انتهت مهزلة الصحافية الأمريكية من أصل إيراني روكسانا صابري مثلما بدأت، بصورة تثير السخرية، خاصة ما يتعلق بالتهم الملفقة الموجهة لها والتي استخدمها النظام الإيراني كذريعة لاعتقالها ومحاكمتها بتهمة التجسس لصالح أمريكا والتخابر مع دولة معادية لإيران، وبالفعل صدر الحكم عليها بالسجن ثماني سنوات ولو كانت شخصية أخرى لحكم عليها بالإعدام، ولكن، وفجأة، تم استئناف قرار الحكم وتخفيفه إلى عامين مع وقف التنفيذ وإطلاق سراح الصحافية الشابة، التي قيل أنها كانت قد استنسخت بصورة غير مشروعة تقريراً سرياً يتعلق بالغزو الأمريكي للعراق وقع بيدها بعد أن صدر عن مركز للأبحاث الإستراتيجية في طهران مستقلاً عن السلطات الإيرانية. والحال أن البحث المشار إليه لا يتحلى بأية سرية، كما أن الصحافية لم تستخدمه كما ذكر محاميها صالح نكبخت. وقد صرح المحامي المذكور أن محكمة الاستئناف تذرعت بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في حالة عداء مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالتالي تقع السلطات الإيرانية في تناقض مضحك ومفارقة تثير تساؤلات عديدة ليس أقلها أن إيران خضعت لضغوط دولية مارستها أمريكا، من خلال النداء الشخصي الذي وجهه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومن قبل اليابان أيضاً لكون جنسية والدة روكسانا يابانية، وأن طهران أرادت توجيه رسالة للولايات المتحدة مفادها أن إيران مستعدة للتعاون والتفاوض والتحاور والاعتدال، بيد أن واشنطن لم تترجم هذه المبادرة على أنها محاولة لتسخين العلاقات مع طهران أو كونها بادرة حسن نوايا على طريق الدبلوماسية. يبدو أن إيران مغرورة بحجمها وقدراتها العسكرية وهي تقامر بشعبها ولا تعلم ما يحاك لها في الظل حيث تقوم إسرائيل منذ فترة بعمليات قصف افتراضية بأسلوب المحاكاة على الكومبيوتر لقصف المواقع النووية الإيرانية. كما أن طهران تخطيء في حساباتها لو اعتقدت أن القصف الجوي الأمريكي على منشآتها النووية والعسكرية الإستراتيجية والصاروخية عن بعد بدون الزحف البري والغزو العسكري على غرار ما حصل للعراق، لن يؤثر على استمرار النظام الإسلامي، فهذا الأمر، لو حدث، فإنه سيزعزع الجبهة الداخلية إلى درجة قد تؤدي إلى نشوب حرب أهلية مدمرة بين مكونات المجتمع الإيراني المتنوعة والمتباينة.


يتعين على قادة النظام الإيراني أن يدركوا بأن إسرائيل لن تخفف من كثافة مراقبتها وتتبعها الدقيق لتطورات الملف النووي الإيراني الذي تعتبره الأخطر على وجودها وأمنها القومي. وأن مجموعة الضغط الأمريكية في الكونغرس، والموالية لإسرائيل، آيباك ـ Aipac، تساءلت بجدية، بمناسبة انعقاد اجتماعها السنوي، عن حقيقة الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والخطوط الحمر التي يجب أن تضعها تلك الإستراتيجية أمام طهران فيما يخص برنامجها النووي.


من الثوابت في الإستراتيجية الأمريكية هو حماية دولة إسرائيل وتقديم المساعدات المالية والعسكرية لها دوماً وتأييدها في جميع الأحوال والظروف وفي كافة الأزمات أياً كانت الإدارة الأمريكية وأي كان رئيسها وأي كان لون الحكومة الإسرائيلية، وهاهو بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالي يطالب بمقاربة جديدة قائمة على التنسيق والتعاون التام بين واشنطن وتل أبيب فيما يتعلق بقضية السلام العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وبالطبع ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وقد أوصل رسالته هذه إلى المجتمعين في مؤتمر الآيباك. كما تمارس تل أبيب ضغوطاً كبيرة بغية استمرار سياسة العقوبات والمقاطعة والحصار المفروضة على إيران من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبقية المجتمع الدولي لاسيما الاتحاد الأوروبي. وترغب إسرائيل في إقناع العرب، عن طريق أمريكا، بأن لديهما عدو مشترك هو إيران والحال أن هناك عدد من الأنظمة العربية المتخوفة من برنامج إيران النووي مقتنعة بهذا الطرح الإسرائيلي دون أن تجرأ على الإفصاح عن ذلك علانية. بالرغم من جميع محاولات الطمأنة الإيرانية بسلمية مشروعها النووي إلا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية AIEA تنظر بعين الشك للمساعي الإيرانية لامتلاك الدورة النووية الكاملة والإصرار على تخصيب اليورانيوم بكميات صناعية داخل الأراضي الإيرانية. فبعد عملية دقيقة من الفرز والتدقيق لمخزون اليورانيوم المخصب الذي أنتجته إيران منذ عامين تبين أن هناك فرق كبير بين ما هو معلن والكمية الحقيقية لما تم تخصيبه فعلاً. واتضح أن هناك 200 كيلو من اليورانيوم المخصب UFE أكثر مما أعلنته طهران للوكالة الدولية وأن طهران تمتلك أكثر من 1000 كيلو من اليورانيوم المخصب بدلاً من 800 المسموح بها للأغراض المدنية وبالتالي سيكون بإمكان طهران استغلال هذا الطن من اليورانيوم المخصب لتصنيع الوقود اللازم لصنع قنبلة نووية حسب رأي العديد من الخبراء. وبمجرد انتشار الخبر دب الخوف والقلق في الدوائر المعنية في واشنطن وتل أبيب حيث باتت طهران على قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي، كما أعرب عن ذلك رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال موللين Mullen على شاشة السي أن أن CNNبينما أعلن رئيس المخابرات الإسرائيلية أن طهران بلغت العتبة الخطيرة في هذا المجال.


لا يتعلق الأمر بمجرد عمليات تخصيب اليورانيوم بل بكامل ملحقات البرنامج العسكري الإستراتيجي الإيراني وأعني بذلك برنامج الصواريخ الباليستية الحساس لاسيما الصواريخ البعيدة المدى القادرة على بلوغ الأراضي الإسرائيلية والأوروبية، ومحاولات إطلاق قمر صناعي تجسسي إيراني مما يعني في خلد البعض نوايا مبيتة تلغي كافة الشكوك وتقدم اليقين التام على نية الجمهورية الإسلامية في توجيه عدة صواريخ محملة برؤوس نووية نحو إسرائيل وأوروبا. فمتى سيكون بوسع طهران تجهيز نفسها بوسائل الردع المرعبة هذه؟ يقدر البعض المدة ببضعة أشهر والبعض الآخر ببضعة سنوات. وهناك أيضاً نسبة التخصيب، فكم هي كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 5،3% التي يتطلبها الجانب السلمي والمدني والضرورية لتخصيب ما لا يقل عن 20 كيلو من اليورانيوم المخصب بنسبة 90% اللازم للمستوى العسكري والضروري لصنع قنبلة نووية؟ البعض يقول أن ما تمتلكه إيران حالياً من اليورانيوم المخصب، أي ما يزيد على الطن كافٍ، بينما يعتقد البعض الآخر، ومن بينهم الفرنسيون، أنه يتوجب توفير ما لايقل عن 1500 كيلو وهو ما ستستطيع طهران توفيره من الآن إلى نهاية الصيف القادم 2010، وعلى أقصى حد في سنة 2015، خاصة بعد تمكن المهندسين الإيرانيين من تقنية التخصيب كلياً وهم يحتاجون لبضعة أشهر قليلة لتحقيق هذا الهدف حسب اعتقاد الخبراء النوويين الفرنسيين. عند توفر 20 كيلو من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 90% على شكل غاز، يجب تحويله إلى معدن صلب وهذه العملية تستغرق ما لا يقل عن 6 أشهر حسب خبير في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن. وبعد ذلك تأتي الخطوة العملية الحساسة وهي توفير خارطة علمية وتقنية دقيقة لصنع الرأس النووية. ويقال أن العالم النووي الباكستاني عبد القادر خان كان سلم طهران سنة 1987 خرائط بدائية لتصنيع رؤوس نووية قليلة الفعالية تشبه القنبلة النووية الصينية لسنة 1960، في حين كشفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السي آي أ CIA أنها عثرت في كومبيوتر شخصي لأحد العلماء النوويين الإيرانيين سنة 2004 على خرائط لتصنيع رؤوس نووية متطورة جداً. لا تتوفر معلومات دقيقة عن قدرة الخبراء والمهندسين الإيرانيين على تصنيع رأس نووية أو إمكانية تجريبها خاصة وأنهم علقوا تجاربهم العسكرية في هذا المضمار حسب ادعائهم من خريف 2003 ولغاية منتصف سنة 2007. يشكك بعض الخبراء بقدرة طهران الصاروخية وأن أكبر ما يمكن للصواريخ الإيرانية البعيدة المدى حمله هو 25 كيلو بينما يزن أصغر رأس نووي ما لا يقل عن 500 كيلو. وهناك شبه إجماع بشأن غموض النوايا الإيرانية فيما يتعلق بسلمية ومدنية البرنامج النووي الإيراني لغرض لتوليد الطاقة الكهربائية فقط. وهناك اعتقاد شائع أن إيران تريد أن تكون قادرة على صنع أسلحة نووية متى شاءت ذلك أو كلما استدعت الظروف الدولية والإقليمية ذلك على غرار ما وصلت إليه دول كتايوان وكوريا الجنوبية واليابان وألمانيا من مستويات تقنية في مجال التكنولوجيا النووية، بينما تعتبر حكومة القدس أن لا فرق بين أن تكون طهران قد امتلكت سلاحاً نووياً أو أن تكون قادرة على صنعه في غضون أسابيع قليلة فالخطر هو ذاته، وبالتالي ينبغي حسم هذا الملف بأسرع وقت، أولاً عبر مفاوضات مكثفة وصريحة وصارمة مع إيران، وثانياً توضيح التداعيات الخطيرة المترتبة على تجاوز طهران للخطوط الحمر التي ستضعها المجموعة الدولية أمامها حيث أن مجال النقاش هو الذي سيفصل بين حالة الحرب والسلم مع الجمهورية الإسلامية.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]