مرت قبل أيام الذكرى التاسعة عشرة لغزو صدام للكويت،وقد أهيل حولها كالعادة في كل عام كلام كثير أغلب الظن أنه سيمضى، وكالعادة أيضاً في كل عام أدراج الرياح، بينما يبقي كل شيء في هذه القضية مكانه،إن لم يكن قادها إلى الوراء كثيراً أو قليلاً!
فقد تحدث مسؤولون حكوميون من الجانبين العراقي والكويتي،فأثاروا حساسيات وجراحاً ولم يقدموا علاجاً ناجعاً أو يسحبوا القضية من مكانها المستعصي ليضعوها على طريق الحل!
ونزل الميدان أعضاء من البرلمانين العراقي والكويتي فصبوا على الجراح الكثير من ملح البحر العربي وزادوها أواراً وإيلاماً!
وانبرت أقلام مستعجلة مدفوعة بحسن النية أو بغيرها من الطرفين أيضاً ،فبدا كأن أحداً لم يسمع الآخر ، ولا أحد يقرأ ولا أحد يكتب وإنما الأمر كله تهويمات في عالم الأحلام والأوهام،على أرض ما تزال مليئة بالألغام!
لا شك أن غزو الكويت وما أعقبه من حرب مهلكة كان فادحاً ورهيباً ومدمراً على أوسع نطاق ، وكان أعظم ضربة تلحق بالواقع العربي والإنسان العربي ، بعد هزيمة 5 حزيران 1967،وقد تحدث الكتاب خاصة وبعض المسؤولين عنه وضرورة أخذ العبر والدروس منه ، ولكن الملاحظ أن كل طرف كان يستخلص دروساً وعبراً إيجابية لصالحه ، ودروساً وعبر سلبية تلقى على الطرف الآخر! ومن الواضح أن هكذا نهج لن يلئم جراحات الماضي، ولا يمهد لعلاقات جديدة صحيحة وسليمة ونافعة للجميع!
لا يتوقع من العقل العربي أن يتحدث عن أخطائه وآثامه في حرب أو شجار كان طرفاً فيها ،سواء منتصراً أو مهزوماً ،فالطرف المهزوم لا يريد أن يقر بالهزيمة فيزيد جراحه ،لا يقبل أن يبتلع تاريخه بكل التواءه وعقده، ويصعب عليه أن يؤخذ بجريرة لم تكن من صنعه ولا إرادته ولم تكن له أية قدرة على منعها ، والضحية المنتصرة ،لا تقبل بأقل من مركز متفوق معوض ولا تكتفي من الآخر بالإقرار بالذنب والاعتذار، ثمة مناطق معتمة في النفس البشرية والعربية ذات الانحدار البدوي لا تقبل إلا بالقصاص الكامل وفق قاعدة العين بالعين والسن والبادئ أظلم، وأخرى ترى ووفق العقل البدوي أيضاً أنها بريئة من هذه الجريمة تماماً براءة القبيلة من تهور شيخها وجنونه!
لا يرضي الكثير من الكويتيين أن تقول لهم أن صداماًً قد غزا العراق قبل الكويت، وإنه قد انتهك حرمات العرقيين والعراقيات قبل الكويتيين والكويتيات،ولا يقنعهم أن تقول لهم أن الكثير من العراقيين ما يزالون مغيبين كما الكويتيين، وإن مصائرهم أو رفاتهم لا يمكن الوصول إليها ،كما يصعب إقناع الكثير من العراقيين أن صداماً وجيشه وحزبه هم عراقيون على أي حال وقد داسوا أجساد وقلوب الكويتيين وتركوا في أروحهم ندوباً غائرة لم تندمل حتى اليوم !
أعتقد أن آثار الغزو والحرب القائمة اليوم خاصة بين الكويت والعراق لا تقل خطورة عن الغزو نفسه ، فهناك من يتحدث اليوم عن غزو معاكس يقوم به الكويتيون للعراق بإبقاء إرادة العراقيين مرتهنة ضمن البند السابع لميثاق الأمم المتحدة ،وهو احتلال مستتر مقنن بغطاء شرعي دولي ولكنه لا يقل في آثاره المدمرة والمهلكة عن الغزو العراقي السابق للكويت!
هناك للأسف بين الكويتيين من لا يزال مستمتعاً بقصر النظر ،لا يعرف أن الإصرار على استيفاء مليارات الدولارات من دماء العراقيين المنهكين من حروب طويلة ،يرسب في النفوس أضعاف حجمه من الحقد والرغبة في الانتقام ، فاقتطاع رغيف الخبز وكأس الحليب من فم طفل جائع سيورث مكانه سماً في العروق ! ( لا يجوز التعلل بحجم الفساد في العراق فهذه قضية أخرى ) .ثمة من على الضفتين يمهد لردود أفعال وانهيارات ماحقة كثيرة قد تجلب الويلات على الجانبين ، بينما ما يزال الموقف حيال ذلك المزيد من الكلام البارد والساخن والألعاب النارية!
لم يعد مقنعا القول أن مصائب وآلام الكويتيين هي مصائب وآلام العراقيين، وإن مصائب وآلام العراقيين هي مصائب وآلام الكويتيين،فهذا كلام عاطفي بحت مهما كانت الضمائر حية ومرهفة وعظيمة لدى الكويتيين والعراقيين،ولكن إذا قلت أن تفاعلات التاريخ وتداعياته إذا انفلتت لا ترحم أحداً ،خاصة إذا عرفنا أن ما يسمى بالثوابت الدولية والإقليمية هي متحركة ونسبية على الدوام،فقد تجد من يفكر معك!
من الواضح إن هذه القضية شائكة ومعقدة وتشكل معضلة تاريخية، وتقتضي دراسة عميقة ومتأنية وجادة ،وعلى المثقفين والمفكرين العراقيين والكويتيين أن يعقدوا لقاءات وحوارات مشتركة على الأرض وعبر الانترنيت للوصول إلى آراء ومقترحات ناضجة ومفيدة حولها وخطط عمل لتنفيذها.
لا أقول هنا أن لدى المثقفين من الجانبين عصا سحرية ستحل هذه المشكلة الكبيرة والصعبة حقاً ،ولا أريد أن أحط من شأن عقول السياسيين والمتنفذين على الجانبين خاصة وإن في أيديهم مفاتيح الكثير من الحلول في النهاية، ولكني أقول أن ما حدث هو في جانب منه: انكسار وشرخ في أرواح الكويتيين والعراقيين معاً ،وأفضل من يسهم في ترميم الروح العراقية والكويتية هي الرؤية الثقافية والإبداعية والفنية !ثمة مواضيع خصبة وضرورية إنسانية وتنتظر تناولها وتحليلها منذ وقت طويل!
أتذكر عندما صدرت روايتي (طفل السي ان ان ) منتصف التسعينات وكانت كل الجراح ما تزال طرية ومفتوحة أهديت نسخة منها للروائية الكويتية المبدعة ليلى العثمان ،وأهدت هي لي بعض كتبها مع كلمات طيبة تنم عن دفء قلب خال من الكراهية،وقد تمنيت أن تنمو علاقات مماثلة كثيرة بين المثقفين العراقيين والكويتيين يجري من خلالها مراجعة ما حدث وتفحص الذات والعمل على فتح آفاق جديدة بين شعبينا.
،وبالطبع لم يكن متاحاً حدوث ذلك ونظام صدام ما يزال قائماً ،ولكن بعد سقوط النظام كان ينبغي أن يكون ذلك من أولويات المثقفين في البلدين.لقد حصلت لقاءات أخرى بين مجموعات من مثقفين ومبدعين عراقيين وكويتيين وفي مناسبات مختلفة ولكنها ظلت محدودة ومترددة ومتباعدة ولم تكرس صراحة لمناقشة صلب القضية الكبرى بين العراقيين والكويتيين ووضع خطة عمل للخروج منها إلى عالم الضوء والمحبة والتفاهم والتعاون المتبادل وبما يضمن مصالح الجانبين ومستقبلهما.
مرة أخرى لا أريد أن ألقي على كاهل المثقفين الضعيف ما عجز عنه ذوو الأكتاف الغليظة، لكن ما نواجهه هنا هو قضية ضمير ولا يحلها إلا ضمير المثقفين المعروف بموضوعيته وحبه للحقيقة والعدل،والحياة السعيدة الآمنة للجميع! فهل يستطيع المثقفون أن يصلحوا ما أفسد الغزاة في الكويت؟ ذلك تحد لهم وآمل أن يكونوا أهلاً له!
[email protected]