محمد سامي البوهي: كان لصفة البخل الحظ الأوفر بأن تلصق نفسها بشخصيات أدبية كبيرة،فكان لها ما لهم من شهرة وذيوع صيت،ولكن صفة البخل لم تلصق بهؤلاء الأدباء من فراغ بل لها أسبابها الخاصة التي استطاعت أن تخلق من خلالها مناخاً للعيش بين سيرهم الذاتية،فكلما ذكر اسم الجاحظ،حضر إلينا كتاب البخلاء بكل صفحاته الرائعة،التي عرض فيها صديقنا الجاحظ لصفة البخل بشكل مائز سبق به عصره،رغم اتهامه بالركاكة والضعف،لأنه قرر النزول من الأبراج العاجية التي صنعها أدباء عصره لأنفسهم،إلى العامة من قومه ينهل بما لذ وطاب من أخبارهم،ليملأ كتبه التي ظلت طازجة لجميع أجيال القراء من بعده،فمن خلال قراءتك لكتاب الجاحظ البخلاء،تستطيع أن تلمح إعجاب الجاحظ بتلك الأسباب التي يتحجج بها البخلاء لتبرير بخلهم،ولكن هذا الإعجاب الشديد أشعر البعض بميل الجاحظ لفئة البخلاء،ومن هنا جاء اتهام الجاحظ بالبخل،وكان لهذا الاتهام دعائمه وحججه التي استند إليها الإدعاء،لتوجيه تلك التهمة إلى صديقنا الجاحظ،فقد جاء في تاريخ بغداد،للخطيب البغدادي في الجزء الثاني عشر صـ217مايلي:
quot;سمعت أبا بكر محمد ابن إسحاق يقول: قالي إبراهيم ابن محمود ونحن ببغداد،ألا ندخل على عمرو بن بحر الجاحظ،فقلت:
- مالي وماله.
قال:
- إنك إذا انصرفت إلى خرسان سألوك عنه،فلو دخلت إليه وسمعت كلامه..
ثم لم يزل بي حتى دخلت عليه يوماً،فقدم إلينا طبقاً عليه رطب،فتناولت منه ثلاث رطبات،وأمسكت.. ومر فيه إبراهيم فأشرت إليه أن يمسك،فرمقني الجاحظ قائلاً:
- دعه يا فتى فقد كان عندي في هذه الأيام بعض إخواني فقدمت إليه الرطب،فامتنع،فحلفت عليه،فأبى إلا أن يبر قسمي بثلاثمائة رطبة..quot;
(كتاب البخلاء للجاحظ تحقيق د.يوسف الصليمي)

وهذه الحكاية أخذت على الجاحظ كدليل قاطع على أن ميله للبخلاء،ودفاعه عنهم،لم يكن مبرره الإعجاب والانبهار بحجج شحهم فقط،بل لأنه كان واحداً منهم بالفعل،فقد عد الرطب التي تناولها ضيفه،وحددها بثلاثمائة رطبة،وهذه شيمة من شيم البخلاء،ورغم أن الجاحظ قد قصد من هذا إثبات كرمه للضيف الذي أمسك عن تناول الرطب،وقد يكون تحديده لرقم الثلاثمائة رطبة هو من باب المبالغة في الكثرة لا أكثر ولا أقل، ولكن في النهاية الموقف لم يحسب له،وفهمه البعض من المنظور الآخر،وذلك لأنه هو الجاحظ صاحب البخلاء،المدافع عنهم،والمبرر لبخلهم بأسلوبه المميز الساخر،الذي حول استياء القارئ عن صفة البخل،إلى بسمة إعجاب،وانبهار بذكاء البخيل المبرر لبخله.
أما بالنسبة للأديب الكبير توفيق الحكيم فكان الأمر مختلفاً،فقد شاع عنه البخل لأفعال وأقوال ظاهرة وقاطعة،شهد له الجميع بها،ولا يمكن أن ننسى أبداً فنجان قهوته الشهير الذي كان لا يطلبه لإنسان قط قصد زيارته بمكتبه بالأهرام،أو رافقه الجلوس على المقهى بترو بالإسكندرية،وقد قمت بجمع بعض أقوال شهود الإثبات من مصادر مختلفة،التي تدعم إلصاق صفة البخل بأديبنا توفيق الحكيم، ولا يمكن الطعن في شهادتهم لأنهم عايشوه عن قرب،وكان لهم حظ الاحتكاك المباشر به:
- محمد حسنين هيكل:
quot; كان الحكيم يصر إن اخترت أنا المطعم يختار هو الوجبة،وإن قلت أكل فيليه،يختار الحكيم مطعماً تركياً في حارة صغيرة،وإن اشترطت الذهاب إلى سميراميس،يقول الغذاء (سنتدويتشات) quot;
- سكرتير الحكيم:
quot;منذ عمل الحكيم بجريدة الأهرام عام 1967وحتى قبل وفاته بسنتين،وهو يكتب بقلم رصاص واحد لم ينته أو يفرغ،وكان إذا سلف قلمه لأحد مضطراً فإنه يسلفه دون غطاء كي يضمن عودته...quot;
- حسين الساعي بالأهرام:
quot;عملت مع الحكيم عشرات السنين فإذا حضر له ضيف قال لي (هات القهوة يا حسين)وهذا معناه أن أذهب وأختفي من على وجه الأرض،وأوعى تجيب القهوة،وحسك عينك يبان لك طرف في الأفقquot;
ولكن بإعادة النظر لأقوال الشهود نجد في الأمر بعض المبالغة،أو تصدير قالب الاعتقاد المسبق عن الحكيم نتيجة لوجود خلفية البخل الشائعة عن الحكيم بعقولهم،ولذلك كانوا يرجئوا جميع أفعال الحكيم لتلك الصفة،فمن الممكن أن يكون الحكيم لا يحب الأكل في المطاعم مثلاً،ولذلك كان يتهرب من مطلب الأستاذ هيكل،وأما عن موضوع القلم الواحد الذي كان يكتب به منذ عمله بالأهرام،وتحدث عنه سكرتيره،أظن أن في الأمر اكبيرة،فمن الممكن أن الحكيم كان يفضل ماركة معينة من الأقلام،ولذلك كان يظهر أمام سكرتيره أنه قلم واحد،أما عن موضوع نزع الغطاء عن القلم،فكثيرون يفعلون ذلك،ونجد هذا الأمر شائعاً بين الموظفين بالمصالح الحكومية،وإذا عدنا لشهادة عم حسين ساعي الأهرام،نجد أن كلامه صحيحاً،ولكن لا يمكن إرجاع ذلك عن صفة بخل كائنه في الحكيم،فكثير من الأدباء يفضلون الخلوة بالنفس،ولا يريدون لزائر أن يقتحم عليهم خلوتهم،فيضيع وقتهم في الثرثرة الفارغة،وأظن أن تقديم فنجان القهوة للضيف،سيعطيه المجال للجلوس أكبر فترة ممكنة،وكان توفيق الحكيم من هؤلاء الأدباء الذين يبحثون عن تلك الخلوة بالنفس،ولذلك أطلق اسم (الصومعة)على مكتبه بالأهرام،و ميله إلى التأمل كان سبباً في ذهابه وإيابه لجريدة الأهرام مشياً على الأقدام، ولم يكن توفيراً لأجرة التاكسي كما يعتقد البعض،لكن الزائر الوحيد الذي كان يحظى بشرف فنجان قهوة الحكيم هي الأديبة(عائشة عبد الرحمن)بنت الشاطئ،وأرجع ذلك أن الحكيم كان يستفيد من جلستها،وعلمها الغزير،ولا يعتبرها زائراً مضيعاً لوقته الثمين،ولكن يبقى السؤال لماذا ألصقت تهمة البخل بالحكيم إذاً؟،إن شخصية الحكيم من الشخصيات التي تصنع لنفسها جواً خاصاً،سواء من ناحية الشكل،وذلك وضح في عكازه الذي رافقه منذ الشباب،أو( الباريه)،والمعطف الأسود،وقد لقي ذلك في كتاباته جانباً كبيراً،مثل كتابه (عصا الحكيم)،أومن ناحية الفعل الملزم لبعض الصفات،مثل عداوته للمرأة،وبخله الشديد،وهذه صفات مصطنعه،أراد منها خلق جواً هزلياً،فنجده بعيد ميلاد نجيب محفوظ يقدم له طاقم أقلام حبر على سبيل الهدية،وهو يرسم الضحكة باستعراضها الساخر على وجوه الحاضرين،فكانت جميع أفعاله اللاإرادية تنفي عنه صفة البخل،وتكشف للمتأمل لشخصية الحكيم،أنه ما أراد من صفة البخل المزعومة إلا هذه البهجة التي يخلفها وراءه كلما تعلق الحديث معه عن أمور مادية،فيحكي صاحب دار الشروق للنشر،أن الحكيم طلب عشرة آلاف جنيها نقداً ثمناً لمنح الدار حق طباعة أحد كتبه،ولكن صاحب الدار فوجئ بعد ذلك،أن الحكيم أشاع بين أدباء جيله بأنه تقاضى مائة ألف جنيهاً من صاحب دار الشروق نظير منحه حق طباعة هذا الكتاب،وتجد القارئ لكتابات الحكيم،التي اشتملت على سيره الذاتية،أثناء عمله كوكيل للنائب العام،وإقامته بفرنسا،يتعثر ببعض مواقف الحكيم،التي تنفي عنه صفة البخل،ففي كتابه (عدالة وفن) اندهشت جداً من حكايته التي رواها عندما انتدب للعمل بمدينة فارسكور بدمياط،وعندما وجد السكن الخاص بمبنى النيابة غير مجهز،أقام على حسابه الخاص،بفندق(كورتيل)الشهير بجزيرة رأس البر،وكان ينظر القضايا هناك ليكون قريباً من البحر،الغريب في الأمر أنه كان يتحمل نفقة إطعام المتهمين أصحاب القضايا من جيبه الخاص،وغيرها وغيرها من المواقف التي إن دلت فإنها تدل على كرم الحكيم،واعتداله المادي في الإنفاق،ويقول الحكيم أن السبب في نشر صفة البخل عنه بهذا الشكل هي السيدة أم كلثوم عندما زارت الأهرام لجمع التبرعات لصالح المجهود الحربي،وعندما طلبت منه تبرعاً،ادعى بأن ليس معه نقود،فقامت بتفتيشه بالقوة على سبيل المداعبة،فعثرت على مبلغ عشر جنيهات بكيس نظارته،ومن يومها و(أم كلثوم) لا تترك محفلاً إلا وروت تلك الحكاية.
دمياط هي مدينة من مدن مصر العريقة التي تقع على البحر المتوسط،وأشتهر عن أهل دمياط ولعهم بالعمل وتقديسه،حتى أطلق عليها يابان الشرق،لأن لا يوجد بها حجراً، أو بشراً لا يعمل،ومن هنا جاء حرص أهل دمياط على عدم إنفاق أموالهم إلا في وجهتها الصحيحة،لأنها أموال عزيزة بالنسبة لهم،كسبوها من عرقهم وتعبهم،لذلك أشتهر عن أهل دمياط إنهم أبخل من بخلاء الجاحظ،ولأن دمياط تشتهر ببيئتها الخلابة،وموقعها المتميز الذي يجمع بين النيل والبحر،أنجبت الكثير من الأدباء الذين أثروا الحركة الأدبية والثقافية بمصر،أمثال د.شوقي ضيف،د.عائشة عبد الرحمن،فاروق شوشة،طاهر أبو فاشا،محمد الأسمر،ومصطفى الماحي،والغريب في الأمر،أن معظم هؤلاء الأدباء عندما نزحوا إلى القاهرة،اتهموا ولو على سبيل الدعابة بصفة البخل،الذي يلتصق بكل دمياطي يحمل اسم دمياط،وهذا بالطبع يقع في علم الاجتماع تحت بند الأخطاء الاجتماعية،والذي يسمى بتعميم الأحكام،ولكن الشاعر (مصطفى الماحي) يبدو أنه أراد أن يثبت براءته،بعد أن شن عليه زميله الشاعر (محمود غنيم) حملة شعرية شنعاء يتهمه فيها بالبخل الشديد،لكونه واحداً من أهل دمياط.
-قد سمعنا عن بطكم ما سمعنا * * * فأكلنا بالأذن حتى شبعنا
- غير أن الأفواه تنطق همسا * * * ما عرفنا لذلك البط معنى
فقام الماحي بإعداد مائدة ضخمة،من البط الدمياطي بجميع.. أشكاله،المشوي،والمحمر،والمسلوق،ودعا لها كبار الأدباء والشعراء،ومنهم غنيم نفسه،وبعد الانتهاء من تلك الوليمة أعلن الماحي أنه أعد تلك الوليمة لينفي صفة البخل عنه،وعن شعب دمياط،بعدها ارتجل غنيم قصيدة طويلة ساخرة يتمادى فيها باتهامه للشاعر (مصطفى الماحي) بالبخل،حتى قال:بأن نابليون بجحافله لا يستطيع أن يقهر البخل الدمياطي،وكان ذلك يدور في جو من الطرافة واللطف. بالأخير نخلص بأن صفة البخل كانت من الصفات التي استوردها البعض ليلصقها ببعض الأدباء على سبيل الدعابة،أو إن الأديب نفسه هو من قام بنسبتها إليه ليضفي على سيرته رونقاً خاصاً كما فعل الحكيم.
قاص وباحث مصري مقيم بالكويت
[email protected]