الثقافة في المجتمع الإنساني هي بداية التأسيس الفعلي للوعي الجماعي بما يتضمنه من تصورات ومواقف وأحاسيس وذوق... وممارسة الفعل الثقافي في الواقع المعاصر ليس بالأمر السهل، لأنها ممارسة واعية ومبنية على أهداف ومسؤولية لا يتحملها أي فرد كيفما كان، فالوعي بطبيعته هو مستوى من الإدراك والمعرفة، والإنسان لا يصل إلى هذا الحد والمستوى إلا بعد أن يمتلك رصيدا من التجارب الموسسة على تراكم معرفي محترم وحس ذوقي رفيع، وهم للاستكشاف ويعيش في ظل quot;أزمة بحث السؤالquot;.


إن الاستفادة من إمكانيات الثقافة والمثقف في إحداث تغيير معين في المجتمع لشيء عظيم، ولكن ما هو الكيف الذي يمكن به بلورة رؤية ثقافية تغييرية، وما هي إمكانيات المثقف الذاتية في أن يتحمل هذه المسؤولية خاصة في واقع ثقافي عربي غارق في أزماته السياسية والاقتصادية والطائفية الحالية، وأي ميكانيزمات ثقافية نحن بحاجة إليها الآن لإحداث تغير معين؟ وأي شرط يمكن به ممارسة فعل ثقافي، مستمر وواعي؟ لا يستحضر فقط سؤال الكم ولكن أيضا سؤال الكيف؟.


الوعي بمسألة الثقافة وحاجتنا إليها في وطننا العربي، ليس هو السؤال الملح لأنه أصلا لابد لأي مجتمع أن يعيش هذا السؤال البدهي وإلا فهو مجتمع يعيش في مرحلة الطبيعة وما قبل الثقافة، ثم إن السؤال الذي يجب أن يطرح أو الذي يطرح نفسه بقوة هو: لما يعيش المجتمع العربي حالة برودة الفعل الثقافي؟ ولما تجمدت مشاريع النقد العربية المتراكمة، ولم تستطع كسر جدار الوعي السالب..؟


إن المثقف العربي عاش فترة النشاط والعطاء المعرفي في فترة معينة: حيث كان يكشف بجدية وشجاعة ما تراه عينه النقدية من صور سلبية في المجتمع والسياسة والأخلاق، بل كان يتتبع أدق تفاصيل الحركة الفكرية والاجتماعية الواقعة تحت عينه وسمعه، وكثيرا ما كان يعبر عن رفضه ونقضه لمقولات تقليدية أو ينتفض ضد الركود ويعري- أو يزيد تعرية- الواقع المتأزم بتحليلاته وانتقاداته وإن كان ذلك يعبر عن شيء فإنما هو تعبير عن قمة نجاح في الحضور في لحظات تاريخية من حياة المجتمع العربي، وكذا هو تعبير على تفاعله غير المشروط مع المتغيرات.
إن أجمل وسام على صدر المثقف هو عندما ينصت الغير ممن يملكون إمكانية الفعل-الطبقة السياسية مثلا- ويقدرون بله يقدرون على تفعيل مقولاته ويتجاوبوا مع تفسيراته لظواهر الخلل ومظاهر الأزمة بدل التصفيق له أو تهميشه.


وحضور المثقف كذات واعية؛ بفعالية وبكل وعي ومحاولاته الجادة لإعادة تفكيك الظواهر وتركيبها وتقديمها مترابطة متماسكة، ليساهم برأيه في فهم إمكانيات أخرى واستحضار رؤى مضافة، هي لحظة من لحظات البناء سواء المجتمعي أو السياسي أو الأخلاقي... لا يجب أن يغيب وهجهها، فلحظة الفعل الإنساني ربما هي مرحلة عادية في عيون البعض ولكنها لحظة مقدسة غير عادية لمن يملكون الحس النقدي لأنهم آنئذ تحضر لديهم الأسئلة والتحليلات.
فالمثقف الواعي قبل أن يصبح لديه الوعي بمآل الأمور وضرورة النقد، لابد أن يراكم المعرفة ويعيش القلق الدائم بشكل تستمر معه أسئلته، وعدم ثبات حالته الأيديولوجية على نمط منغلق هو ضرورة واقعية، فهو ذات تعيش quot;حالة الثورة والفورةquot;: فالثورة لأنه يحمل أفكار وقيم مجتمعه ويناضل من أجل أن يكشف ويكتشف حقائق تجعل للسلوكيات معنى مختلف وللأفكار مقاصد تسفر دائما عن وجه المجتمع وتفتح له آفاق متعددة محتملة، أكثر من ذلك يفضح ممرات المقدسات المانعة وكواليسها ويتتبع تأويل كل الانحرافات التي تحتملها الجمل والكلمات والأسطر و السلوكات وحتى الخربشات التي ينتجها الناس، إنه قارئ جيد، وبمعنى آخر، إنه يحارب المعنى القاتل والوحيد المتربص بالوجود الإنساني كما يحارب المعنى الوحيد للخطاب الرسمي والصور النمطية التي تنتجها السلطة للاستهلاك، وهذا دون تشويه أو تحريف أو تزييف.


إن الثقافة الاجتماعية إذا أصبحت وحيدة ويتيمة المعنى بسبب الخطاب الرسمي، تسجن الحياة الإنسانية، تسجن الإبداع و الفضول للاكتشاف، لأنه لا معنى لهما عند انعدام الحرية، فالصور الثقافية والسياسية والأخلاقية والمفاهيم عندما تتوحد لتنمط على شكل معين وتقدم للجماهير جاهزة، لا تحتمل أي قراءة أخرى، وأي معنى آخر، تكرس البلادة النقدية، كما تنسف الذوق ومعه الوجود الإنساني في ضرورة اختلافه وحريته في الفهم والتفسير والاختيار.
وحالة فورة المثقف؛ لأنه ذات إنسانية وهو شيء طبيعي، لأنه متعلق بالمشاعر والأحاسيس، فيجب أن يتحفز بقوة إلى كل جديد ويلتزم بالإبداع في أحلك الظلمات وأوج التخلف إنها معركته في اكتشاف مسارات أخرى كما انه التزام أخلاقي منه تجاه مجتمعه ليؤدي دوره المنوط به، وهو محاسب على تفريطه على أي حال، وأهم وازع هو الوازع الداخلي؛ ذلك الضمير الحي؛ الذي يكشفه أمام نفسه ويحاصره ضمن الإيمان بالواجب.

يوسف محمد بناصر
مدون وباحث في الفكر الديني والحضاري
أكادير- المغرب
[email protected]