quot;نلقي نظرتنا على العالم، وخفقات قلوبنا تواكب خفقات العالم. أيدينا تلامس منحنياته، وقهقهاتنا تدغدغه، ودموعنا تثير ارتعاشه. لكن العالم لا شيء دون كلماتنا التي تحكيه، وتؤمن به وتبنيهquot;. فيليب كلوديلquot;مفتاح العالمquot;
كندا: يمثل فيلم quot;أحببتك لأمد طويلquot; أول تجربة سينمائية، من حيث الإخراج، لـ quot;فيليب كلوديلquot; الذي هو روائي أصلاً، وهو مشهور بهذه الصفة في فرنسا والعالم.أضف إلى أنquot;كلوديلquot; يكتب السيناريو أيضًا. لكن هذا الفيلم هو تجربته الإخراجية الأولى، ومع هذا فقد نال عنه جائزة الفيلم الأول من مهرجان quot;سيزارquot; السينمائي لهذا العام 2009،ولقي فيلمه صدى كبيرًا في المهرجانات السينمائية الدولية وفي داخل فرنسا أيضًا، مثلما ترشحت بطلتاه وفازتا بالجوائز الأولى. فـ quot;كرستين سكوت توماسquot; فازت بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم في مهرجان السينما الأوروبية لهذا العام، و كذلك خطفت الجائزة ذاتها عن دورها ذاته في مهرجان دمشق السينمائي الدولي. كما فازت quot;إلزا زلبرستاينquot; بجائزة أفضل ممثلة ثانوية عن دورها في هذا الفيلم بجائزة مهرجان quot;سيزارquot; السينمائي لهذا العام أيضًا.
كتب quot;فيليب كلوديلquot; روايات و قصصًا كثيرة ومؤثرة، أدبيًا وإنسانيًا، و لمنجزه الروائي صدى كبير داخل و خارج فرنسا. هذا الكاتب المتمكن من صنعته جلب اليه الإنتباه مع صدور روايته quot;متحف النسيانquot; في العام 1999، لكنه ضرب ضربته ولمع نجمه مع روايته quot;الأرواح الرماديةquot; التي نشرها في العام 2003، و نال عنها جائزة quot;رونودوquot;، في حين اختارتها مجلة quot;ليرquot; كأفضل رواية لذلك العام، وتُرجمت هذه الرواية حتى الآن لنحو أربع و عشرين لغة، و تحولت الى فيلم سينمائي. و في العام 2005 أصدر رواية quot;حفيدة السيد لِنهquot;. أما روايته quot;تقرير برودويكquot; فقد صدرت في العام 2007 .. فتصدّرت المبيعات حال صدورها.
في جميع روايات quot;كلوديلquot;، يستذكر أبطالـُه الماضي. هذا الماضي يتماشى و يتماهى لديهم مع الحاضر. ويكاد يقودهم تمامًا، إن لم نقل انه يسيطر عليهم، لذلك فهو يأتي كخلفيات للأحداث التي يعيشها هؤلاء الأبطال فيما بعد. أغلب هذه الخلفيات في روايات quot;كلوديلquot; هي حروبٌ كان أبطاله ضحاياها بهذه الصورة أو تلك، فراحوا يستذكرونها ويتفحصون نتائجها على حيواتهم اللاحقة. فرواية quot;الأرواح الرماديةquot; خلفيتها الحرب العالمية الأولى. رواية quot;تقرير برودويكquot; خلفيتها الحرب العالمية الثانية، أما رواية quot;حفيدة السيد لِنهquot; فخلفيتها حرب فييتنام. لكن فيليب كلوديل ينتقل، من خلال فيلمه هذا quot;أحببتك لأمد طويلquot;، الى خلفية أخرى، خلفية فردية هذه المرة: وهي السجن.
يبدأ الفيلم بلقطة لسيدة جالسة وحدها في quot;كافيترياquot; المطار، هي جولييت quot;كرستين سكوت توماسquot;، و هي تدخن بقلق في انتظار شخص ما، فيما يبدو أن جميع القادمين قد غادروا مع مستقبليهم. ثم تأتي، على عجل، أمرأة متأخرة يتضح أنها شقيقتها ليا quot;إلزا زلبرستاينquot;، و كانتا قد افترقتا منذ زمن طويل.حيث كانت quot;جولييتquot; قد دخلت السجن لمدة خمسة عشر عامًا بسبب إدانتها بقتل طفلها الذي كان يبلغ من العمر ست سنوات. و منذ هذا اللقاء تتوضح شخصية كل من الشقيقتين: جولييت، الطبيبة السابقة و الخارجة لتوها من السجن و هي تحمل معها كل سنوات العزلة التي قضتها في دوامة الأفكار واعادة حسابات الحياة والتوق الدائم الى الحياة الحرة التي حُرمت منها فخرجت بشخصية منطوية على ذاتها، متشككة، متوجسة، مرتبكة، تبحث عن موضع قدم في الحياة التي فقدت فيها دورها الطبيعي، محاولة ً ايجاد توازن بين عالمها الداخلي المطعون في الصميم و عالم الآخرين الذين لا يعرفونها .. انهم حقًا لا يعرفونها، لا على المستوى الإجتماعي باعتبارها قادمة من مدينة أخرى، و لا على المستوى الإنساني حيث لا أحد يدرك معاناتها الشخصية، و لا تاريخها أيضًا، و الذي لا تكاد حتى شقيقتها quot;لياquot; أن تتذكره جيدًا، ذلك أن quot;جولييتquot; قد سُجنت في حين كانت هي لما تزل صبية، وعبثًا كانت quot;جولييتquot; تحاول تذكيرها أحيانًا ببعض الوقائع عندما كانتا تحت سقف بيت واحد. أما quot;لياquot; فذات شخصية مختلفة، شخصية منبسطة و متفتحة و اجتماعية. و كانت قد قدمت الى هذه المدينة قبل عشر سنوات لغرض الدراسة، فحصلت على الدكتوراه في الأدب، و أثناء دراستها تعرفت على زوجها الذي لم تنجب منه طفلاً، فتبنيا طفلتين خلال زيارة لهما الى فييتنام. و وجود هاتين الطفلتين في الحكاية حساس جدًا، فهما تشكلان ما يشبه quot;الفلترquot; الذي يمتص أي تشنج في البيت من ناحية، و يسهم في اعادة توازن quot;جولييتquot; في تعاملها مع الأطفال من جديد quot;خاصة مع الطفلة الكبرىquot; من جهة ثانية. و قد يُفسر عدم إنجاب quot;لياquot; للأطفال و تبنهيا للطفلتين كما لو كان تحاشيًا quot;في لاوعيهاquot; لما اصطدمت به شقيقتها في حادثة إبنها الذي كان من صلبها.
ولكن على الرغم من كل انبساطِ و تفتحِ و بساطةِ quot;لياquot;، التي تبذل جهدًا كبيرًا و صادقًا في مساعدة شقيقتها، إلا أنها لم تسلم من الآثار الجانبية التي باتت quot;جولييتquot; تتركها عليها. فقد أصبحت في قلق و توتر، و باتت تُستفز حين يسألها أحد عن شقيقتها quot;كما في سهرة العائلة والأصدقاء والمعارف في الريفquot;، بل صارت تغضب بشدة عندما يتعلق الحديث بالجريمة، فحين يتطرق أحد طلابها ـ مثلاً ـ الى الحديث عن شخصية quot;راسكولينكوفquot; في رواية quot;الجريمة والعقابquot; لـ quot;ديستفييسكيquot; تحتد بشدة، و تـنفعل، وتوبّخ الطالب، وتغادر الفصل في حالة عصبية حادة .. وسط ذهول الطلبة واستغرابهم.
إن عالم فيلم quot;أحببتك منذ أمد بعيدquot; هو العالم الجوّاني للفرد الذي بات يعاني من أسباب خارجية اقتحمت هذا العالم فخبطته، إنْ لم نقـُل أنها أتلفته. عليه فإنَّ فيلمًا من هذا القبيل إنما يعتمد في جانب من نجاحه على الإنفعالات التي يتحكم الممثل في تجسيدها. بذلك جاء هذا الفيلم مناسبًا لـ quot;كرستين سكوت توماسquot;، وجاء الدور على مقياس براعتها، و هي لم تدخر براعة ً في هذا الدور، فهي ممثلة ثابتة القدمين على المسرح الإنكليزي أصلاً ، و المعروف بصرامته، ولطالما كانت قد صرحت بأن السينما لن تسرقها من المسرح أبدًا. ولم يكن عبثًا إطلاق لقب quot;أميرة السينما الأوروبيةquot; عليها، و هي التي تجيد خمس لغات. مثلما لم يكن قول الناقد quot;بيتر ترافيسquot; غريباً حين صرح قائلاً: quot;هل تريد أن تشاهد مدرسة في تمثيل الأفلام؟ إذهب ـ إذًا ـ و شاهد كرستين سكوت توماس في هذا الفيلمquot; .. و لم تدخر quot;إلزا زبليرستاينquot; براعة ً أيضًا في دور شقيقتها quot;لياquot; .. فكان طبيعيًا أن تذهب تلكما الجائزتان اليهما.
الحقيقة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن تاريخ فيليب كلوديل السينمائي في الإخراج. لأنه ـ ببساطة ـ لا يمتلك هذا التاريخ. فتجربته السينمائية تنحصر في كتابة السيناريو. فهو مشهور كروائي، و معروف عنه أنه أستاذ جامعي. لكن مع ذلك فإن quot;كلوديلquot; أسس لنفسه تاريخًا معتبرًا في الإخراج السينمائي ابتداءً من هذا الفيلم quot;أحببتك لأمد طويلquot;. غير أن التعامل الصحافي معه لا يزال يتم على اعتباره روائيًا أولاً و قبل كل شيء .
في إحدى مقابلاته الصحافية، يصرح quot;كلوديلquot; أنه يقرأ روايتين في الأسبوع. و يوضح أن ذلك هو أقصى الممكن، و هذا صحيح. إذًا، بعملية حسابية بسيطة، نجد أنه يقرأ ما معدله ثماني روايات في الشهر، أي نحو مئة رواية في السنة. و لو اعتبرنا أن المعدل المتوسط لعدد الصفحات لكل رواية هو مئة صفحة، فأن المعدل المتوسط لهذه الصفحات في السنة هو مئة ألف صفحة. و هذا ـ فعلاً ـ هو أقصى ما يمكن قراءته في مجال النصوص الروائية. و هو بهذا إنما يكون غارقًا في عالم الرواية و مُشبعًا به. لكن quot;كلوديلquot; المتأني لا ينتج أكثر من رواية كل سنتين، كمعدل عام. هذا التأني يعني التأمل في العالم الروائي، وبالتالي الحرص على البناء المتقن للرواية و العناية برسم شخصياتها، هذا ما تعكسه أعماله الروائية، و هو مايبدو أن عدواه قد تعدت الى فيلمه quot;أحببتك لأمد طويلquot; الذي كتب له السيناريو أيضا. و يمكن القول أن هذا الفيلم هو عمل روائي آخر لـ quot;كلوديلquot;، ولكن بأدوات بصرية هي أدوات السينما. فبصمة و نَفَسُ الروائي واضحان في عمل المخرج هنا. نجد ذلك في اللقطات الطويلة: تلك التي جسدت أغلبها quot;جولييتquot;، والتي تصل في بعض الأحيان الى نصف الدقيقة، يستغرقها تمثيل تعبيري ساكن يقدم فرصة لقراءة ملامح الشخصية التي هي انعكاس لدواخلها. لذلك فإن هذا الفيلم ليس مصنوعًا للمشاهد العادي الملول. و إذ يبدو أن المخرج قد بنى فيلمه على غرار بنائه لرواياته، فأن مُشاهده الأول هو قارئ الأدب و المعني الجاد بالسينما الذي لا يستعجل اللقطات الى ما يليها. هذا المُشاهد يجد في هذه المَشاهد المستغرقة لوقت طويل فرصة لإشراكه في المشهد بصورة تلقائية ، بالتأمل و دراسة التعابير، خصوصًا مع ممثلة من طراز كرستين سكوت توماس. انها فرصة لشرح غير المقروء، أو سرده، من قِبل الروائي المخرج أو المخرج الروائي ـ لا فرق ـ مثلما هي فرصة المشاهد لقراءة النص الروائي على الشاشة قراءة ً متفاعلة و متفهمة، بل مفسرة .. فرصة لتخيل ما يدور في ذهن الشخصية على الشاشة كما لو كان المؤلف الروائي يحكي لنا عنها في النص الروائي.
وquot;فيليب كلوديلquot; ينجز من خلال هذا العمل اتحادًا نادرًا بين الأدب والسينما، خارج سياق التعامل التقليدي بين الأثنين منذ أن تحولت الروايات الى أعمال سينمائية. و ربما كان من الصعب ايجاد مخرج يأتي بذلك لولم يكن روائيًا أصلاً ، مشبعًا بعالم الرواية قراءة وكتابة وخلاصًا، مثل quot;كلوديلquot; الذي جاء الى السينما واثقًا من أدواته في كلا الميدانين، حتى وإنْ لم يخرج على تقاليد السينما الفرنسية في الأخراج .. من حيث الإيقاع في الأقل.
- آخر تحديث :
التعليقات