ديما ابو غوش مخرجة فلسطينية تعرفت عليها بالصدفة مؤخرا من خلال فيلمها quot; صباح الخير قليقليةquot; الذي تم عرضه في القاهرة قبل حوالى اسبوع،الا اني اشعر بالامتنان لها مرتين،اولا لانها مخرجة جيدة لديها رؤية فنية واستيعاب لتقنيات الفيلم الوثائقي التي تغيب عن كثير مما يعملون على هذا القالب السينمائي، واعمالهم تتشابه مع التقارير الاذاعية الغائب عنها لغة الصورة ، فضلا عن الاستطراد في الروايات بدون مبرر ، لا لشئ الا لاطالة زمن العرض،رغم ان البلاغة في الايجاز، والفنية تزيد اكثر مع التكثيف وايجاد معادل بصري لكل جملة مروية.
والسبب الاخر لامتناني لهذه المخرجة انها اشعلت ذاكرتنا العربية التي باتت مثل ذاكرة العجائز شائخة،تسقط منها التفاصيل والاحداث حتي القريبة ، وان كانت اشعرتنا من جديد بالتقصير في حق القضية الفلسطينية،ونبهتنا اننا ننجرف مع تيار الجزئي ونتناسي الكلي، علاوة على اننا صرنا مهمومين باجندة الاخر الذي يضعها لنا،ويحدد الاولويات،وما هم المهم والاقل اهمية،رغم انه يتناقض او يضر بمصالحنا وحقوقنا.
ومن ابرز النماذج على ذلك ، الالتهاء ،مؤخرا ، بجزئية مثل المستوطنات quot; الشرعي quot; منها،وquot;غير الشرعي،وquot; التوسع الطبيعيquot; وquot; اللاطبيعيquot;،وما ينبغي ازالته او التفاوض عليه باعتباره امرا واقعا،وتناسي خطر اكبر هو جدار الفصل العنصري،الذي يتجاهله الجميع ولا يشير اليه احد ،لا السيد اوباما الذي يعتبره البعض quot;مخلص العرب quot;وquot;المناصر لقضية الشعب الفلسطينيquot;،ولا نتانياهو الذي وجه صفعة جديدة للواهمين في تسوية عبر طريق المفاوضات او لعبته العبثية الاستسلامية ،ولا حتى العرب الذين نسوا ،اصلا ،انهم حصلوا قبل سنوات على قرار من محكمة العدل الدولية بعدم شرعية بناء الجدار الذي يصنع حدودا علي الارض، بعد ابتلاع اراضي فلسطينية مما تبقى ، وكان البعض يراهن ان تكون نواة لدولة فلسطينية خدرونا بوعودها ، ولم يتجسد امامنا الا معالم quot;دولة يهوديةquot; يريدون ان نعترف بها اولا، وتزيد مساحتها كل يوم على حساب اراضي شعب تعرض للتنكيل تحت سمع وبصر العالم واغتصاب اجزاء كبيرة من اراضه ، والآن يستكملون رويدا رويدا ، الاستيلاء علي البقية الباقية ، رغم ان كل شبر من البحر الي النهر، تاريخيا ،هو ملك خالص للشعب الفلسطيني.
من هنا تأتي اهمية وقيمة فيلم quot; صباح الخير قليقليةquot; لديما ابو غوش ، هذا الفيلم الذي يحذر بقوة من خطورة جدار الفصل العنصري الذي يصنع وقائع جديدة علي الارض ويغير جغرافية المدن الفلسطينية ، ويصنع مع الوقت تاريخا مزيفا للكيان الصهيوني وحدودا ومساحات من الاراضي تضاف الي ما اغتصبه ، الاهم من ذلك انه يكشف ماهية المخطط الاسرائيلي العدواني الذي لا يريد دولة فلسطينية ، ولو على حدود الاراضي المحتلة في العام 1967 ، وانما كيانات منعزلة مقطعة الاوصال ومحاطة باسوار ودوريات عسكرية الآن اسرائلية ، وفي المستقبل مشتركة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ومناطق عازلة لتأمين هذه quot; الدولة اليهوديةquot; وترك الفلسطينيين يعيشون في سجن كبير.
لقد نجحت ديما في نقل هذه الرسالة التحذيرية بوضوح ، على لسان الرواة او فلنقل شهود المأساة الفلسطينية من كل الاعمار والخلفيات الثقافية سواء في الطرقات أو المدارس او حتي داخل البيوت ،عبراللقطات المتنوعة للجدار ، القريبة منها والبعيدة ، والتجول بالكاميرا فيما حول الجدار في قليقلية ورصد التحولات التي تجرى في حياة الناس، وكيف تبدلت حياتهم الى الاسوأ ، وكيف باتت معاناتهم اشد وطأة ، سواء الكبار منهم او الصغار.
فالمزارعون صاروا غير قادرين على الوصول الى اراضيهم او اروائها ، ومن ثم تدمرت زراعاتهم او عجزوا عن حصاد محاصيلهم ، وبعضهم صودرت ارضه او تم تجريفها ، ومن حصل على ترخيص بالمرور للعبور الي الجهة الاخرى يسمح له مرة ولا يسمح له في الثانية حسب مزاج الجندي الواقف على بوابة العبور ، وفي كل مرة يذهب لتجديد الترخيص يجد العراقيل او يتم رفع الرسوم،حتى السكان صار غير مسموح لهم بالبناء حول الجدار، ومن له مسكن صار ممنوعا عليه تعليته لدواعي امنية.
والمدرسة ذاتها صارت مكانا غير آمن ، لانها على مقربة من الجدار،والدوريات تتحرك حولها باستمرار وزخاخات الرصاص تنطلق من وقت لاخر ، فيما الاطفال الصغار يدرسون او يلعبون ، ما جعل ذاكرتهم الطفولية تمتزج بالخوف والفزع والتوتر العصبي.
ومن الروايات التي تتوقف عندها ، لتجسيدها بقوة حجم المعاناة اليومية لسكان قليقلية ما رواه احد السكان الذي لا يبعد بيته كثيرا عن الجدار ، عن انه يتجنب هو وزوجته وابناؤه الوقوف في الشرفة او الجلوس في الغرفة المطلة على الجدار، خشية ان يتم اطلاق النار عليه من جندي يجلس في برج المراقبة فوق الجدار اذا حرك احد يدا وظنها الجندي قنبلة او اي شئ يتوهم انه يمثل له تهديدا ، اي انه حصار داخل الحصار حتي بالبيت.
وقد حرصت المخرجة على تصوير الجدار من زوايا مختلفة وفي اوقات مختلفة من اليوم نهارا او ليلا ، ومن داخل البيوت او المدارس او على مقربة منه ، سواء باستخدام لقطة بعيدةquot; لونج شوتquot; توحي بالامتداد او مقربةquot;زوم انquot; تعمق المعنى وتؤكد عليه،مع التوقف باللقطة المقربة من وقت لاخر عند دورية تتحرك ذهابا ورواحا او عند ابراج المراقبة وبوابات العبور ، لتعكس مدى توغل او تغول الجدار في الارض الفلسطينية وفي حياة البشر اليومية ، وتؤكد بصورة بصرية كيف صار هذا الجدار الاسمنتي جحيما يعيشه الفلسطينيون ولا يملكون منه فرارا ، كأنه هم بالليل ومذلة بالنهار او هو هكذا فعلا.
وعمقت هذه المعالجة البصرية بشريط الصوت ، ليس فقط من خلال الجمل التي ترد على لسان الرواة بتنوع وتكثيف وتعبير دقيق عن الحال ، وانما ايضا من خلال الموسيقى ،التي اختارتها بعناية شديدة لتخلق جوا نفسيا يدخل المشاهد الى مضمون الفيلم ويجعله يتوحد مع معاناة الابطال الحقيقيين من سكان قليقلية ، فقد استخدمت تيمتين رئيسيتين الاولى تعبر عن حالة الفزع وكأنه نداء استغاثة باستخدام وتريات والات ايقاعية والاخري تيمة تدل على الحزن والالم باستخدام الة تعبر بصدق عن مثل هذه الاحاسيس الا وهو الناي.
واذا كانت المخرجة قد واصلت طوال مدة الفيلم التي لا تتجاوز 25 دقيقة حشدنا ضد جدار الفصل العنصري وبيان مدى بشاعته وتجليات ذلك على الحياة اليومية للفلسطينين ، فانها لم ترد ان يتحول الفيلم لبكائية او وصلات شكوى ، تزيد من احباطنا او تدفعنا للتأسي على حالنا وانتهى الامر ، لكنها كانت من الوعى بمكان لتبث رسالة امل ورهان على المستقبل من خلال جملة على لسان طفل تصدت لتعلن ان هذه الارض سترجع لاصحابها وان اليهود ان كانوا بنوا هذا الجدار رغما عنا فسيأتي يوم ونقوم بهدمه.
وزادت على رسالة التحدى هذه بان انهت فيلمها بلقطة تجسد الصمود ومواصلة الفلسطينيين للحياة رغم كل شئ،وعدم استسلامهم للامر الواقع الصهيوني، من خلال جلسة سمر بالقرب من الجدار جمعت مجموعة من رجال قليقلية يستمعون الي العزف على الارغون بينما تدور كؤوس الشاى.
محمود عبد الرحيم
*كاتب صحفي مصري
Email: [email protected]
التعليقات