المجتمعات المبتلية بالحروب والصراعات والهجرات غالبا ما تفرز ظاهرات سريعة التشكّل والتأثيرتوهم (المتفائل) بحيويتها وصحتها قبل أن يصطدم بالأسئلة المحيرة وبالآثار السلبية التي تتركها على جسد الواقع. سوف لن نتوقف عند ظاهرة الأحزاب والمنضمات والطوائف التي برزت على السطح بل سنتوقف قليلا عند ظهور مئات الفنانين التشكيليين العراقيين بالمنفى في ظل انهيار المجتمع العراقي وتفتت نسيجه وتراجع دور الثقافة والمثقفين فيه على حد سواء.


ففي بلد صغير وجميل كهولندا يوجد من الفنانين العراقيين المنفيين ما لا يوجد في دول الخليج العربي مجتمعة، ولا حتى في دولة عربية مستقرة سياسيا واقتصاديا كالأردن أو لبنان. ورحلة سريعة في الأراضي المنخفضة سنجد أن أعدادهم تجاوزت المائتي فنان بكثير. وهذه الظاهرة التي تجاوز عمرها العقد الأول ليست بهذه الخطورة على الثقافة (الهولندية والعراقية) إلا أنها جديرة بالتوقف لأنها ولدت، خارج مكانها وظروفها، في بلد يعرف اللوحة ويكاد لا يخلو فيه بيت من عمل أصلي لفنان مشهور. ففي بلد مثل هولندا شيدت ثقافته وتاريخه على الفنون البصرية يستطيع حتى طلاب المدارس ومن اللحظات الأولى معرفة اللوحة وصاحبها والفترة التي تعود إليها والتمييز بين اللوحة التي تنتمي للموهبة والمعاناة وبين تلك التي تنتمي للزيف والتقليد.


في حياة المنفيين الذين تضاعفت أعدادهم في الأعوام الأخيرة تسهل ملاحظة الميل إلى حياة القطعان في التسوق والتنزه والبحث عن عمل. فإن تغيرت أسعار الحبوب ركض الجميع للشراء والتكديس وإن وجد أحدهم عملا في تنظيف الأسنان يدر ربحا هرع الآباء لتوجيه أولادهم إلى قسم الأسنان للدراسة والعمل وإن هرّب أحدهم سيارة إلى بولونيا أو وجد عملا في السوق السوداء سارع الآخرون لتقليده، وهذا ممكن فهمه عند العامة ولكن أن تتحول تقاليد القطيع إلى مجال الثقافة ومن ثم التوجه زرافات لشراء الفرشاة والألوان وممارسة الرسم والتسكع في مراكز المدن وأماكن العرض حاملين في أكياس نايلون لوحاتهم القشرية والسريعة التنفيذ، فأنها حكاية تثير الحزن والأسى.


استمرار الظاهرة لا يساعدنا في الحديث عنها بالتفصيل(أسماء وأرقام ولوحات) ولا حتى إعطاء أراء قاطعة بذلك ولكننا سنأخذ نموذج من القطيع ونرصد تحولاته وليكن الشاعر مثلا. فبعد أن غادر العراق الكثير من الشعراء الشباب الذين لدغهم الجوع والبرد والحاجة باتوا يحفرون في صخر المنفى للحصول على لقمة العيش لهم ولأبنائهم وممارسة أية مهنة بعد أن تأكدوا أن الثقافة لا تطعمهم رغيف خبز. وإذا كانت الثقافة في شرقنا هي مهنة الفقراء نادرا ما يسترزق منها مثقف فأنها في أوربا للهواة ولذلك ليس مصادفة أن تجد الطبيب يرسم بعد ساعات العمل والمعلم يعزف على آلة موسيقية في عطلة نهاية الأسبوع وسائق الحافلة يمثل في فرقة مسرحية للهواة وهم في كل ذلك يعلنون عن عشقهم ومتابعتهم للفن بتواضع ومن دون ادعاء أو إلغاء لأهل الفن.


الشعراء العراقيون الذين عاشوا المنفى اصطدموا بحقيقة كساد الشعر وتراجع كتّابه ومستمعيه وموقعه إضافة إلى عزوف دور النشر عن الاهتمام به والترويج له، في الوقت الذي كانت فيه سوق اللوحة بهولندا رائجة ومستعرة ومغرية، الأمر الذي دفع الكثير من الشعراء إلى حرف البوصلة صوب فضاء الألوان والخطوط وممارسة الرسم. ولو اكتفى الشاعر بعشق الألوان والتمتع برؤية المواضيع التي تعمق من شاعريته ورؤاه أو ممارسة الرسم كهواية في أوقات الفراغ والتنفيس لبعض الأحاسيس والأفكار لهان الأمر، ولكن مسك الفرشاة واقتحام عالم الرسم وإقامة المعارض في الكنائس ودور المسنين وادعاء حرفة الرسم فيه شيء من المبالغة، فيه شيء من الوقاحة التي تشبه الشجاعة. فأغلب(لا أقول كل) الشعراء الذين امسكوا بالفرشاة كانوا أشباه فنانين ولوحتهم خالية من الإبداع والموهبة. لوحة أشبه بثوب لا ملامح له ومرقع من أثواب رأيناها على فنانين نعرفهم.


إن الاستخفاف بالعملية الفنية والتوجه زرافات إلى ميدان الرسم يستدعي أدوات تبرر هذا الاستخفاف كالاقتباس والثرثرة والادعاء بحب الفن ووو، أدوات قادرة على تحويل الزيف إلى حقيقة يمكن الدفاع عنها. أشباه الفنانون دربوا عيونهم على سرعة الالتقاط وأخذ لون من هذا الفنان وخط من آخر وفكرة من ثالث والتزوّد بقليل من المصطلحات والمعارف الفنية، إضافة إلى صداقة بعض الأسماء المعروفة من الفنانين العراقيين والتقاط صورة مع فنان أوربي مشهور وزيارة متحفين ومعرضين. عدة الشغل المزدحمة هذه لا يوجد مكان فيها للموهبة والدراسة والخبرة، صنع ذلك تخمة تشكيلية محزنة أوجدت بين ظهرانينا مئات الفنانين الذين يتشابهون في الخطوط والألوان والمواضيع الأمر الذي أوهم بعضهم بوجود لوحة عراقية لها مناخ ينتظم تنوّعها وكثرتها، وهو وهم سرعان ما يتبدد في الوقوف عند تجربة ومرجعية وتاريخ كل فنان على حدة. إن ما يزيد من خطورة هذه الخيبة التشكيلية هو وقوف فنانين ونقاد معروفين للإشادة بهذه التجارب السطحية وكيل المديح الزائف لها بتأثير من تقاليد الاخوانيات وثقافة التخادم ونزعة التكتل الاجتماعي والصراع السياسي في ظل غياب مؤسسات تنظم نشاط الفنانين وتعرض أعمالهم وتحمي حقوقهم. موقف الفنانين والنقاد المؤذي هذا جعلنا ننتبه إلى قدرة الثقافة على احتضان الكذب وحماية الجبن وتسويق الفراغ.


إن الذي دفعني لتناول هذه الظاهرة ليس فقط شيوعها عند المنفيين القدامى بل وجدت الشعراء الذين تركوا العراق حديثا قد باشروا هم كذلك بالتوجه صوب الدكاكين لشراء الفرشاة والألوان والأوراق والحديث عن مواهب منسية عندهم تفجرت عند وصولهم واحة الحرية، الأمر الذي سيحولها إلى عادة محمودة وسيمهد للآخرين المشتغلين بالمسرح وكتابة القصة الاقتداء بهم وبتجاربهم وبالتالي استسهال العملية الفنية وتوسيع رقعة الخيبة. فهل أن المشاكل التي تواجه الشعر والمسرح والقصة تبرر تحوّل العاملين فيها إلى مجالات الرسم والسينما دون موهبة أو دراسة أو تجربة أو تخصص.


بالمناسبة بعض الفنانين التشكيليين كتبوا القصائد للتنفيس عن معاناتهم، يترنمون بها بين الأصدقاء وفي الأمسيات، وكتابة الشعر على أية حال ظاهرة عراقية مألوفة نتلمسها في الشارع والبيت، ولكنهم لم يقدموا أنفسهم كشعراء ولم يدخلوا في مماحكات وتنظيرات بخصوص الشعر ومشاكله. وقصائدهم على العموم، ذاتية، ركيكة البناء، سيئة الإلقاء بسبب نقص الموهبة والخبرة، لا تخلو من ألوان وخطوط ومناخات تشكيلية. فإذا سمينا الشاعر رساما بعد بضع لوحات أو سمينا الرسام شاعرا بعد بضع قصائد فسوف يختل معيارهما(الشعر والرسم) على حد سواء لا ينفع معه الكلام عن المشتركات بين الصورة الشعرية والصورة الفنية. فحب الشعر لوحده لا يصنع شاعرا مبدعا، وحب اللوحة لوحده كذلك لا يصنع رساما مبدعا. وحتى الدورات التدريبية التي تنظمها المعاهد الهولندية ومدتها ثلاثة أو ستة أشهر وتعطي شهادات رسمية بانتهاء الدورة، هي الأخرى لا تصنع الفنان التشكيلي. فهذه المعاهد أسست للهواة وكبار السن لتوفر لهم المواد والأجواء والأمكنة التي لا تتوفر في بيوتهم الصغيرة.


في الحقيقة لا أريد تجاوز خطوط التشاؤم والحديث عن أزمات مستعصية مثلما لا استطيع إنكار الذي نعيشه من تيه ثقافي وانحطاط في القيم بسبب بلد نهشته الحروب والصراعات. ولا أريد القول أن الشعراء لو أجادوا في صنعة الشعر لما ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أشباه فنانين. فالشعراء العراقيون أجادوا، وهم باقون على عهدهم لم يخونوا الشعر وما زال يشار لهم بالبنان في مجال الشعر. من جهة أخرى فأن الفنانين العراقيين الجيدين الذين أسسوا أسما وبصمة ولوحة في هولندا والذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة لا زالوا يشتغلون على أنفسهم ولوحتهم بعيدا عن الأضواء والدفوف، يزينون عزلتهم ويبروزون لوحاتهم، تنقصهم الخبرة في تسويق أنفسهم وأعمالهم في عولمة لا ترحم.


بقي أن نقول لمن يذيلون قصائدهم ولوحاتهم بتوقيع(الشاعر والرسام) أو يعنونون مواقعهم الرسمية على الانترنيت بـ(الكاتب والشاعر والفنان التشكيلي وووو)أن يرحمونا قليلا ويجلسوا معنا على شاطئ البحر نتأمل زرقته، فليس بالضرورة أن نكون كلنا تشكيليين.

نصيـر عـواد