عواد علي: حظيت مسرحية quot;هاملتquot; لشكسبير، باهتمام الكثير من المخرجين، سواء في الغرب،أو في الشرق، فأقبلوا على تجريب رؤاهم الإخراجية المختلفة عليها، وتقديم مقاربات وتأويلات جديدة لأحداثها وشخصياتها وفضاءاتها. وكثيراً ما أثير تساؤل مفاده: ما الذي يدفع هؤلاء المخرجين إلى تكرار إخراج هذه المسرحية، أهي الرغبة المحضة في التجديد فحسب، أم العبقرية التي تنطوي عليها النص ذاته، بحيث يسمح بقراءات ومقاربات معاصرة ليس لها حدود، وتنفتح على شتى النزعات والرؤى التجريبية، والتطبيقات المختبرية الحداثية، وما بعد الحداثية؟ وقد ركزت أجابات بعض المشتغلين في المسرح، والباحثين على الشق الأول من التساؤل، في حين ركزت إجابات أخرى على الشق الثاني منه، وهو ما أميل شخصياً إليه، فلو كانت الرغبة المحضة في التجديد فحسب هي الدافع لوجد هؤلاء المخرجون أمامهم عشرات النصوص المسرحية الحديثة التي تلبي تلك الرغبة. ولكنهم ماداموا يسعون إلى الخوض في تساؤلات إنسانية وسياسية كبرى تفرضها تعقيدات العصر، وأيديولوجياته، وصراعاته، ومصالحه المتشابكة، فأين يجدون نصاً مثل quot;هاملتquot; ينفتح على تأويلات سياسية وسايكولوجية واجتماعية وفلسفية وانثرويولوجية لا حصر لها؟ ولكي لا أغمط حق الذين رأوا في التجديد دافعاً لإقبال المخرجين على هذا النص أشير إلى أن الكثير من التجارب الإخراجية التي اشتغلت عليه في إطار مختبري زاوجت بين نزعات شكلانية حداثية، أو ما بعد حداثية، وتقديم تأويلات ومنظورات مختلفة لبنيتها الدلالية. وقد كان للمسرح العربي نصيب غير قليل من تلك التجارب، خلال العقود الأربعة الأخيرة، على يد بعض المخرجين، منهم: حميد محمد جواد، سامي عبد الحميد، صلاح القصب، جواد الأسدي، محمد حسين حبيب (من العراق)، خالد الطريفي (من الأردن)، وسليمان البسام (من الكويت).
يُعدّ حميد محمد جواد أسبق هؤلاء المخرجين، تاريخياً، في مغامرته التجريبية مع هذه المسرحية، ففي عام 1967 أخرجها في معهد الفنون الجميلة ببغداد برؤية سريالية، أو على نحو أدق تميز إخراجه لها بشطحات سريالية، كما قيل في حينها، إذ جعل خشبة المسرح على شكل علامة استفهام كبيرة، في حين جعل بعض عناصر الفضاء المسرحي يتخذ أشكالاً أخرى ذات انحناءات غريبة، وبعضها الآخر على شكل عصي. كما وضع في وسط المسرح ستارة ثقيلة كان بعض الشخصيات في العرض يتحرك من ورائها على طريقة المسرحيات الظلية، وتصرف في النص تصرفاً كبيراً، فألغى مشهد الشبح، مجرداً المسرحية من ملامحها الميتافيزيقية.
بعد تلك التجربة بسبعة أعوام أخرج سامي عبد الحميد المسرحية لفرقة المسرح الفني الحديث بعنوان quot;هاملت عربياًquot;، متصوراً أنها دراما تأملية لشاب عربي متحضر، نشأ في بيئة عربية بدوية، تجاوز تلك البيئة وتهذب خلال دراسته خارج بلده، وتعالى على عادات عائلته الحاكمة وتقاليدها، ولم يعد أهوجاً حتى يقدم على الأخذ بالثأر لوالده حال اكتشاف الحقيقة، وإنما تريث ليستجمع الأدلة على الفعلة الأثيمة، وينتظر الوقت المناسب لفضح المتآمرين أمام الجميع. ومن هنا جاء تردده... وكانت رؤية المخرج تقوم على إيجاد خصوصية للمسرح العربي، كما قال، فافترض وقوع أحداث المسرحية في منطقة ما على ساحل الخليج العربي، على أساس أن مسائل الخيانة والاغتيال والتآمر توجد في كل زمان ومكان، ووضع للعرض إطاراً عربياً من خلال سلوك الشخصيات والسينوغرافيا (الخيام والبسط والسجاجيد والأفرشة العربية). وبناءً على ذلك حذف من النص كل يحيل على المجتمع الدنماركي، مثل المقاطع الحوارية، وأسماء الشخصيات، وابقى على الألقاب فقط، كالملك والأمير والوزير وما إلى ذلك. كما حذف المخرج شخصية الشبح، وحول مقابلة هاملت له إلى مناجاة للنفس يمر بها البطل، ومن قبيل الحدس والجدل حول حادثة مقتل الأب الملك وزواج العم من الأم وتربعه على العرش. واستثمر المخرج بعض أغاني البحر الخليجية التي تختلط بها الآهات والحشرجات مع إيقاع الطبول والأواني الخزفية والنحاسية.
وفي عام 1980 أخرج صلاح القصب (هاملت) في سياق ما عُرف بـ (مسرح الصورة)، فشكّل العرض صدمةً للوسط المسرحي في العراق بسبب انتهاكه النص الشكسبيري، وغرائبيته، وافتراضاته وصوره العجيبة، وتأويلاته السايكولوجية، وأجوائه الطقسية البدائية؛ فقد افترض المخرج عدم وجود جريمة حقيقية تقض مضجع هاملت، وهي جريمة قتل أبيه الملك، وإنما هي وهم محض صاغه مخياله المريض، كونه مصاب بـالانفصام (الشيزوفرينيا)، في ذات الوقت الذي تعاني فيه مملكته من روح شريرة مدمرة. وعلى هذا الأساس جعل القصب هاملت يتحرك في خطين: يسير الأول تحت سيطرة الروح الشريرة، ويسير الثاني بمعزل عنها، وهو يمثل الأفق العقلاني في سلوكه ورؤيته، فحينما يكون تحت تأثير الروح الشريرة يظهر متلبساً شخصية إفريقي بدائي ( مثّلها ممثل أسود البشرة)، وتبدو له شخصية أوفيليا بوجه إفريقي بدائي (مثلتها ممثلة سوداء أيضاً)، ترتدي زياً تمتزج فيه ألوان زي كل من أوفيليا والملكة الأم الحقيقيتين، وحينما يكون هاملت خارج تأثير تلك الروح يظهر في شكله الاعتيادي (مثّله ممثل أبيض)، ويرى في أوفيليا الحقيقية (مثّلتها ممثلة بيضاء ذات وجه طفولي) روح البراءة، ومثالاً للوضوح والحب والمستقبل. ولكي يعمق القصب البؤرة المرضية في مخيلة هاملت، وروحه القلقة، وانفصامه العقلي فقد وظّف في فضاء العرض أشكالاً ورسوماً وأشياء مختلفة مستوحاة من الفنون البدائية، كالأسماك الحجرية، والأواني الفخارية، والحيوانات الخرافية، وعمد إلى شطر الشخصيات، واستخدم في بعض المشاهد المؤثرات الضوئية الخاصة، كالأشعة فوق البنفسجية، لخلق أجواء طقسية، وصور ذات ملامح سحرية، تدعمها أبخرة ودخان وروائح منتشرة في فضاء العرض. وفي محاولة منه للإيحاء إلى المتلقين بأن أحداث المسرحية وشخصياتها هي أحداث وشخصيات شمولية (كونية) توجد في أي عصر ومكان، فقد جردها من ملامحها البيئية، وإطارها التاريخي.
ولكن ينبغي التوكيد على أن رؤية القصب لهاملت وأفيليا بوصفهما شخصيتين متناقضتين، تفصح عن موقف كولونيالي يشبه مواقف آرتو وبروك وغروتوفسكي وشيشنر في تعاملهم مع التراث الملحمي والطقسي لشعوب الشرق تعاملاً جرده من سياقه المعرفي والروحي، ووصمه بـ quot;البدائيةquot;، أو نتاجاً للآخر quot;الشرقيquot; المختلف، والساذج، وغير العقلاني؛ فشخصية هاملت البيضاء هنا تتصف بالعقلانية، والوضوح، والتحرر من سطوة الميتافيزيقيا، في حين أن شخصيته السوداء، وهي تمثل الآخر المختلف، تتصف بالبدائية، واللاعقلانية، والاستسلام لسطوة الروح الشريرة. وكثيراً ماعبرت الكتابات الاستشراقية عن مواقف شبيهة تمثل المركزية الغربية في رؤيتها للآخر.
في عام 1984 أخرج خالد الطريفي عملاً مأخوذاً عن النص نفسه بعنوان quot;فرقة مسرحية وجدت مسرحاً فمسرحت هاملتquot;، أعده نادر عمران، وأنتجته فرقة الفوانيس. وقد استلهمت المسرحية من مشهد عمل الفرقة التي أحضرها هاملت في النص الأصلي، فأخذت أسلوبها الخاص بكشف الأسرار وفضحها، وجعلت منه كشافاً سلّطته على عالمها، إذ استقدم أمير فرقةً مسرحيةً تقدم مسرحية شكسبير لكي يكشف عن أمر يهمه أسوةً بما فعله الأمير هاملت. إلاّ أن فرقة الفوانيس مزجت الفكرة بجوانب من الحياة المعاصرة، محددةً موقفها من كافة القضايا المطروحة. يناقش الممثلون التراث لأنهم لا يقدسونه، ويقتربون من السخرية منه. يشربون الخمر لأنهم لا يخجلون من كشف مشاعرهم، و يرفضون الصعود إلى سدة السلطة والحكم لأنهم لا يحبون أن يملي عليهم أحد ما يجب أن يفعلوه. وحينما قدمت المسرحية هذه في إطار المهرجان المتنقل في الرباط انتبه المسرحيون إلى منحاها التجريبي المتفرد، كونها شهادةً حيةً داعيةً إلى ضرورة البحث خارج الأطر المعروفة. كسرت الجاهز، وخلخلت الموروث. أما الأساسي فيها فهو تكوين لغة سينوغرافية جديدة نابعة من صميم العملية نفسها، لهذا تصدرت كلوحة تشكيلية تركبت من مجموعة من الوحدات الدالة.
وأضفى المخرج سليمان البسام، في عرضه quot;مؤتمر هاملتquot;، الفائز بجائزة أفضل عرض مسرحي في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 2002، هويةً عربيةً، أيضاً، على أحداث النص الشكسبيري وشخصياته، ولكن برؤية وصياغة مختلفتين كلياً عن تجربة سامي عبد الحميد، فها هنا ينتمي العرض إلى المسرح الإسقاطي السياسي، وذلك بربط أحداثه بقضايا الساعة في الواقع العربي والدولي، بما تحمله من سلبيات وآلام ومحن. وهو يركز على الأيام الأخيرة من عهد طاغية، مسلطاً البسام، من خلالها، الضوء على الظروف الداخلية والخارجية، وعرض لحظة سقوط ذلك الطاغية، وما يصاحبها من ظروف. وفي مقابل تقديم المخرج لتلك الشخصية حاملةً صفات الحاكم الدكتاتور، فإنه يحول هاملت تدريجياً من شخصيته الشكسبيرية المعروفة إلى شخصية quot;الإرهابيquot; الإسلامي المتطرف لمواجهة الاستبداد والظلم الذي وقع عليه من عمه قاتل أبيه، وأمه التي تزوجت من قاتل زوجها. وأشارت كلمة التعريف بالمسرحية، التي تضمنها كتيب المهرجان، إلى quot;أن شخصيات العرض تظهر كأعضاء في وفود خلال اجتماع للقمة، وأمام الخلفية التي تمثل امبراطورية دمرتها الحرب تتخذ كل شخصية لغة مفاوضات دبلوماسية في حرب همجية من أجل البقاء. ومع ظهور تاجر الأسلحة، الذي تحتفي به كل الوفود، ندخل في الإطار السياسي للقرن العشرينquot;. واستعان البسام، من جملة ما استعان به من تقنيات فنية، بشاشة تعرض لقطات من أحداث ومشاكل معاصرة، وبكامرات خاصة موجهة إلى وجوه الممثلين بين حين وآخر، في مشاهد محددة، للكشف عن تعبيراتها في أثناء أدائهم. وقد وصفت صحف بريطانية هذا العرض بأنه أجرأ عمل سياسي يفضح الاستبداد والحروب، وينتقد الدول المتسلطة المتاجرة بمآسي الشعوب.
ولجواد الأسدي تجربة إخراجية مختبرية مأخوذة عن quot;هاملتquot;، أيضاً، بعنوان quot;شباك أوفيلياquot; ضمن الورشة المسرحية التي أقامها مركز الهناجر في القاهرة في موسم 93/ 94، ولكنني لم أشاهدها، ولم أفلح، للأسف، في الحصول على مراجع تتحدث عنها.
وأخيراً ثمة عرض جديد للمسرحية قُدّم في مدينة بابل العراقية، قبل نحو شهرين، للمخرج محمد حسين حبيب، أطلق عليه بعض الإعلاميين مجازاً اسم quot;هاملت البابليquot;. وقد تميز هذا العرض بتغيير النهاية المعروفة في النص، حيث أبقى على هاملت حياً، لأن له، حسب رؤية المخرج، مهمة لابد أن ينجزها مستقبلاً، وهي تحرير أبيه من قبضة الذين غدروا به، وبقي quot;أن نتحرر جميعنا لأننا لم نتحرر بعدquot;، على حد قوله في حواره الأخير الذي يختتم به العرض. ويتناغم هذا التغيير، الذي نسف الطابع التراجيدي لنص شكسبير، مع التغيير الذي أجراه عليه اللبناني طانيوس عبده، حينما ترجمه إلى العربية عام 1910، حيث لم يسمح بموت بطل كهاملت، حتى يسترد عرش أبيه المقتول، على شاكلة سيف بن ذي يزن، بدلاً من أن يظل متردداً يتساءلquot; أكون أو لا أكونquot;!
هذا على صعيد المقاربات الإخراجية لنص quot;هاملتquot;، أما على صعيد التأليف فقد أعاد عدد من كتاب المسرح العرب كتابته، على غرار ما فعلوا مع نص quot;أوديبquot; الاغريقي، ومن أشهر النصوص التي قدمت رؤى جديدة لشخصية هاملت أو لأحداث المسرحية: quot;أفكار جنونية فى دفتر هملتquot; لنجيب سرور، وquot;هاملت يستيقظ متأخراًquot; لممدوح عدوان، وquot;هاملت بلا هاملتquot; لخزعل الماجدي. وسأحاول في مقال لاحق الوقوف على هذه النصوص الثلاثة.