الشاب(اسامة أدور موسى)،ابن بلدة (تل تمر) الآشورية، المعروفة بـ(الكامب).أهلها، مع أهالي عشرات القرى الآشورية المتناثرة على ضفاف نهر الخابور في الجزيرة السورية، هم الضحايا الأحياء لمذبحة (سيميل) الآشورية.أول مقبرة جماعية ارتكبها العسكر في تاريخ العراق الحديث، حدث ذلك في آب 1933.فبعد الأحداث الدامية لمذبحة (سيميل)،تم ترحيل عشرات الآلاف من آشوريي سهل نينوى الى ضفاف نهر الخابور في اطار اتفاق بين سلطات الانتداب الفرنسي على(سوريا) والانكليزي على(العراق).من غير أن يعترض هؤلاء الآشوريون على ترحيلهم،ربما لأن الجزيرة السورية هي الامتداد الطبيعي لموطنهم التاريخي (بلاد ما بين النهرين)،فضلاً عن أن وضع الآشوريين السوريين والمسيحيين عامة كان أفضل نسبياً مما كان عليه الحال في العراق.لهذا سرعان ما تأقلم الآشوريون المرحلون مع الوضع الجديد ولم تمض سنوات حتى اقاموا المزارع وصنعوا النواعير العملاقة للري وجعلوا من ضفاف وسهول حوض الخابور واحة خضراء و(سلة غلال) لأهالي المنطقة.


بسبب الاعلام العروبي المؤدلج والثقافة الوطنية المشوهة،القليل من السوريين اليوم يعلمون بأن هذه القرى الآشورية على الرغم من جراح أهلها العميق المحفورة في ذاكرة التاريخ، قدمت نحو ثلاثمائة متطوع من خيرة رجالها وشبابها تطوعوا للدفاع عن فلسطين في حرب عام 1948 مع اسرائيل وقد استشهد منهم ثلاثة عشر، استقبلت جثامينهم بالأهازيج والزغاريد كأبطال وطنيين سوريين. طبعاً كان للآشوريين في مختلف انحاء سوريا نصيبهم من الشهداء في حروب 1967 و 1973. بلدة (تل تمر)، التي افتخرت وابتهجت بشهدائها الأبرار في كل الحروب الوطنية والعربية،هي اليوم حزينة كئيبة تنتظر عودة ابنها البار (اسامة أدور موسى) الذي اعتقلته المخابرات السورية، لا لجرم أو لخطيئة ارتكبها بحق الوطن وانما بسبب حبه الكبير لهذا الوطن، وبسبب صرخة اطلقها في هذا الزمن السوري الصعب بكل المقاييس والمعايير،كواحد من ملايين السوريين الذين أمضوا الكثير من ليالي الشتاء الطويلة والباردة من دون غاز ومازوت وكهرباء.لاءات،صرخات، أطلقها في وجه حكومة هذا الوطن، (حكومة الأزمات)، في مقال له بعنوان: ( اللاءات الثلاث الجديدة : لا غاز، لا مازوت، لا كهرباء).هذا المقال المنشور على صفحات العديد من المواقع والجرائد الالكترونية، الآشورية والعربية والكردية،يبدو أنه استفز هذه الحكومة ودفع السلطات الأمنية لاستدعاء كاتبه (اسامة) واعتقاله بشكل تعسفي،ككل الاعتقالات السياسية، مخالفاً لمواثيق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية الخاصة بالحريات السياسية وحقوق الانسان التي وقعت عليها الدولة السورية.


بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع الزميل اسامة حول طريقة تناوله ومقاربته للحالة السياسية العربية عامة والسورية خاصة،ثمة أسئلة عديدة يطرحها الواقع السوري والعربي المأزوم والمهزوم ببنيته الآيديولوجية والسياسية والاقتصادية.عربياً: هل بقي حزباً واحداً،تلك الموجودة في السلطة أو في المعارضة،متمسكاً باللاءات العربية (لا للصلح،لا للاعتراف ن لا للتفاوض)مع اسرائيل، التي يرى اسامة بأنها تراجعت و اختفت؟. طبعاً لا،باستثناء بعض التنظيمات والحركات الاسلامية المتطرفة التي بقيت ترفعها للمزايدة على القوميين العرب من جهة،ولتضليل الراي العام العربي والاسلامي من جهة أخرى. أين اصبحت الشعوب السورية والعربية من شعارات (الوحدة والحرية والاشتراكية)؟.أليست كل دولة عربية اليوم مهددة بالتفتت والانفجار من الداخل؟. هل التمزق العربي هو حقاً مسؤولية أمريكا والغرب والامبريالية العالمية التي جعل منها الحكام العرب شماعة يلقون عليها اسباب كل هزائمهم واخفاقاتهم السياسية والعسكرية والتنموية...؟ من المسؤول عن تحول منطقتنا الى مفرخة لكل أشكال وصنوف الارهاب والتطرف والتعصب؟.


سورياً:هل تستطيع الحكومة نفي حصول أزمة خانقة ونقص حاد في (الغاز والكهرباء والمازوت)منذ بداية فصل الشتاء الحالي؟.من المسؤول عن هذه الأزمة،أياً تكن أسبابها(نقص،تهريب،خلل بالتوزيع)الشعب السوري أم الحكومة؟.وفي سياق الموضوع ذاته، تجدر الاشارة الى أن برنامج (بلا حدود) الذي تقدمه فضائية (الجزيرة) القطرية استضاف قبل اسابيع وزير الاعلام السوري الطبيب (محسن بلال) قال له مقدم البرنامج (أحمد منصور): (( وأنا أمشي في أسواق الحميدية بدمشق الكثير من السوريين طلبوا مني أن اسأل في البرنامج عن أزمة الغاز والمازوت والكهرباء في سوريا)).ثم ألم تصاب الأسواق السورية بحمى التهاب الأسعار لمعظم المواد والسلع الاساسية وخاصة الغذائية منها ومن غير أن يقابلها أي زيادة في دخل المواطن السوري القابع تحت خط الفقر اصلاً؟...من المسؤول عن تدهور الوضع المعيشي وسوء الأوضاع الاقتصادية في البلاد في وقت يؤكد الحكم على أن( الملف الاقتصادي والمعيشي) هو في سلم أولوياته؟.من المسؤول عن كل هذا وذاك: الحكومة أم المعارضة السورية، التي زج العشرات من نشطاءها في السجون والمعتقلات بسبب انتقادهم لسياسات الحكومة ومطالبتهم الحكم بضرورة التسريع باجراء اصلاحات سياسية واقتصادية وادارية جدية وحقيقة تخرج البلاد من أزماتها؟.
أليس من حق المواطن السوري أن يسأل، بعد نصف قرن:ماذا جلبت له الشعارات والخطابات الثورية والتنظيرات الآيديولوجية المقولبة التي يتحصن بها الاستبداد،ويتذرع بها لتبرير العسف بالمعارضة والقمع الممارس في المجتمع ولبقاء البلاد تحت حكم الطوارئ ولاحتكار السلطة؟.الم تثبت تجارب الشعوب والأمم وعبر التاريخ بان مسالة الديمقراطية والحريات والعدل والمساواة هي أساس وشرط لكل تقدم وازدهار واستقرار وبناء (الدولة المدنية)،دولة المواطنة الحقيقة، التي تنتفي فيها كل الانتماءات والولاءات البدائية المتخلفة؟.فالمواطن المقموع والمسكون بالرعب والخوف لا يمكن له أن يحرر أرضاً أو أن ينجز وحدة ولا أن يبني وطناً قوياً.في ضوء كل هذا نتساءل:بماذا يفيد الوطن السوري اعتقال خيرة مفكريه ومثقفيه وناشطي الحراك الديمقراطي المطالبين بالتغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، أمثال( عارف دليله وميشيل كيلو وأنور البني ورياض سيف وفايز سارة وعلي العبداله وأكرم البني ورياض ضرار واسامة أدور، والقائمة تطول..عذراً عن عدم ذكر اسمائهم )؟.اليست حرية الوطن من حرية المواطن، وأن المثقفين هم ضمير الوطن وهم خير من يعبر عن نبض الشارع؟. أية جريمة أو خطيئة ارتكبها هؤلاء حتى يزج بهم في السجون والمعتقلات ويحرموا من حق الحياة بحرية في وطن أحبوه وأخلصوا اليه؟. طبعا، لا يخفى على أحد بأن الهدف الأساسي من كل اعتقال سياسي هو تعزيز سلطة الاستبداد والامساك بالمجتمع أمنياً وسياسياً من قبل الطبقة الحاكمة وارباك المعارضة واشغالها بقضية المعتقلين، وتالياً ابعادها عن أهدافها الأساسية وهي انجاز (عملية التغير الديمقراطي).


بلا ريب،أن اعتقال الناشط والاعلامي الآشوري (اسامة أدور)،في هذه المرحلة تحديداً، هو رسالة الى الحركة الآشورية السورية عامة والى المنظمة الآثورية الديمقراطية خاصة، التي ينتمي اليها(اسامة)،بعد أن خطت خطوات باتجاه المعارضة الوطنية السورية بانضمامها الى (اعلان دمشق) للتغير الديمقراطي الذي يضم غالبية قوى المعارضة السورية،العربية والكردية.لكن مع هذا، وفي ضوء الحالة السورية الراهنة والعقلية الأمنية التي تتحكم بها،أرى أن السلطات السورية لم تعد مهتمة كثيراً بالأحزاب والتنظيمات المعارضة بقدر ما هي تركز على الاشخاص الفاعلة والناشطة في الحراك الديمقراطي والسياسي والحقوقي المعارض. فالسلطات الأمنية تدرك جيداً بأن أحزاب المعارضة السورية غدت مجرد نخب معزولة من غير قاعدة جماهيرية. وما يؤكد هذا التوجه الأمني هو: ترك قيادات الأحزاب تسرح وتمرح بحرية،بينما تلاحق وتعتقل الكوادر النشطة فيها،أليس هذا أمراً يدعوا للتساؤل.وغالباً مسؤولي أحزاب المعارضة يتبرءون ويتنصلون من كتابات وتصريحات ومواقف سياسية لأعضاء أحزابهم اذا ما أزعجت هذه المواقف السلطات الأمنية.ثم أن معظم المعتقلين السياسيين في ظل العهد الجديد (معتقلي ربيع دمشق، واعلان بيروت دمشق، وحتى ممن اعتقلوا مؤخراً على خلفية انعقاد المجلس الوطني لاعلان دمشق)، هم شخصيات مستقلة غير منتمية لأحزاب سياسية.في ضوء هذه المعطيات والوقائع السياسية أرى أن المستهدف من العملية ليست المنظمة الآثورية وانما (اسامة) ذاته وبشخصه،بعد أن برز بقلمه الناقد الجريء لسياسات ونهج النظام وكشخص فاعل ونشط في لجان حقوق الانسان.فهو اعتقل على خلفية مجمل نشاطاته الحقوقية وكتاباته السياسية التي تناول فيها الهم الوطني والشأن العام.


لا شك،هناك الكثير من الآشوريين المنخرطين في الاحزاب السورية وقد اعتقل العديد منهم منذ أن فتح البعث الحاكم سجونه لأحرار سوريا.لكن (اسامة أدور موسى)هو بحق أول معتقل سياسي آشوري لـ(الحركة الآشورية السورية)، وهذا من دون شك، شرف كبير له و(وسام)،قومي ووطني، يستحقه. صحيح،في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي تم توقيف واعتقال لشهور بعض اعضاء وقيادات (المنظمة الآثورية الديمقراطية)، لكن اعتقالهم لم يكن على خلفية نشاط أو فعل سياسي حقيقي قاموا به،وانما كان بسبب أخطاء تنظيمية وادارية ارتكبتها بعض قيادات المنظمة في مرحلة اتسمت بالعمل السياسي السري،حيث كانت المنظمة الآثورية حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي منغلقة على ذاتها، بعيدة عن العمل السياسي الحقيقي وعن الهم الوطني والشأن العام.حيال هذا الوضع المستجد(اعتقال اسامة) على المنظمة الآثورية،نتساءل:اذا ما أحيل الناشط اسامة الى القضاء السوري،وهو قضاء ملحق بالأجهزة الأمنية ويخضع لأوامرها،وحكم - طبعاً هذا ما لا نتمناه له،ما نريده الافراج الفوري عنه ومن دون محاكمات صورية- كيف ستتعاطى المنظمة الآثورية مع حالة الاعتقال هذه؟. وهل هي قادرة على تحمل الصدمة وتقبلها وتحمل مضاعفاتها السياسية وأعباءها المادية والمعنوية؟.خاصة وأن المعتقل هو كادر نشط وفاعل،تميز بروح التضحية والحماسة والجرأة والمصداقية والجدية في الالتزام والاخلاص للمبادئ. بلا ريب أن الصدمة ستكون قوية وقاسية على الأخوة في المنظمة الآثورية وهي اربكتهم من دون شك.وما يزيد من مضاعفات اعتقال (اسامة) أنه تزامن مع أزمة حادة تعصف بالمنظمة منذ سنوات والتي زادتها ترهلاً وضعفاً وأفقدتها الكثير من رصيدها الجماهيري.طبعاً نتمنى أن يكون هذا الحدث(اعتقال اسامة) مناسبة وفرصة جدية للمنظمة الآثورية لترتيب وضعها من الداخل والعمل بروح من المسؤولية القومية والوطنية،احتراماً وتقديراً للأهداف التي اعتقل اسامة من أجلها، وتتعاون مع الجميع لأجل توحيد صفوف الحركة الآشورية السورية،وذلك استعداداً لمتطلبات هذه المرحلة التاريخية والتي قد تدفع بالمزيد من النشطاء الآثوريين والآشوريين للاعتقال،دفاعاً عن الديمقراطية وعن حقوق وقضية الآشوريين السوريين،وبعد نمو الحالة الآشورية في سوريا، خاصة وأن الكثير من المعطيات والمؤشرات تدل على أن المرحلة المقبلة حبلى بالتطورات والأحداث.فهل ستكون المنظمة الآثورية الديمقراطية بمستوى الحدث والمسؤولية؟.نتمنى ذلك، وان كنا غير متفائلين في ضوء معرفتنا القريبة والعميقة بالمنظمة.


أخيراً: الحرية للناشط والاعلامي الآشوري الزميل(أسامة أدور موسى) ولجميع معتقلي الراي والضمير في السجون السورية المطالبين بالديمقراطية والمدافعين عن الحريات وعن الحقوق المنتهكة للانسان السوري.

سليمان يوسف يوسف
كاتب وناشط آشوري سوري
[email protected]