ايلاف: صدر للباحث عقيل يوسف عيدان كتاب بعنوان quot;أوجه المكعب الستة، ألعاب اللغة عند فتغنشتاينquot;، يتناول فيه حياة الفيلسوف النمساوي جوزيف يوهان فتغنشتاين (1899-1951)، وأثره على الفلسفة المعاصرة، وقد قسم كتابه الى فصلين، الفصل الأول يتناول مسيرة حياة فتغنشتاين، وأما الفصل الثاني فهو يناقش بحث quot;المأزق العميقquot; الذي واجه النظريات الفلسفية واللغوية المعاصرة التي تناولت قضية المعنى، والذي لاحظه فتغنشتاين قبل غيره من الفلاسفة، وquot;العلاجquot; الذي قدمه للخروج من الطريق المسدود التي آلت اليها النشرطات الفلسفية، وذلك عندما أوضح ان المعنى ليس هو الثبات وانما هو المتغير والمتبدل، وان هذا التغير يكون بحسب طريقة استخدام الالفاظ/ الكلمات المراد تحديد معناهاbull;
ومن المسائل التي توقف عندها الباحث طفولة فتغنشتاين ويفاعته ويقول في ذلك، ولد فتغنشتاين في 26 أبريل عام 1889، وهو الابن الأصغر من بين ثمانية اخوة، وينتمي الى واحدة من أغنى الأسر في هايسبرج بفييناbull;
امتلك والده كارل (1847-1913) الذي كان يعتبر أحد اقطاب صناعة الحديد والصلب ثروة طائلة، وكان يطلق عليه لقب quot;كارينجي النمساquot;، وقد مكنت هذه الثروة الكبيرة الاسرة من ان تحيا حياة ارستقراطية باذخةbull; وكان يطلق على منزلهم في فيينا قصر فتغنشتاين، كما كانت الاسرة تمتلك منزلا في ضواحي فيينا، ومزرعة كبيرة في الريف النمساويbull;
كان آل فتغنشتاين في قلب الحياة الثقافية في نهاية القرن التاسع عشرbull; فقد كانت فيننا مسقط رأس عدد كبير من الشخصيات الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية البارزة مثل سيغموند فرويد مؤسس طريقة التحليل النفسي، وأدولف لوس الكاتب والمحاضر ومؤسس المذهب العملي الحديث في فن العمارة، وهناك ارنولد شونبورغ مؤسس المسيقى المتحررة من الشكل التقليدي، وكذلك ادولف هتلر زعيم المانيا النازية، وثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرةbull;
نشأ لودفك في بيت تغمره الموسيقى وتفتحت عيناه في طفولته المبكرة على سبع آلات بيانو تملأ المنزل الذي شهد طفولته، وكان مؤلفا الموسيقى يوهان برامز وغوستاف مالر من الزوار الدائمين للأمسيات الموسيقية التي كانت تقام في المنزلbull; وقد اصبح احد اخوته عازف كونشيرتو بيانو شهيرbull;
وعندما تقاعد والده من عمله في الصناعة اصبح راعيا كبيرا للفنون البصرية، واستطاع جمع اعمال جملة من المصورين والرسامين النمساويين مثل غوستاف كليمت وايكون شيلي واوسكار كوكوشكا وذلك بمساعدة ابنته الموهوبة في الرسمbull;
حصل لودفك مثل بقية اخوته علي تعليم خاص بواسطة معلمين ومربيات، فقد كان والده يعتقد ان ارسال اولاده الى المدارس النمساوية يجعلهم يلتقطون العادات العقلية السيئة السائدة فيهاbull;
كان لودفك هائدا ومطيعا ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الموهبة العمليةbull; ففي سن العاشرة تمكن من تركيب نموذج عملي لماكينة حياكة باستخدام قطع من الأخشاب والأسلاكbull;
أرسل عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره الي مدرسة يغلب عليها الطابع العملي غير الأكاديمي، ولعل من المصادفات الغريبة في هذه المدرسة ان ادولف هتلر كان هناك ايضا، والذي كان في مثل عمر لودفكbull;
ذهب لودفك عندما بلغ السابعة عشر والنصف من عمره الي دراسة الهندسة الميكانيكية في برلين في quot;المدرسة الفنيةquot; العليا اشهر مدارس الهندسة الألمانية، وفيها أكمل دراسته حتى حصل على درجة الدبلومbull;
في عام 1908 ذهب لودفك الى مانشستر كطالب باحث في الهندسة وبقي هناك ثلاث سنوات، وكان مهتما بعلم الطيران، وبدا بحثه باجراء تجارب على طائرات ورقية، وفي ذلك الوقت كانت المعلومات المتوفرة عن الغلاف الجوي شحيحةbull;
استمر لودفك في اجراء تجاربه حول احتراق الغازات ذات الضغط العالي، ثم اصبح مهتما بتصميم مرواح الطائرات، مما يتطلب معالجة رياضية، وهكذا وجد نفسه منهمكا في دراسة اسس ومبائ علم الرياضياتbull;
بدأ لودفك وبفترة قصيرة في تأليف كتاب عن اسس علم المنطق والرياضيات وعرض ما كتبه على الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات الكبير غتلوب فريجه وقد نصحه فريجه ان يذهب الى كيمبردج والدراسة على الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند رسلbull; وأما عن علاقته بالفيلسوف برتراند رسل فيقول، ذهب لودفك فتغنشتاين الى كلية ترينيتي في كيمبردج للدراسة تحت اشراف برتراند رسل الذي كان يعمل محاضرا لمادة المنطق الرياضيbull; وقد ادى ذلك الى قيام علاقة صداقة ذهنية حميمة بين فتغنشتاين ورسل اثرت في حياتهماbull;
وسرعان ما تم التعرف على القدرات العقلية والذهنية غير العادية لفتغنشتاين خلال القائه لمحاضراته، فقد كان يبدو دائم الحيرة والارتباك على العكس من بقية الطلبةbull; كان هذا ما لاحظه مورbull;
ذهب فتغنشتاين في نهاية الفصل الدراسي الأول الى رسل، وقد اقترح عليه هذا الاخير كتابة مقالة حول اي موضوع فلسفي خلال فترة العطلة، وقد قام بذلك فعلا، وعندما قرأ رسل الجملة الاولى اقتنع بان فتغنشتاين شخص عبقريbull;
كان فتغنشتاين عادة يزور رسل في منتصف الليل، ويظل يخطو في الغرفة جيئة وذهابا كأنه quot;وحشquot; كاسر لساعات صامتا ومتوترا نتيجة للصراع الداخلي الذي يعانيه من جراء التفكير في المسائل المنطقية، وفي خطاياه، قال رسل: quot;كنت اخشى ان انبهه الى ان وقت النوم قد حان لانني كنت اشعر انني لو فعلت ذلك قد يفقد صوابه!quot;bull; جاء ذلك في كتابات رسل فيما بعدbull;
سرعان ما تحول فتغنشتاين من مجرد تلميذ من تلاميذ رسل الى استاذ بعد ان حقق تقدما مذهلاbull; وكان رسل انذاك يقوم بتأليف كتاب ضخم عن نظرية المعرفة وقام بعرض الكتاب على فتغنشتاين، الا ان هذا الاخير انتقد الكتاب انتقادا جذريا لدرجة جعلت رسل يتخلى عن الكتاب وأحس برغبة في quot;الانتحارquot; على حد تعبيرهbull; وقرر رسل ترك العمل في مجال اسس المنطق الى فتغنشتاينbull;
قرر فتغنشتاين في عام 1913 الذهاب الى النرويج كي يعيش هناك لمدة سنتين على نفقته الخاصة ليتفرغ للتأمل والعمل في كتابه عن المنطق، وحاول رسل اقناعه بالعدول عن قراره الا انه لم يفلحbull;
نظرية المعنى
يناقش الباحث في الفصل الثاني من الكتاب quot;نظرية المعنىquot; وعلاقتها بالفلسفة المعاصرة ويقول في ذلك واجهت النظريات الفلسفية واللغوية المعاصرة التي تناولت قضية (المعنى - Meaning)، صعوبات كبيرة حدت ببعض الفلاسفة لاسيما فلاسفة اللغة- من التوصل الى نتيجة خطيرة تفيد ان البحث في موضوع المعنى طريق مسدود في نهاية المطاف، او ان هذا البحث صعب للغايةbull;
ويكن القول ان من اهم هذه الصعوبات التي اصطدمت بها النظريات التي تناولت المعنى هي الوصول الى معنى ثابت ومحدد للكلمات او الجملbull;
وهذا هو بالذات المأزق العميق الذي لاحظه فتغنشتاين، قبل غيره من الفلاسفة، والذي قام بالتخلي عن تصوره للمعنى في مرحلة تفكيره الفلسفي الاولي، وذلك عندما اوضح ان المعنى ليس هو الثابت وانما هو المتغير والمتبدل، وان هذا التغيير يكون بحسب طريقة استخدام الالفاظ/ الكلمات المراد تحديد معناهاbull;
على هذا النحو يبدو ان البحث عن معنى ثابت في اللغة انما هو امر في غاية الصعوبة، وقد ان الاوان لكي ندرك ذلكbull; هكذا حقق فتغنشتاين وبقفزة واحدة ثورة في فلسفة اللغة وبالتحديد فيما يختص بموضوع المعنىbull;
لكن وقبل تبيان كيف قام فتغنشتاين quot;بثورتهquot; الفلسفية - اللغوية تلك، فلنحاول ان نتبين كيف توصلت نظريات المعنى المختلفة الى طريقها المسدود ذاك، ولتوضيح ذلك سوف نتناول نظرية quot;المعنىquot;، كما جاءت عند الفيلسوف الانجليزي جورج مور كنموذج نظري على ما آلت إليه النظريات التي تناولت موضوع المعنى تناولا افضى بها الى معنى ثابت وجامد للكلمات وبالتالي الى طريق مغلق ومسدودbull;
ترتبط نظرية المعنى عند الفيلسوف الانجليزي مور بمنهجه في التحليل، ذلك ان التحليل عند موريتم عبر خطوتين هما: (التقسيم) و(التمييز)، ومعيارهما واحد هو (التكافؤ المنطقي) بين ما يراد تحليله والتحليل والمقصود (بالتقسيم) هو تقسيم التصور موضوع التحليل الى تصورات جزئية تؤلفه، وعلى ذلك فلابد للتصور من أن يكون مركبا غير بسيط، فعلى سبيل المثال، ان تحليل تصور (أخ) نراه ينحل الى تصوري (ذكر) و(من ينحدر من اصل مشترك)bull;
سؤال الفلسفة
وكان البحث قد أشار في مقدمة الكتاب الى اهمية الفلسفة وسؤالها المتكرر حول الوجود الانساني يقول في ذلكbull;
بما ان الفلسفة هي استئناف للمعرفة، وان السؤال الفلسفي ليس له ان quot;يخمدquot; بمجرد التوصل الى اجابات علمية، فان العلوم الانسانية ليس من شأنها القضاء على الفلسفة خلافا لما يظنه البعض، بل ان النقد الفلسفي حاضر حضورا متميزا على المستويات كافةbull;
لذلك، فان فلسفة اللغة هي بمثابة quot;المرصدquot; الذي لا غنى للفيلسوف عنه حتى يستشرف ويتبين الابعاد التي لا يزال النظر اليها ممكنا، بل ضروريا ضمن هذه المسألة الشائكة التي هي مسألة اللغةbull;
ومما تجدر الاشارة اليه في هذا الصدد أن عبارة فلسفة اللغة توحي بمدلولات مختلفةbull; ولقد اشار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (ولد 1913) الى هذا التنوع والحضور الواسع لما هو فلسفي بقوله: quot;لو كان لنا ان نحدد حصيلة الاعمال التي تشهد على اهتمام الفلاسفة باللغة خلال العشرية الأخيرة لوجب اخذ كل الانتاج الفلسفي تقريبا بعين الاعتبارquot;bull;
ويمكن حسب ريكور حصر التوجهات الفلسفية في ثلاثةاتجاهات، هي اولا فلسفة اللسانيات، وثانيا الاعمال التي قوامها توضيح اللغة كشرط، مسبق لكل تفكير فلسفي، وثالثا فلسفة اللغة بما هي quot;المضيقquot; الذي تصبح فيه اللغة سؤالا واشكالا بالنسبة الى الفيلسوفbull;
ان هذا التقسيم التي تبناه ريكور قائم على ان المقصود بعبارة فلسفة اللسانيات هو ان هذه الفلسفة تنحصر في مجال ابستمولوجي (معرفي) Epistemology بحيث يتمحور اهتمام الباحث على طبيعة النظريات اللسانية ومنهجية اللسانيات الوصيفة، ولهذا ادرج ريكور كل من ياكوبسن ومارتينيه وتشومسكي ضمن هذا الاتجاه الأولbull;

نقلا عن quot;الطليعةquot;