لايزال الدين يلعب دورا مؤثرا في حياة معظم البشر، ومن هؤلاء البشر المسلمون. ومن أبرز نتائج هذا التأثير في المجتمعات العربية والمسلمة هو صعود نجم الإسلام الفقهي وارتفاع درجة وصايته على حياة المسلمين وتراجع الدور المؤثر للأنواع الأخرى من الإسلام على حياتهم، ومن هذه الأنواع الإسلام الصوفي العرفاني الحاث على الإيمان وكذلك الإسلام المتمم للأخلاق الحاث على الإنسانية.


ويتفق معظم الباحثين على أنه لايمكن اختزال مفهوم الإسلام في الفقه. فالدين الإسلامي يحتوي على مناهج دينية عدة تعكس صورته ووجهه. بمعنى أنه إذا احتوى الدين على فقه، فهو يحتوي أيضا على عقائد وعرفان، وعلى أخلاق. لذا من غير الطبيعي اعتبار الإسلام الفقهي هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، ولا اعتباره العنصر الأبرز في الدين.

إن التعريف البسيط للدين الفقهي هو بمعنى الدين الذي يطغى فيه الفقه على عناصر الدين الأخرى، إذ هناك تأكيد من قبل المدرسة الدينية الفقهية على أن الفقه يعتبر العنصر الأبرز في الدين. وفيما لو تمعنّا في الشأن الديني عند المذهبين السني والشيعي، وفي مدارسهما المختلفة، سوف نجد بأن الفقه يلعب دورا مسيطرا ومؤثرا فيه، وأن الأخلاق والعرفان يحتلان مرتبة متأخرة من هذا التأثير. لذا أي حديث عن دور بارز للإسلام العرفاني أو الإسلام الأخلاقي في المجتمعات العربية والمسلمة يعتبر حديثا غير واقعي، حيث الإسلام الفقهي يسيطر على الوضع الديني في معظمه، بل على الحياة بشكل عام. فإذا ما تمعنا في البرامج الدينية على شاشات الفضائيات سوف نستكشف طغيان الفقه عليها، وسوف لن نجد إلا أثرا بسيطا للبرامج الدينية الأخلاقية أو الإيمانية العرفانية فيها. كذلك لو تمعنّا في الخطاب الديني السائد في الوسط الاجتماعي لأحسسنا ضعفا شديدا لناحية التعبئة الروحية المعنوية وفراقا شاسعا عن الجانب الأخلاقي، ولوجدنا منهجا فقهيا مليئا بالأوامر القانونية المستندة إلى ظاهر الدين وقشره. وتدل التجارب على الارض أن الإسلام السياسي الفقهي يتبنى مواقف بعيدة عن أبجديات الأخلاق والصورة الإنسانية التي يجب أن يتحلى بها أنصار أي دين. فالمواقف الطائفية الدينية والعمليات الإرهابية الدينية ودفع الدين في أتون المصالح الدنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جعل ممكنا تبرير أي تصرف غير أخلاقي وغير إنساني تجاه الآخر واعتباره مجازا شرعا استنادا إلى الأدلة الفقهية، خاصة إذا ما كان هذا التصرف يصب حسب مزاعم الفقهاء في صالح قضايا الإسلام والمسلمين. إن ذلك وغيره ساهم في أن يصبح الدين أسيرا في سجن الفقه والمصلحة، بعيدا عن أطره الأخلاقية الإنسانية والإيمانية.
لكن، ما الذي جعل هذا النوع من الإسلام يهيمن على مجتمعاتنا فيما ضعف دور الأنواع الأخرى؟


مما لاشك فيه أن من أسباب ذلك هو سيطرة الفقه على الدين وتزايد نفوذ رجال الدين الفقهاء على المجتمعات العربية والمسلمة وتراجع الدور المؤثر للمنهج الديني الأخلاقي والإيماني. كما أن الغالبية العظمى من المعرفة الدينية التي يكتسبها رجل الدين الراهن في المراكز الدينية التي يتخرّج منها هي معرفة فقهية، فيما المعرفة المتعلقة بالأخلاق والإيمان، رغم أنه يتلقاها إلا أنها لايمكن أن تُقارن في حجمها وأهميتها بكمّ وأهمية الفقهية. لذا من الطبيعي وصف الفقه غصبا بأنه quot;أهم المعارف الدينيةquot;. أضف إلى ذلك أن الإسلام الفقهي يسير وفق نظام قانوني وقشري لايقبل السؤال، إذ هناك أوامر فقهية (فتاوى وأحكام) من جهة وتنفيذ صارم لهذا الأوامر (تقليد) من جهة أخرى. وبعبارة أخرى فإن الطبيعة القانونية للفقه ترفض السؤال، في حين أن الإسلام الأخلاقي والإسلام الإيماني هما في الضد من التقليد ويحثان على النقاش الحر الطبيعي الرافض للتبعية العمياء حتى يحققا غاياتهما المعرفية. فالإسلام الفقهي لايمكن إلا أن يعيش في ظل التقليد وفي إطار رفض السؤال والنقد، فيما الإسلام الأخلاقي والإسلام الإيماني لايمكن أن يتعايشا مع التقليد حيث يمتلكان مساحة واسعة من التعايش مع السؤال والنقد.


بالنسبة لأنصار الإسلام الفقهي فإن الدين يتلخص في الفقه، وفي قيام الفرد المسلم quot;الملتزمquot; بتقليد الفقيه في كل ما يصدر عنه من فتاوى وأحكام، ولا مجال لأي نقاش بين الطرفين. فهناك جهة لديها مسؤولية إصدار الفتاوى والأحكام، وجهة أخرى ملزمة بتنفيذ تلك الفتاوى والأحكام ولا خيار أمامها للسؤال أو النقد. بمعنى أن المنهج الفقهي يلغي إرادة الإنسان ودوره المسؤول في المحاسبة والنقد والتدقيق والتمحيص والمشورة قبل الإقدام على أي عمل.


للأسف فإن أنصار الإسلام الفقهي عادة ما يعتبرون أنصار الإسلام الأخلاقي والإيماني منحرفين عن طريق الدين، لأنهم في اعتقادهم رفضوا ثقافة الرضوخ الكامل والانصياع التام للفقه والفقهاء وسعوا لسؤالهم ونقدهم وعدم تقليدهم. وفي واقع الأمر لا يمكن لحلاوة الإيمان وتعدد طرقها أن تتعايش مع quot;الواحديةquot; الفقهية الجازمة، أي مع التقليد واللاسؤال. كما لا يمكن الحث على الإبداع في المسائل الثقافية والروحية والمعنوية إلا من خلال الحرية والتعددية واللاتقليد، فيما الإيمان الذي يحث عليه الفقه لا يمكن إلا أن يكون إيمانا موجّها وآليا غير قابل للتعايش مع التطوّر والإبداع، لأنه إيمان موجّه وقشري، أي مرتبط بالقانون الفقهي القائم على التقليد والغير منطلق من أرضية الحرية والتنوّع.


من الضرورة بمكان الحفاظ على إيمان الناس، لأنه يساهم في الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه. لكن من الضرورة أيضا ألاّ يسيطر الإسلام الفقهي على إيمانهم وطرق عيشهم، لأنه يأسرهم في نهج الرضوخ الأعمى لكل ما يصدر عن الفقيه من فتاوى وأحكام وآراء ومواقف، وبالتالي يبعدهم عن نهج السؤال والنقد. في حين لابد أن يكون ارتباط الناس بالدين مستندا إلى الحرية، وأن تصب مخرجاة الدين في الأطر الإنسانية والأخلاقية، وهذا ما لا نراه في الإسلام الفقهي. فممكن للناس أن يكونوا متوافقين مع النظام الديني الفقهي ومنسجمين معه في حياتهم، لكن هل سمعتم عن شعوب حققت التقدم والتطور فيما تسيطر عليها الثقافة الدينية الفقهية القائمة على التقليد واللاسؤال؟ فلا نستطيع أن نعبّد طريق التطور إلا بطرح خليط يحتوي على عناصر عقلية علمية تكنولوجية وعناصر ثقافية معنوية روحية من خلال استناد ذلك على الحرية والتعددية والنقد. نحن هنا لاندعو إلى إلغاء الفقه من الدين، فهذا ما لا نريده ولا يمكن أن يحدث. إنما ندعو إلى الحد من هيمنة الفقه على الشأن الديني، والحد من هيمنة الفقهاء على الحياة، والدعوة إلى التعلّق بالمسائل الأساسية التي يحث عليها الدين وهي الأخلاق والإنسانية والإيمان. إن الإسلام الفقهي حوّل الصورة الروحية المعنوية للدين إلى عادات طقوسية قشرية تنزع إلى التخويف والترهيب والإجبار منها إلى التعلّق بالإيمان كصورة من الصور الحاثة على النزعة الإنسانية الأخلاقية. فالإسلام الفقهي يحث على ممارسة الطقوس الدينية المنزوعة من روحها المعنوية، لأن منهجه يفتقد إلى علاقة واضحة مع نهج الإيمان، بمعنى أن المنهج الفقهي لا يؤسس للإيمان إنما يؤسس لشعائر قشرية فارغة المحتوى، لا الشعائر المحفزة على الإيمان الأصيل في سبيل خدمة الإنسان وتشجيع مكارم الأخلاق. والذي يتعايش بين أنصار الإسلام الفقهي سوف يستشعر مقدار التشدّد في الحث على الصلاة والصوم والحج وفق صوره آلية ميكانيكية قشرية، في حين من السهولة بمكان استكشاف كمّ السلوكيات غير الاخلاقية في أوساطهم من دون أي إحساس بالذنب، كالكذب والغيبة والنميمة والخيانة وتحقير الرجل للمرأة وتحقير الكبير للصغير وتحقير المسلم لغير المسلم وتشجيع الطائفية وكأنها همّ ديني.

فاخر السلطان
كاتب كويتي
[email protected]