة ( زيونة) من أحد القادة العسكريين المتقاعدين من عرب الموصل، وكانت عائلتي هي الوحيدة من بين عشرات العوائل العربية الساكنة في تلك المنطقة، وإشتهرنا بين جيران المحلة بـ(البيت الكردي)، وكلما زارنا أحد أقربائنا من أربيل أوالسليمانية فلا يتجشم عناء البحث عنا في المنطقة، يكفي أن يسأل عن العائلة الكردية التي سكنت المحلة حديثا، حتى يدلوه علينا، فقد كنا مشهورين في المحلة رغما عنا.


في الأمسيات بعد أن تضع حروبي الصحفية داخل المنطقة الخضراء أوزارها، آخذ الأطفال بسيارتي وتحت قيادة أمهم للتفسح في شوارع بغداد، ثم الركون في مطعم لتناول العشاء، ومن ثم العودة الى البيت..
كان أطفالي ملهوفين لرؤية شوارع ومناطق بغداد التي كانوا يرونها لأول مرة،فلم يكونوا مثلي قد عرفوا شوارعها وأحيائها وحدائقها الجميلة التي إستظليت تحت أشجارها في زياراتي المتكررة..


تعرفت خلال إقامتي هناك بالعديد من الأصدقاء البغداديين الإصلاء الذين غمروني بالمحبة وأواصر الأخوة الصادقة حتى أصبحنا نتزاور عائليا.وأعتز بتلك الصداقات المتواصلة رغم أن الكثيرين منهم قد هربوا من العراق وتوزعوا في شتات الأرض ومنافيها.


لم تكن الأوضاع الأمنية في تلك الفترة قد تدهورت الى هذه الدرجة،وكان كل شيء عاديا الى حد ما بإستثناء بعض التفجيرات المحدودة جدا هنا وهناك، وكان مرتكبوها غالبا من عناصر القاعدة..
كنت أعتقد أن الوضع سيستمر هكذا، لأنني كنت واثقا من تعطش العراقيين الى الحرية التي سلبها منهم البعثيون،ومتيقنا من أن حكومة عراقية جديدة ستتشكل وستفرض سيطرتها على الشارع ويصبح العراق ( شام شريف)!.


ولكن السيء الذكر بريمر ومن لف لفه خابوا ظنوني وبخروا أحلامي بعد أن إتخذ بريمر بعض القرارات الخاطئة ليحول العراق جرائها الى جحيم لا يطاق.


كانت فلول البعثيين في تلك الفترة منزوية ومرعوبة من الظهور، رغم ثقتي التامة بأنهم كانوا يعيدون تنظيم صفوفهم، ولكن تأثيراتهم على الساحة السياسية والوضع الأمني كانت في تلك الفترة محدودة جدا وتحديدا قبل أن يتحالفوا مع عناصر القاعدة ويتلقوا الدعم الكامل والشامل من سوريا،وهو الدعم الذي دفع بإيران الى الدخول على الخط من خلال دعم الأحزاب الشيعية والميليشيات الطائفية، عندها بدأت الفتنة الطائفية تطل برأسها.ويكذب من يعتقد أن ما يجري اليوم في العراق من دمار وخراب هو خارج إطار حرب طائفية مستعرة بين السنة والشيعة،لأن ما يجري اليوم هو تقاتل طائفي دموي بأبهى وأوضح صوره.


على كل حال من ينظر الى طبيعة التفجيرات والجرائم الإرهابية التي ترتكب في العراق لابد أن تستوقفه المشاهد الدامية ويستنتج من خلالها أن العقلية التي تخطط لتلك الجرائم وهي في معظمها جرائم غير مسبوقة، هي عقلية موبوءة بهستيريا جنونية غير مألوفة. وأن الفكر الذي يحرك هؤلاء هو فكر فاشي لا نظير له حتى في مفردات القواميس السياسية. وأعتقد من خلال معايشتي للوضع في العراق في ظل النظام الدكتاتوري الفاشي، أن تلك الجرائم لا يليق إرتكابها إلا بأعضاء حزب البعث الفاشي الذي حكم بلدي طيلة الـ35 السنة الماضية. فقد سمعت من بعض المعتقلين والناجين من المحرقة البعثية ما تقشعر له الإبدان ويشيب له الولدان من أساليب القتل الهمجي ووسائل التعذيب الجسدي والنفسي التي كانت أجهزة النظام تستخدمها بحق العراقيين في سجونها الرهيبة.


فمن يصدق أن يذاب إنسان مشتبه بمعارضته للحكم داخل حوض الأسيد!.
من يصدق أن تعلق المرأة من أثدائها والرجل من أعضائه التناسلية بمراوح سقفية!. من يصدق أن يتفتق ذهن أحد ضباط الأمن بحلق رأس أحد الموقوفين بالموسى ثم نقره بالأبر ووضع السكر عليه ثم نشر النمل فوقه لتحرق أعصاب ذلك الشخص!.


من يصدق أن تقطع الألسنة وتصلم الأذان وتجدع الأنوف لمجرد أن أحد هؤلاء الضحايا إما روى نكتة عن النظام، أو فر من جبهة الحرب الى أهله وذويه،أو كتب أحد البعثيين تقريرا كيديا ضده!.
في أي دولة بالعالم يوجد ذلك العدد الكبير من المقابر الجماعية التي كشف النقاب عن بعضها وبقي الكثير منها مطمورا من دون أي دلالة وهي مقابر تضم رفات أطفال وفتيات في عمر الزهور أو الشيخ الطاعن في السن!.


هل كان بمقدور هؤلاء الإنقلاب على الدولة أو تهديد أركان النظام؟؟!.
من يصدق أن تسخر الدولة آليات ومكائن مديرية بلدياتها لهدم دور الهاربين من الخدمة العسكرية وتسويتها بالأرض!.


من يصدق أن تمطر الدولة سكان مدينة كبيرة بشيبها وشبانها، بنسائها وأطفالها بالغازات الكيمياوية السامة، وتزهق في ظرف نصف ساعة أرواح 5 آلاف إنسان وتجرح 10 آلاف آخرين ما زال الكثيرون منهم بعد مرور خمسة عشر عاما يعانون من آثارها ويموت منهم العشرات كل سنة!.


من يتصور أن ترسل الدولة مئات الشاحنات العسكرية والسيارات التابعة لدوائرها لنقل مئات الألوف من سكان منطقة كردية الى صحارى الجنوب ودفنهم هناك أحياء!.


هذا الفكر الفاشي والعقيدة الإجرامية التي حكمت بها الطغمة البعثية المجرمة طوال السنوات الماضية هو ذاته الفكر الذي يرتكب أصحابه اليوم جرائمهم البشعة في أرجاء العراق.


تفجير المزارات المقدسة وقتل المصليين!.. تسميم المياه التي يشربها الطفل والشيخ والمرأة!.. تفخيخ الحيوانات!.. قتل عمال المساطر بالجملة!.. إغتيال الطفولة البريئة بتفخيخ الدمى والعرائس!.. تفجير الباصات الخاصة بنقل الركاب!.. تفجير الأسواق وفيها المرأة الحامل والطفل الصغير والشيخ المريض!.. تسميم الفواكه والخضروات!.. إحراق الكتب والمكتبات في شارع المتنبي!.. هدم المساجد والحسينيات!..

إغتيال أساتذة الجامعات وتشريد عقول العراق!.. تفجير أنابيب النفط وهي مصدر أقوات العراقيين ورواتب المتقاعدين!.. تفجير المحطات والمحولات الكهربائية!.. خطف وقتل منتسبي شركات الإعمار والبناء!..
كلما شاهدت أو سمعت بجريمة لم يخطر ببال، فتش عن البعثيين فحسب، لأنهم أصحاب هذا الفكر الفاشي الهدام والذي له شواهد أكثر مما ذكرناه في هذا المقال.


هذا هو البعث الذي يتباكى على مجده بعض القومجية العرب ومن يلفون لفهم من الإسلامويين الذين يصفون حساباتهم مع أمريكا بقتل العراقيين؟!.
هذا هو البعث الذي تستميت بعض الأنظمة العربية وفي مقدمتهم الجامعة العربية الى إعادته لحكم العراق ليهدم ما تبقى من أطلال بغداد ويحرق ما بقي من خضرة أرض السواد؟!!

شيرزاد شيخاني

[email protected]