برز اسم الفتاة الإيرانية ندى آغا سلطاني، إلى واجهة الأحداث، والاهتمامات بعد الاضطرابات التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وأعلن فيها عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية رئاسية جديدة لمدة أربع سنوات.

ققد نقلت مختلف محطات التلفزة وبعض المواقع الإليكترونية والصحف، صوراً للفتاة وهي ممددة على الأرض، تسبح في بركة من الدماء، وفارقت الحياة، بعد ذلك، في مشهد محزن ومؤثر، إثر إصابتها بطلق ناري، لا يمكن تحديد مصدره، أو التأكد منه. وانطلقت لذلك حملة إعلامية ضخمة وشعواء في وسائل الإعلام الغربية تذكـّر بهذه المأساة الإنسانية التي ألمـّت بالفتاة الإيرانية الشابة الجميلة وعائلتها، وأصبحت عنواناً للكثير من نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف وتعليقاتها. كما نالت الكثير من الاستذكار والاستعطاف من رؤساء دول، وسياسيين بارزين، في واشنطن، وباريس، ولندن، وبقية العواصم التي تلهج بالبكائيات الانتقائية، إياها، على حقوق الإنسان، وتسكت عن فظائع وجرائم ومحارق وأهوال أخرى تحدث في غير مكان.

وحتى أن تلك المنابر الإعلامية التي تلتزم quot;المعايير المهنيةquot; في منع عرض مشاهد الموت والقتل، خرقت quot;معاييرهاquot; الإعلامية المقدسة، ويا للهول والشجاعة والبطولة، لتعرض ندى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة على الهواء في سابقة وquot;خبطةquot; إعلامية مدوية، في الوقت الذي دأبت فيه على عرض صور أبي غريب، والفظاعات quot;الديمقراطيةquot; الأخرى كصور ثابتة، كي لا تجرح المشاعر النبيلة للمتلقي الغربي بصور بعض quot;الأجناس البشريةquot;، وكله التزاماً بـquot;المعايير المهنيةquot;، والأخلاقية،؟

ومع الأسف والحزن، والتنديد الشديد بقاتل الفتاة، وأياً كان، وزهق روحها البريئة على ذاك النحو الدموي المأساوي، فإنه من الصعوبة بمكان ابتلاع تلك الحملة وأخذها على أي محمل جدي أو إنساني وأخلاقي على الإطلاق، وإذا تم ابتلاعها، وعلى مضض، طبعاً، فإنه قد يكون من المستحيل quot;هضمهاquot;، نهائياً. فالذاكرة الشعبية، والشعور الجمعي العام يكتظ، ويعج، ويستحضر في برهة، ربما، مئات المآسي المشابهة والمآسي التي أغمضت نفس هذه الوسائل الإعلامية عينها عنها، وأشاحت الطرف عن أي ذكر لها، ولم تعطها نفس التركيز والاهتمام، لا بل حاولت تمييع بعضها، وطمسها، من العراق، إلى الباكستان، وأفغانستان، ولبنان، وفلسطين.

ولا ندري، ها هنا، والشيء بالشيء يذكر، لـِمَ لم تأت على إتباع نفس آليات التفصيل الممل، والعرض المتكرر، ومراثي الندب واللطم، في تناولها لمأساة عبير العراقية حيث لم نشهد نفس طقوس هذه الفزعة والنخوة والغيرة على quot;بناتquot; المسلمين؟

فعذراء المحمودية العراقية البريئة، كما أطلق عليها، ذات الأربعة عشر ربيعاً، والتي تم اغتصابها، وبوحشية وسادية،، وبدم بارد، وأكثر من مرة، على أيدي جنود الاحتلال ثم أحرقوا جثتها، وهدموا منزلها فوق رؤوس أصحابه، وقتلوا أختها الصغرى هديل، وأباها قاسم، وأمها فخرية طه محسن، في شهر مارس/ آذار من العام،2006، لم تحظ المسكينة بذات الضوضاء والصخب الإعلامي المجلجل المثير، وماتت بصمت مطبق كما يموت آلاف البؤساء والفقراء في هذا العالم المترامي الأطراف. وقد وجه الاتهام حينئذ إلى الجندي الأمريكي ستيفن غرين، وخمسة من رفاقه، وحوكم لاحقاً، ولم يتم إعدامه كما كان متوقعاً، ونال مع رفاقه الآخرين أحكاماً اعتبرت مخففة، في نظر كثيرين. ولن ندخل، ها هنا، في الحيثيات القضائية وتطورها، فهي ليست في صلب موضوعنا، كما هو شأن الواقعة بحد ذاته، وهو القتل، والاغتصاب، والتمثيل والانتهاك وإحراق جثة وإجرام المتعمد عن سابق قصد وتصميم، الذي يجعل من موت ندى سلطاني نزهة ورحلة ترفيهية إلى العالم الآخر ومجرد quot;لعب عيالquot;، أمام الموت المرعب لعبير الجنابي. ورغم كل ذلك، فمأساة عبير لم تستأهل من نفس الإعلام الغربي quot;الإنسانيquot; المتباكي ذارف الدموع السخية على ندى سلطاني، اليوم، والتي لا نبرر موتها بحال من الأحوال، أي نوع من الاهتمام والمراثي والمواويل التي يطلقها اليوم في كل الاتجاهات.

وربما كانت الصدفة، وسوء الطالع وراء وجود هاتين الفتاتين البريئتين، في الزمان والمكان الخطأ، فإنه لا يجب أن يكون من سوء طالعنا، الأبدي، نحن، أن نبقى نستمتع بهذا الكم الهائل من الاستغفال المبرمج وتمرير كل هذا التسذيج الممنهج، وعلى هذا الشكل والمنوال.

ويا ليت نفس أولئك الساسة، وتلك المنابر quot;الإنسانيةquot; جداً، كانت قد ذكرت تلك الموشحات الحزينة عن عبير المسكينة العراقية، لقلنا آمنا وصدقنا، أمـّا التعامي عن مأساة هنا، والتركيز على نفس المأساة هنا، فإنه يطرح عشرات الأسئلة، ويضع آلاف علامات الاستفهام، ليس على المعايير المهنية لوسائل الإعلام تلك، بل على الدوافع والذرائع وراء ذلك، وعلى التركيبة الأخلاقية لهذا الإعلام، ويقوض أية شرعية له من الأساس.

وبين عبير قاسم حمزة الجنابي، وندى آغا سلطاني، يتم كشف المزيد من مفارقات وازدواجية معايير هذا الإعلام والديمقراطيات. وهنيئاً لكل من يجد الغرب في موته مكسباً سياسياً، وأداة ضغط، فلا بد أنه سيجد من يذكره ويؤبنه ويحفل به في أمهات الصحف وكبريات وسائل الإعلام، وأما من لا طائل من موته، ولا جدوى سياسية، فسحقاً له، وquot;عليه العوضquot;، وquot;منه العوضquot;، ولا عزاء، أبداً، للفقراء.

نضال نعيسة