واحدة من اخطر الظواهر التي أفرزتها الأنظمة الدكتاتورية والاستبداد الاجتماعي في منطقتنا هي الانتهازية والتدليس والنفاق الاجتماعي التي جاءت كما يقول علماء النفس وأساتذة التربية نتاجا لحالة الخوف والارهاب التي تعيشه الاسرة ومن ثم المجتمعات، ومن ثم جاءت ظاهرة الكذب نتاجا للخوف وفقدان الثقة بالنفس وبالاخر، وان الانتهازية والتملق والتزلف بنات شرعيات للكذب والمجتمعات ذات الأنظمة الشمولية والبوليسية أكثر المجتمعات احتضانا لبنات الكذب وأكثرها انتهازية وتملقا مع الحاكمين سواء في تكوينها القبلي والعشائري أو في مؤسساتها الإدارية وصولا إلى قمة الهرم، وقد دفعت البشرية خسائر فادحة حتى استطاعت مجتمعاتها المتحضرة حل هذه الإشكالية بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان بصرف النظر عن العرق والدين واللون والجنس.


لقد انعكست مظاهر الانتهازية والعدوانية على شكل التعامل بين السلطة والاهالي من جهة وشكل البناء الاجتماعي القروي والقبلي والنظام التربوي البدائي من جهة اخرى في التعاطي مع الفعاليات الحياتية بكل أنماطها في السياسة والمجتمع والاقتصاد والتربية والتعليم وحتى على مستوى العلاقات الشخصية بين الأفراد أو المجموعات، حيث تسود مشاعر الانانية والحذر الشديد والتوجس إلى درجة الخوف من الآخر بل والشعور بالعدوانية تجاهه، ففي معظم مجتمعاتنا الشرقية التي تعاني من أمية أبجدية وحضارية وثقافة قروية وسلوك بدوي ما زال يسكن دواخل الكثير من الذين غيروا أشكالهم وديكوراتهم بإكسسوارات المظاهر دونما الالتفات إلى نوعية السلوك وتقدميته إلا بالقدر الذي يحافظ على مصالحهم الذاتية والمظهرية والتي تنحصر في مجملها بعقلية الربح والخسارة، تسبقها دوما سوء النية في التعامل اليومي والتعاطي مع تفصيلات الحياة اليومية بين البشر، على خلفية البقالة المجردة من المشاعر الخلاقة.


حيث مارست الطبقة الحاكمة سواء كانت فردا او حزبا او شريحة اجتماعية، ضغوطا هائلة على المجتمع من خلال المجموعات التابعة والملحقة بها من المستفيدين من عطاياها وسلطنتها الذين يشكلون خطوط حمايتها وابواق دعايتها وسدنة حكمها ومن ثم مراكز هيمنتها واداراتها، حيث تولت هذه ( الملحقات المعوقة ) مسؤوليات ادارية واقتصادية وحتى اجتماعية مهمة في المجتمع والدولة وخير مثال على ذلك تلك المجاميع التي انتجها النظام الدكتاتوري من خلال مؤسساته القمعية والحزبية من الاميين وانصافهم منذ بداية الستينات من القرن الماضي وتولي الكثير منهم قيادات مهمة في الجيش وحقائب وزارية وادارات المحافظات والمدن وحتى في الجامعات وعماداتها، ناهيك عن عشرات الالاف من صغار ومتوسطي الموظفين في كل مفاصل الدولة.


وبدلا من تكريس الحياة المدنية ونقلها الى الريف والقرية واحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية ترتقي بها من تلك الانظمة المغلقة والمحدودة والمقيدة بنظام العبودية للشيخ والاغا واحيانا كثيرة لرجال الدين القرويين اشباه الاميين الى مستويات اعلى واكثر تطورا، بربط تلك المناطق بمنظومة من الطرق والاتصالات والخدمات والمناهج التربوية التي تحدث تغييرات مهمة في بنائها التحتي، عملت كل الانقلابات التي هيمنت على السلطة وادعت تغيير النظام السياسي والاجتماعي واحيانا كثيرة الاقتصادي السابق لها الى نظام جمهوري مدني اشتراكي، لا الى نقل المدينة الى الريف بل حصل العكس بنقل الريف وتهجيره الى المدن، مما اضاع فرصة ثمينة لتطوير الريف والمدينة بل عمل على مسخ هوية المدن واغراقها بانماط قروية وقبلية في السلوك والتصرف.


وخلال عقود قليلة تحولت تلك الافواج من القرويين الى مجموعات منقادة اخترقت كل انظمة المجتمع والدولة وبخاصة مؤسسات الجيش والشرطة والتعليم الاوسع انتشارا من غيرهم في الهيكل الوظيفي للدولة، هذه المجموعات التي أفرزتها تلك الأنظمة المستبدة سواء ما كان منها على دفة الحكم أو ما كان منها على شكل منظومة عادات وتقاليد اجتماعية استبدادية وهي بالتالي تشكل العمق الاجتماعي للأنظمة السياسية المستبدة حيث بساطة التفكير وسذاجته وعقلية القطيع التي سهلت مهمة الأنظمة في السيطرة على هذه المجموعات التي نقلت معها كل سلوكيات القرية والبداوة إلى مراكز المدن بحثا عن العمل أو الارتزاق خلف أنظمة سياسية استبدادية تستغل سذاجتها لاستخدامها أدوات سلطوية وقمعية في أجهزتها الخاصة كما تفعل معظم أنظمتنا السياسية هنا في الشرق الأوسط في الاعتماد على مجاميع من القرويين والقبليين في حماية النظام ورموزه ومؤسساته العسكرية والامنية، حتى وصلت الى مفاصل مهمة في مراكز القرار في الدولة والمجتمع مما تسبب في ظهور عوق اجتماعي كبيرهو ما نسميه بالنفاق الاجتماعي والانتهازية المقيتة.


ان الديمقراطية ليست تداولا سلميا للسلطة فحسب بقدر ما هي عملية إحداث تغييرات اجتماعية تربوية جذرية تشمل كل مناحي الحياة وبخاصة ما يتعلق بازالة هواجس الخوف المنتجة لكثير من مظاهر العوق الاجتماعي في الكذب والتدليس والسلبية في التعاطي مع الاخر، وتحديث اساليب التربية والتعليم والانتقال من التلقين وصناعة القطيع الى المبادرة وحرية التعبير والانعتاق.

كفاح محمود كريم