الجزائر 22 مايو 2009

جمال الدين خلفاوي، صحافي ومخرج تلفزيوني جزائري مقيم بفرنسا، عُرف بأعماله الهادفة. أنتج أفلاما وثائقية عديدة باللغة الفرنسية تُعنى بالأعمال الفنية الجزائرية، من بين هذه الأفلام: الجزائر الآن، الجزائر ذكريات أغنية الراي. وآخرها كان فيلما عن مطرب أغنية (الراي) المعروف الشاب حَسْني الذي اغتيل عام 2004.

خلفاوي كان في زيارة الأسبوع الماضي إلى الجزائر لمواصلة تصوير فيلمه الأخير، ووسط زحمة السير في مدينة الأغواط جنوبا، كان يقود سيارته وبجنبه ابن خاله، ضايقه أحد السائقين من الخلف، تبادل معه كلمات اتسمت بالغضب من عدم احترامه قوانين المرور، نزل السائق فأوسعه ضربا بقضيب حديدي، وأشهر مسدسه لإرهاب الناس الذين حاولوا التدخّل، دخل خلفاوي غرفة الانعاش بعد إصابته بنزيف داخلي في الدماغ. انتقل إلى بارئه يوم الجمعة الثاني والعشرين من مايو على الساعة الخامسة إلا ربع مساء في مستشفى الأغواط. التحقيقات توصلت إلى أن المعتدي ضابط سام في الأمن العسكري. هكذا رحل فنان ومُخرج كان يبحث في أسباب العنف الذي حصد حياة أكثر من مئتين وخمسين ألف جزائري ولايزال. خلفاوي كان يبحث في أسباب اغتيال رمز الأغنية العاطفية والشبابية الشاب حسني، وسرعان ماتحوّل ndash; هو نفسه- إلى ضحية للعنف الذي أبعده إلى المنفى الاختياري بفرنسا.

الجزائر: 28 مايو 2009

كان عصر يوم خميس، يوم عطلة في الجزائر. عشرات العائلات قصدت المجمع السياحي الذي يسمى حمام الصالحين في مدينة خنشلة شرقا، حيث المياه المعدنية الطبيعية. مشاداتٌ كلامية وتلاسنٌ بدأ بين بعض الشباب وأحد حراس المجمع، ثم انضم نحو مئتي شخص إلى المشادات التي تحولت إلى معارك بالسكاكين والعصي والهراوات، تمّ تكسير كل ما طالته أيدي الشباب وأُُخذ النزلاء رهائن إلى صبيحة يوم الجمعة. تبين فيما بعد أن الخلاف نشب بعد أن قررت السلطات غلق بعض الأكشاك الفوضوية التي يمتلكها شباب المدينة الذي اتهم بدوره صاحب المجمع بالتآمر مع أصحاب النفوذ لإبعادهم عن وسط المدينة. المعارك خلّفت جرحى وصدمات نفسية لدى العائلات والقُصّر وخسائر مادية معتبرة.

الجزائر: منذ يناير 1992

منذ أن أوقفت السلطات الجزائرية المسار الانتخابي وأعلنت تطبيق حالة الطوارئ السارية إلى يومنا هذا، والعنف ينهش المجتمع الجزائري. العنف الذي مارسته السلطة في حق منتخبي وناشطي ومناصري الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تجلى في رفضهم سياسيا بحل الحزب ومنعهم من حق السفر والانتخاب والترشح. ثم اجتماعيا بزجّهم في معتقلات الصحراء. ثم ثقافيا بمنع مناشيرهم وصحفهم ومنابرهم. رد الفعل كان عنفا مضادا أعمى لم يُفرق بين المتخندق في صف الاستئصال وبين الممارس لوظيفته داخل الدولة كالجندي والشرطي والصحافي والموظف البسيط. تطورت أساليب العنف لتُقصي شرائح واسعة من المجتمع وتُرجم ذلك في المجازر الجماعية. السلطة ارتكبت خطيئة سياسية بوقف المسار الانتخابي ثم حاولت استدراكها بطرح قانون الرحمة الذي تحول إلى قانون الوئام المدني ومشروع المصالحة الوطنية وسينتهي بقانون العفو الشامل. بالمنطق البسيط، تصالحت قيادات العنف والعنف المضاد. وبعد خراب مالطا وزعت الأدوار والأرباح والمكاسب فيما بينها على حساب المواطن البسيط. بقي منفذو الانقلاب في مناصبهم وترقّوا في الرتب واستفادوا من ريع النفط. في المقابل أعلنت قيادات العنف المضاد التوبة عن سلوكها العدواني واستفادت من الحماية ومن فتات الخزينة العامة.

بعد كل ماحدث سطع نجم أبطال جُدد في سماء جزائر اليوم، الأبطال ليسوا فلاسفة ولاعلماء ولامثقفين. جرّب أن تفتح أي صحيفة محلية على النّت، خصوصا المُعرّبة منها والتي تسيطر على عقول القراء من الشباب المراهق، ستجد أن نجوم المجتمع هم من طينة حسان حطاب الأمير السابق لأكثر الجماعات المسلحة دموية (الجماعة الإسلامية المسلحة) وعبد الرزاق البارا زعيم (الجماعة السلفية للدعوة والقتال) ومدني مزراق الأمير السابق ل(الجيش الاسلامي للإنقاذ) وغيرهم كثيرون، أخبارهم تحتل الصفحات الأولى في جرائد الألفية الثالثة في الجزائر، إنهم يقابلون المسؤولين السامين ويُصْدرون البيانات ويدلون بآرائهم حول السياسة والدين وما ينبغي أن يكون عليه الوضع. سفراء العنف الأعمى (المتقاعدون) يتمتعون بالحماية الأمنية من الرسميين ويستفيدون من تعويضات سخية، وفي المقابل يخرج معطوبو وضحايا العنف المضاد في مظاهرات شبه يومية مطالبين السلطة بتعويضهم عن السنوات التي قضوها في ما اصطُلح عليه، الدفاع عن مؤسسات الجمهورية في مواجهة الإرهاب الإسلاموي.

الأغلبية الصامتة لم تعد صامتة

بل باتت عنيفة، مرحلة العنف السياسي ولّد قناعة لدى غالبية الشعب بأن الوصول إلى الهدف في بلده لايتم سوى بممارسة العنف. الأخبار اليومية التي تتناقلها الصحف والألسنة لا تبشر بخير. على سبيل المثال، الحكومة تستجيب لتنمية بعض المناطق دون أخرى رضوخا منها لتصاعد الاحتجاجات العنيفة وأعمال الحرق والنهب. والسّلطة تُعوّض قادة العنف المضاد بسخاء وتُهمل البقية من البسطاء والشباب الذين ألهبتهم الخطب النارية والوعود بالجنة. من هنا بدأ العنف الاجتماعي من أجل التعبير عن واقع مأساوي، فمحاولات هروب الشباب على متن قوارب خشبية قديمة إلى ضفة المتوسط الشمالية هو نوع من التعبير بطريقة عنيفة عن رفض الواقع لأن عواقب هذه المغامرة جد خطيرة، والإحصاءات تشير إلى وجود ستمئة جثة لمهاجرين سريين جزائريين مُهملة في مستشفيات اسبانيا أُحرق بعضها ونُثرت رمادا وهناك أربعمئة شاب جزائري في سجون أثينا والمئات في سجون صقيلية وباليرمو ومرسيليا وأليكانت، إضافة إلى مئات المفقودين. أما الانتحار أو محاولات الانتحار الجماعية من فوق مباني البلديات أمام مرأى الجميع ماهو إلا عنف أعمي في حق النفس الكريمة التي أهانتها ممارسات السلطة. كما أن الخروج إلى الشوارع وتكسير المباني الحكومية ndash; التي هي ملك الشعب- وحرق العجلات المطاطية هو العنف الاجتماعي في أكبر تجلياته. العنف في الجزائر أصبح يُمارس الآن بين الطبقة المثقفة. بين مناضلي الأحزاب السياسية وبين الشعراء والنقاد والكتاب. وهذا ما حدث الأسبوع الماضي بين كاتبيْن، حيث أنهيا الجدل الثقافي والمعرفي بينهما بتبادل الصفعات واللكمات. قد يجادلني البعض بأن هؤلاء ليسوا مثقفين بل يعيشون في ضواحي الثقافة؟ نعم ولكنهم النموذج (الثقافي) الوحيد المتوفر أمام الأجيال الجديدة التي تسعى لإيجاد مَثَل أعلى في الحياة. إذا سلّمنا بهذا الجدل فحتى مدراء بعض الصحف المحلية باتوا يعيشون في ضواحي الصحافة، لأن الصحافة هي الكتابة والتعبير عن الرأي وفضح الاعوجاج، فمن غير المعقول أن ينشغل مدير صحيفة بكل شيء إلا الكتابة! وتقتصر مهمته على تكريم لاعبي الأندية والفنانين وحفظة القرآن وحتى الصحافيين ويُعلن جريدته راعيا حصريا للمباريات والمنتديات ولا يجد وقتا لكتابة مقال واحد في مسيرته المهنية حتى من باب تبرير منصبه! هذا أيضا صحافي في نظر المراهقين، وإن كان سمسارا جاهلا في نظر النخبة.

هذا الواقع الضحل يجرنا إلى الحديث عن قنابل أخرى موقوتة، فعشرات الآلاف من الأطفال الذين وُلدوا نتيجة اغتصاب الفتيات في الجبال و الذين بلغوا سن الرشد، سيُشكلون عبئا اجتماعيا كبيرا ولا شك في أنه سيأتي اليوم الذي سينتقمون فيه من المجتمع بطريقتهم، وسينضم إليهم الشباب الذي صُدم بصور الذبح والقتل التي كان يبثها التلفزيون الجزائري في التسعينيات، وإذا انضم إليهم الشباب الناقم على ظلم النظام فسيشكلون سيلا عارما يجرف ما تبقى من مؤسسات الدولة.

هذا المشهد المخيف ينذر بمستقبل كارثي ينتظر الجزائر دولة وشعبا، كما قال رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور، (إننا على عتبة مرحلة ينصهر فيها الإرهاب في العنف الاجتماعي، حينها سيُدق آخر مسمار في نعش هذه الدولة حديثة الاستقلال).

فتح نقاش واسع حول ظاهرة العنف

أصبح من المُلح والضروري الاعتراف بتفشي ظاهرة العنف اللفظي والجسدي في المجتمع، في المدارس والجامعات والإدارات والمؤسسات الدينية وحتى داخل المستشفيات. الاعتراف بالواقع جزء من حل المشكلة. يجب أن نعترف بالهزيمة، علينا أن نعترف بأننا وبعد خمسين عاما من الاستقلال لم نستطع أن نبني دولة مدنية عصرية تطبق مبدأ المواطنة الكاملة أين تُفرض الواجبات وتتوافر الحقوق. إننا لم نُحقق التنمية ولا الرفاهية لأجيال ما بعد الاستقلال. انهزمنا فكريا فأفلسنا سياسيا واقتصاديا. لازلنا نكرر تلك الأسطوانة المشروخة في التلفزيون وفي البرلمان وفي الحملات الانتخابية وفي الصحف: من كان عميلا لفرنسا؟ ومن اغتصب زوجات المجاهدين؟ ومن استولى على تبرعات الشعب للثورة؟ هذا الخطاب تسبب في تحجر العقول وحشو النفوس بالحقد وفي إفراز طبقيَّة مقيتة. المستفيدون من الريع هم من حمل عنوان المجاهدين وأبناء الشهداء. والمجاهدون والشهداء براء منهم. لقد تحولنا إلى شعب يستورد أربعين مليار دولار من المواد الاستهلاكية ويعيش على مداخيل النفط و الغاز ولا يستطيع صناعة إبرة. نستورد اللصوص لنستعملهم في تهريب الأموال ونطرد الكفاءات إلى الخارج. ونفرح وننتعش كلما سمعنا تلك العبارة الطنانة، أنتم شعب المليون ونصف المليون شهيد وبلد الثوار.

إن هذا الواقع المأساوي يفرض على النخبة من علماء نفس وعلماء اجتماع وذوي الاختصاص وممثلي منظمات المجتمع المدني ndash;غير الافتراضية- فتح نقاش وطني واسع حول ظاهرة العنف. فعجبا والله كيف نفتح النقاشات حول الأزمة الصومالية ونحن على مشارفها؟ وكيف ننقل أخبار مآسي العراقيين في بغداد والباكستانيين في وادي سيوات، ونحن ننام على مجرى واد عفن رائحته تزكم الأنوف؟

النقاش يتطلب الشجاعة والإخلاص ويستوجب العمل الجماعي وإنشاء لجان متخصصة لتقييم الظاهرة ومن ثم سبل معالجتها فكريا وتربويا ونفسيا واقتصاديا واجتماعيا. قد يقول قائل، إن العنف لا بد أن يستشري في كل مجتمع تستولي فيه الأقلية على مصادر الثروة على حساب الأغلبية الساحقة التي تتخبط في البؤس والفقر؟ أقول نعم هذا صحيح، إن تطبيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية من أنضج الوسائل التي تمتص مسببات العنف، لكن لا يمكننا أن ننتظر ساعة زوال النظام كي نبدأ نقاشا مُلحا كهذا، لأن الأعراض التي نعيشها ستقودنا حتما إلى الهاوية، والتجربة أثبتت أن نظام ما بعد الاستقلال لا يهمه مستقبل المجتمع بقدر ما هو مهووس باحتكار السلطة والبقاء فيها، في حين أن المسؤولية تتحملها أيضا النخبة التي يبدو أنها لم تستفق بعدُ من وقْع سنين الجمر.

سليمان بوصوفه