لا يعرف ما مدى صعوبة أن تتكلم المرأة المعوقة أمام الإعلاميين إلا من خاض هذه التجربة غير السهلة، فعندما يبدو من الممكن أن تتحدث هذه المرأة عن شؤونها الشخصية ضمن تحقيق صحافي عادي يعزز النظرة الإيجابية تجاهها كأم ، مثلاً، يغدو الأمر متعسراً جداً إن كانت ستتحدث عن العنف الممارس تجاهها، سواء أكان جسدياً أو نفسياً أو حتى اقتصادياً؛ وربما من المجدي هنا القول، على سبيل المثال، إنه من بين أربعين امرأة تم التواصل معهن من أجل الحديث عن زواجهن بشكل إيجابي، وذلك لتعزيز النظرة الموضوعية الحقوقية تجاه حاجاتهن في المجتمع، تحدثت إليّ أربع نساء فقط.. وبدا الأمر خلال المقابلات وكأنه ينبغي كسر جدار جليدي مع كل واحدة منهن قبل أن تنطلق في حديث غير مسجل على آلة تسجيل، ومع ضمان أن يتم تبديل اسمها إلى الاسم الذي تراه مناسباً إن أرادت ذلك، كما بدأ أن لكل إعاقة ظروفها وما حملته من تمييز بحق كل واحدة منهن، وقد تعمدت أن أتعامل مع نساء معوقات حركياً، سمعياً، وبصرياً، ولم أحظ بمقابلة واحدة، أو حتى بموافقة مبدئية من امرأة معوقة ذهنياً للتحضير لمقابلة.
بشكل عام، شهدنا دخول قضايا الإعاقة في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان، وصولاً إلى الاتفاقية الدولية بشأن تعزيز حقوق الأشخاص المعوقين وكرامتهم، الصادرة عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2008، المتضمنة لقضايا المرأة المعوقة. لكن الواقع يشير إلى أن هذه القضايا ما تزال مغيبة، أو فلنقل محدودة الذكر في الاتفاقيات الدولية، وغيرها من الوثائق الدولية، وأفضل مثال على ذلك الاتفاقية الدولية المذكورة، والتي يفترض بها أن تكون الأكثر شمولية ومساساً بحقوق هذه الفئة من البشر، الذين تربو نسبتهم عن 10 بالمائة من سكان العالم، إذ حصرت المرأة المعوقة وحقوقها في بندٍ واحد غير كافٍ ولا يعبر عن كافة الحقوق، بينما كان الأجدى لهذه القضايا دمج مفهوم الجندرة في كافة بنودها. لكننا، على ارض الواقع، لا على الورق، نشهد تمييزاً مزدوجاً ظاهراً للعيان، وغير مقدور على التخفيف منه بسهولة تجاه المرأة المعوقة في وطننا العربي، وفي الشرق بشكل عام، لا بل يمكن أن يواجه العاملون الاجتماعيون التابعون للقطاع الرسمي، والمجتمع المدني اللاحكومي، بكثير من التفاهة والتكبر من القطاع الرسمي المتدثر بعباءة النظرة الذكورية تجاه قضايا المرأة بشكل عا، وتجاه قضاياها كمرأة معوقة بشكل خاص.. فحتى لو تحركت التشريعات على الورق، بقدرة قادر متمثل بتزلف القطاع الرسمي العربي للمنظمة الدولية، لتغطية تخلفه المزمن تجاه نصف المجتمع، فإنه من الصعب جداً بمكان أن يتخلى عن جزء في الواحد بالمئة من ذكوريته المتوارثة، فكيف بالمرأة المعوقة التي تعاني بشكل أساسي من تمييز مزدوج.

مواطنات مخفيات
بناء على تجربة شخصية كذلك، ورغم عملي اليومي أو شبه اليومي مع القضايا الاجتماعية في لبنان منذ 2001، إلا أنني لم ألحظ قضية الأشخاص المعوقين حتى عام 2005، وذلك لأنني لم أر هؤلاء الأشخاص بكل بساطة في كافة التكليفات الصحافية التي توجهت إليها، أو بتعبير آخر، لم ألتق بهؤلاء الأشخاص إلا في مناسبات كبرى كاعتصامات كبيرة، أو مناسبات مطلبية عامة. اللهم إلا لقائي بالرحالة الإيراني، كيومرث عليمرداني، وهو يجوب العالم على كرسي متحرك عام 2001 في دمشق، فلمست في ذلك الشاب الرياضي، بطل ألعاب القوى، جانب التصميم والإرادة والقوة، ولم أقف على الجانب الحقوقي المطلبي لهذه القضايا. فببساطة، الأشخاص المعوقون في بلداننا أشخاص مخفيون، يخفيهم نظام الهندسة، يمنعهم من الظهور، يخفيهم النظام الاجتماعي كذلك، وراء كم كبير من العادات والتقاليد البالية، وتخفيهم المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الرعوية.
نصطدم لدى السعي إلى دراسة وتحليل أوضاع المرأة العربية المعوقة بغياب، أو محدودية الأبحاث والإحصاءات الخاصة بقضاياها، ما يكرس مقولة إن النساء المعوقات يعتبرن، كذلك، quot;مواطنات مخفياتquot;، مغيبات عن قضاياهن كمعوقات وقضايا المرأة بشكلٍ عام، فيما تشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى ارتفاع نسبة استجداد الإعاقة الدائمة أو المؤقتة لدى النساء والفتيات، نظراً للظروف الحياتية التي يواجهنها إن على المستوى الصحي أو في مكان العمل أو العنف الذي يتعرضن له. فعلى الرغم من مصادقة المجالس التشريعية المحلية على الاتفاقية الدولية المانعة لجميع أشكال التمييز ضد المرأة، وبغض النظر عن تحفظات طالت الاتفاقية والبروتوكول الملحق من معظم هذه البرلمانات بأشكالها المتعددة؛ إلا أنه من الملحوظ بشدة استمرار الانتهاكات وممارسات التمييز بحق المرأة على نطاقٍ واسع في العالم العربي، ما يؤكد وجود خلل في استيعاب مفهوم حقوق المرأة لدى المشرع العربي؛ الذي بدوره يحول دون الفاعلية الكاملة وقدرة الاتفاقيات الدولية على تحقيق تغيير جذري وفعلي في أوضاع المرأة، وفي عملية تفعيل حقوقها. تكمن الإشكالية الأكبر في التناقض الموجود بين الواقع القانوني والواقع الشعبي لحقوق المرأة، والاختلافات الكبيرة بين الثقافة القانونية المدونة والواضحة وبين الثقافة الشعبية الكامنة في اللاوعي الجماعي، إلى جانب السياسات الوطنية المعتمدة والتي تغيب قضايا المرأة في مختلف المجالات.

قصص ليست للنشر
لا يخفى أن قضايا المرأة المعوقة ليست من القضايا الجاذبة صحافياً، فتتهافت الصحافة اليوم على قصص الفنانات والراقصات، وما زلنا للأسف الشديد نرى على هوية بعض المجلات المتضمنة لقصص كتلك عبارة quot;مجلة اجتماعيةquot;.. أما القضايا الاجتماعية فتحتل أدنى سلم الأولويات في الصحافة العامة، كون القارئ العربي لا يعيرها أهمية.. وما تزال قصص العنف ضد المرأة تأخذ طابعاً آخر غير المرتجاة منها، فتعيرها الصحافة أهمية كونها تصب في العنف الجسدي والجنسي، ولا تناصر النساء المتعرضات للعنف مناصرة حقوقية مطلبية، وربما، لن تشهد مجتمعاتنا في المدى المنظور تحركات كبيرة يشهد لها على هذا الصعيد، رغم الجهود الكبيرة المبذولة مدنياً والتي سبقت القطاع الرسمي العربي بأشواط كبيرة جداً.. لكن مع تغييب قضايا المرأة العربية المعوقة عن الصحافة العربية العامة، تغييب قضايا جوهرية ربما يجدر بنا إيلاءها الاهتمام اللازم. فقصص كإخفاء البنات المعوقات في منازل الأهل كون مكانتهم الاجتماعية لا تسمح لهم بإظهارهن لا يخلو منها قطر عربي، فكثيرات لا يحظين بفرص الخروج من المنزل، ناهيك عن التعلم والعمل، وقد وقفت على عدد من هذه الحالات. كذلك قد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك حيث حجب بعض أولياء الأمور عن بناتهن المعوقات فرصة الحصول على الجنسية في لبنان، كيلا يظهرن على الملأ، وبالتالي quot;يمنعنquot; أخواتهن غير المعوقات من فرصة الحصول على عريس! ذلك غير كثير من العنف المشرعن الممارس ضدهن كنساء، وغير منعهن من الدراسة في المدارس العادية، أو العمل أو حتى حق الوصول... تلك أمور تحدث يومياًَ ويمكن معاينتها في لبنان الذي يتغنى البعض بديمقراطيته وحرياته... لكن تلك القصص المتراكمة، والتي لها أهمية كبيرة في البحث الاجتماعي الجاد تبقى قصصاً ليست للنشر في الصحافة العامة، فمن جهة تصطدم بسلم أولويات الصحافة المهتمة في عالمنا العربي بالأمني، والسياسي، بشكل أساسي، ثم بمهاترات الساسة وتبعياتهم وغرائبهم، ثم بالمنوعات والفنانات والراقصات، حتى أن باب الثقافة غدا هزيلاً مسيّساً مصاباً بسوء تغذية مزمن. ومن جهة أخرى، لم تخترق بعد، الحركة النسائية العربية حاجز quot;المحظورquot; بشكل يمكنها من التعبير عن نفسها بالطريقة التي تخدم قضاياها، ومن ضمنها قضايا المرأة المعوقة، ولم تكتسب بشكل عام، إلا فيما ندر، اللغة الصحافية الجاذبة المتماشية مع التطور المتسارع للاتصال.
في ظل هذا الواقع لا تزال المرأة العربية المعوقة تواجه تمييزاً مزدوجاً، الأول لكونها امرأة، والثاني بسبب إعاقتها، كما تصطدم محاولة اندماجها الفاعل في مجتمعها المحلي بعادات وتقاليد، سبق ذكر بعضها، إضافة إلى تغييبها المتعمد منهجياً، ليس فقط عن قضايا المرأة، إنما عن قضايا وحركة الإعاقة ككل؛ رغم أن الفترة الحالية تشهد، ابتداء من 1993 مع صدور القواعد المعيارية الموحدة بشأن تكافؤ الفرص للأشخاص المعوقين، عن الأمم المتحدة، تحولاً في مقاربة قضايا الإعاقة من النموذج الخيري - الرعوي إلى النموذج الحقوقي الاجتماعي، لتتحول المرأة المعوقة من مجرد صاحبة مشكلة إلى صاحبة حقوق، وإن كان هذا التحول ينحصر في أحايين كثيرة في المجتمع المدني ومقاربته للقضايا وقد لا يتعداه إلى المستوى الرسمي، إلا في مناسبات يُظهر فيها بعض المتنفذين حرصهم على الفئات المهمشة، خاصة في المناسبات الرعوية الخيرية. ومن البديهي أن تحظى تلك المناسبات بتغطيات إعلامية تركز على المتنفذ ndash; المسؤول، وقص الشريط هنا أو هناك، وخطابه الذي يذوب فيه حباً بالطبقات المهمشة، وأن يتم إغفال المناسبة نفسها، حتى لو كانت اليوم العالمي للإعاقة...

باختصار
تشكل النساء المعوقات حسب إحصاءات منظمة الصحة الدولية عشرة بالمائة من عدد النساء في العالم، أي ما معدله 300 مليون امرأة وفتاة لديها إعاقة حركية أو ذهنية أو سمعية أو بصرية، أو إعاقة مركبة؛ ويتخذ التمييز تجاهها عدّة أشكال، لعل أبرزها التمييز في فرص التعلم والعمل. على صعيد فرص التعلم، تشير إحصاءات الأمم المتحدة الصادرة عن quot;يو. أن. دي. بيquot; إلى انخفاض نسبة النساء المعوقات المتعلمات لأقل من واحد بالمائة، وهي نسبة متدنية جداً، تتعايش مع إقرار مسبق لا ينفذ من الحكومات بحق التعليم للنساء والفتيات المعوقات، إلا أنه، كما يبدو ليس كافياً في ظل غياب المناهج التعليمية والمدارس الدامجة التي تؤمن فرصاً متكافئة للجميع. يزداد وضع المرأة المعوقة سوءاً مع العادات والتقاليد والموروثات الاجتماعية التي تكريس عزلتها، فتواجه المرأة في مجتمعاتنا تمييزاً حقيقياً موصوفاً، وتحرم من معظم حقوقها، فكيف بالمرأة المعوقة التي ينظر إليها على أن لديها quot;نقصquot; أو quot;مشكلةquot;، وبالتالي لا فائدة من تأمين فرص التعلم لها! كما يُدّعى. بدورها، تنعكس نسبة الأمية العالية في صفوف النساء المعوقات على نواح حياتية أخرى، كغياب التثقيف الجنسي، وما يحمله من احتمال الإصابة بأمراض كثيرة، وكذلك التعرض للعنف، والبطالة وغيرها من المشاكل.
باختصار، لا تحمل هذه الورقة أي حلول، وليس من شأن الصحافة أن تبتكر حلولاً، بل من شأنها أن تضيء على الواقع كما تراه، ويبدو أن الصحافة العامة لن تدرج في وقت قريب في سلم أولوياتها القضايا الاجتماعية الملحة، إلا إن اعتمدت فعلاً ما تدرّسه مدارس الاتصال الحديثة من نقل الصحافة العامة من نظرية الأجندة أو ترتيب الأولويات إلى نظرية تفاعلية تلعب فيها الصحافة دوراً أساسياً بين المتلقي والمنتج، أي دور الوسيط الإيجابي، وعندها يمكن دراسة واقع المتلقي العربي الذي دجّن وفق ترتيب الأولويات، على الأمني والسياسي... وواقع الحركة النسائية العربية وإمكانيات تسخير قدرات جزء منها في اكتساب اللغة الجماهيرية المتفاعلة مع المتلقي. وإلى ذلك الحين، يمكننا النظر إلى إنجازات المجتمع المدني سواء المهتم بمناصرة قضايا المرأة أو قضايا الإعاقة، في سبيل مناصرة قضايا المرأة المعوقة إعلامياً بكثير من الفخر، فتبدو إنجازاته شعاشاً بسيطاً من الضوء يحاول إذابة الجليد السميك، لكنه يخترقه أحياناً.
عماد الدين رائف