- الاسلوب هو الطريق.
- الاسلوب هو الإنسان (بيفون).
- الأسلوب يدل على صاحبه (ماكس جوب) وجوهر الإنسان كامن في لغته و حساسيته وهو البصمة المميّزة للمبدع.
- أن الأسلوب الذي يستخدمه الفنان في عملة ما هو إلا قوة لها استقلالها الذاتي وتتحكم في كل ماعداها (ارنست فيشر).
علي النجار: الفنان الرائد المرحوم حافظ ألدروبي كان يكرر بان أستاذ التلوين في الكلية التي درس فيها الفن في روما في رحلته الدراسية الأولى كان يجلس أمام مسند الرسم لانجاز لوحته وهو بكامل قيافته. ويفتخر هذا الأستاذ بسلوكه العملي المحافظ والمتأني درسا لتلاميذه الأخذ به في مستقبل مهنتهم. وان دل هذا السلوك على شيء، فإنما يدل على مدى التأني في انجاز مهمته الفنية التقليدية وهي أصلا واقعية أكاديمية محسوبة فيها مساحة كل لمسة فرشاة ومقننة ضمن حيز فضاءها المقترح يعززها كم معرفي مقنن حتى في كمية انفعاله (ما دام العمل فنا افتراضا). على الضد من هذا السلوك المهني كان الفنان الامريكيي (جاكسون بولوك) في ستينات القرن المنصرم يفرش قماشه الرسم حقلا يحرثها بما تقاطر من أواني ألوانه في حركة لائبة لا يستقر لها قرار. وان كان أستاذ ألدروبي يهتم بمراسيم جلسته فان بولوك يحطمها في فعله الحركي الذي يمارسه علي سطح عمله في ذروة انفعال غير مهادنة. وما بين هذا وذلك حوالي ثلاثون عاما هي في الذروة من الفعل ألحراكي الأسلوبي التشكيلي.
إن كان أستاذ ألدروبي يحافظ على منطقة حيادية ما بينه وبين قماشة رسمه فان بولوك يقتحمها بكامل قلقه وانفعاله حرثا لسطح ساكن لكنه قابل لتشابك الذات في الذروة من انفعالها. وان جاز لنا أن نطلق على نمطية أعمال الأول صفة الأسلوب. فان نمطيته تلغي بعض الشيء خصائصه الفردية لمشاعتها التقليدية وتحيله لنمطية عمومية. مع ذلك فإنها أيضا أسلوبا له خصائصه. لكنه غير قابل للحراك. وبذلك فانه يظل حبيس تقليديته الأكاديمية المدرسية. مثلما مشتغله الذي يحافظ هو الآخر على أناقته وحيادية فضاءه. لكن الحذلقة وهي بعض من مكونات الأناقة لا تصنع فنا مشاكسا ( بمعنى التجاوز الخلاق). وان فضل العديد من تشكيليينا المحافظة على علاماتهم الأسلوبية (ومعظم الأعمال مكتظة بالعلامات والمشخصات نفسها) فان الأمر هو الآخر لا يتعدى حذلقة أخرى مشابه.
هل اكتشف بولوك أسلوبيته التجريدية التعبيرية المتأخرة فجأة، بالطبع لا إذ أن أعماله ذات النزعة الطوطمية كانت تنبأ بحراكها الأسلوبي الاقتحامي فهي تجمع مابين حراك التشخيص المغترب وتجريد ضربات الفرشاة وتشابكها. ورسوم بهكذا مواصفات وبمرجعيات أسطورية بدئية تنذر بحراك منطقتها وبما يوازي حراك ذهنية الفنان المتحررة من سلطة الاستحواذ على مكتسباتها الآنية بحثا عن مخارج توصل التجربة إلى مدياتها القصوى لخلق أسطورة موازية لسلطة الكائن ألبدئي الذي تمرس على إقحام
سطوة مبثوثاته على امتداد سطوح أعماله الأولى. بمعنى آخر. ان الخلق الفني تمازج وذات الفنان في دورة تحولاته الثقافية، وبعد ان مل سكونية بعض أجزاء عمله وتاقت نفسه لحراك يشرك الجسد عنصرا
حركيا أدائيا، تحققت نبوءة جسارته الفنية الأولى. بعدها استطاع ان يحقق حلم اقتحام عمله من جميع الأطراف أبوابا مشرعة على حلم مستحيل. الفنان العراقي المعروف (محمد مهر الدين) هو الآخر لم يزل يبحث عن مخارج أسلوبية يناور بها مكتسباته الفنية الأولى. وان استباح بولوك الفعل الحركي العنيف في نهايات تجربته أو نضجها. فان مهر الدين يبحث الآن وبعد عدة عقود من تجربته عن معادل استاتيكي يلغي الفعل التشخيصي المشاكس من مجمل أعماله المتأخرة لصالح الهامش الكرافيتي الذي كان يتسلل غالبا من خلالها. وهو بذلك يركن لسكونية مفعمة حنينا للمنجز الأول ونائيا في نفس الوقت عن مشاكساته. مع ذلك فإننا لا يمكن ان نلغي العناصر المحركة لأسلبه كل من رسومات بولوك أو مهر الدين. لكنها مع ذلك اسلبه قابلة للحراك الذهني والإجرائي العملي وبما يتناسب وحراك الذات في أزمنتها المتتابعة.
فنون عصور ما قبل الحداثة الأوربية هي طرز تلقي بثقلها على نتاج الفنانين، وما الفروقات الشخصية إلا مناورة ذاتية عالية الكفاءة. لكنها أيضا تبقى ضمن اطر تلك الطرز الأسلوبية. مثلما هي الطرز القومية التي تحكمها ضوابط ثقافية واعراف مهنية لا تغادر ورشتها الكبرى إلا بحدود مناورات الكفاءات الإلهامية النادرة. الثورة التشكيلية الانطباعية بكسرها لحدود العمل الفني وفضائها الخلوي المفتوح ومناوراتها اللونية القزحية كسرت نمطية الأستوديو وأسست في نفس الوقت للأسلوبية الشخصية. فليس رينوار مثل مونيه أو لوترك أو سيزان ومن ثمة جوجان أو فان كوخ. لقد تقمص الأسلوب ذات مبدعه، وأصبحت الأعمال الفنية ذواتا متنوعة. وليست ورشه ذوات واحدة بفروقات ضئيلة. لقد كانوا أبناء جيلهم وليسوا مرهونين لماضيهم كما العديد من فنانينا العرب. لقد مر قرنين على هذه المكتشفات الذاتية ولا زلنا لا نعرف كيف نستفيد من درسها. ثم جاءت ورش أخرى كالتكعيبية، ورغم تبادل تجارب بعض روادها إلا أن ما تبقى منها هو درس ليس بالهين إغفاله، مثل تحطيم الشكل وإعادة بنائه فيزيائيا ومعرفيا للحد الذي ساعد على اختراق حاجز سكونية المألوفة التشخيصية لصالح بناء عوالم جديدة هي بعض من إرهاصات نوازع القلق الذاتي المتمرد على مساحة سكونية السطح في بعديه التي لم تعد مجدية لمناورة المكان وهو حاضننا الأكبر. وان كان الفنان صانعا ضمن اطر الطراز سابقا فانه وبعهده الجديد تحول إلى صانع ومفكر ثقافي ومكتشف اجتماعي و جمالي. وباتت مساحة إبداعه بمناوراتها الأسلوبية المتحركة والمتبدلة شاسعة لا يحدها حد.
الفنان الاستثنائي بيكاسو تحكمت في ذاته المبدعة عين فاحصة شديدة الانبهار بما حولها، ومهارة أدائية مكتملة الأدوات (لقد كان زميل تكعيبيته براك يخفي رسوماته خوفا من أن تتحول هذه الرسوم ومن خلال إبصار بيكاسو لها إلى منجز بيكاسوي). ونفس قلقة لائبة لا يستقر لها قرار. وزمن هو في الذروة من الحراك ألاكتشافي الفني الموازي للمكتشفات العلمية التي مهد لها القرن التاسع عشر، ووسط فني متمرد على ما قبله، وعصر كوارثي أنتج حربين كونيين والعديد من الحروب الصغرى. كل هذه المحركات الوجدانية والثقافية والبيئية ساهمت في تعزيز مكتشفاته الأسلوبية وكسرها وتجاوزها ولم يكن
مهادنا مع نفسه ليبقى أسير أسلوب واحد رغم براعة منتجه الاسلوبي، بل كان يواكب الحراك الزمني للقرن العشرين بحراك أسلوبي مستقبلي متواتر ومتجاوز و مختلف للحد الذي ساهمت مكتشفاته الأسلوبية في حراك الفن الحديث وتنوع إيحاءاته. فمصادره الإلهامية الزمنكانية الثقافية وهي في المركز من اهتمامه أوصلت نتائج بحوثه التشكيلية لذروتها الإبداعية. وان كان الزمان والمكان متغيرا ولا يزال فكيف يرتضي الفنان إقامته في منطقة واحدة (اسلبه واحدة) يبني عليها كامل منجزه ونحن نعيش وسط حاضن ثقافي متسارع المتغيرات، حتى ولو كانت جمالية، فالذائقة الجمالية هي الأخرى تتعرض للتغير. وان نحن استطعنا أن نهضم فيه درس بيكاسو فالمفروض بنا ان نحرك مناطقنا الإبداعية بموازاة منطقة الحراك الثقافي لزمننا بكل متغيراته الاعجازية المتسارعة وبما يوافقها من أدوات تعبيرية إجرائية متنوعة. وان كان الشاعر نبي أزمان مضت أو لا تزال فعلى الفنان أيضا أن ينبري للإدلاء بنبوءته الإبداعية.
الأسلوب وهو يتمثل تفاصيل العمل وطرق التصور والأداء يتشكل بصمة شخصية بالتأكيد. لكنها بصمة متعالقة وحراك الذات الفنية الفاعلة. وان حملت العديد من الأعمال الفنية بصمة مبدعها. فهل تشكل البصمة الشخصية كل شيء في العمل الفني في زمن تشضي الأساليب ضمن مساحة التأويل الثقافي والاجتماعي والفلسفي في العديد من اتجاهات فنون مابعد الحداثة وبالذات الأعمال الفنتاسية (الخيالية، ومنها الخيال العلمي) والنصية و الفيديوية ببرمجياتها وبتقنياتها المختلطة. وأعمال الفكرة (كونسبتوال، فيرتوال) فان كانت الأسلبة مرتبطة بأدواتها التنفيذية التشكيلية التقليدية من صباغة ومواد خام وجاهزة ومرتهنة بإمكانياتها التعبيرية. فان بعض الأعمال الفنية لا تخضع لنفس الشروط التنفيذية، مثل فن الأداء الجسدي والنص الافتراضي والكثير من أعمال التجميع والإنشاء. بل حتى البصمة الشخصية هي الأخرى في أعمال العديد من فناني مابعد الحداثة كثيرا ما تتغير بتغيير مشاريعهم التشكيلية. ومن خلال ملاحظتنا للعديد من انجازات الفنان المعاصر بالإمكان متابعة مسار الذات في الخط الأسلوبي وبشكل إيحائي عام رغم ما يطرأ عليه من تغييرات أو تحويرات أو تبدلات تقصي حتى جذر الاسلوب وتقنيته الأولى. ربما لخط السيرة أو للسطوة البيئية أو الثقافية أو الاجتماعية، أو من كل ذلك، تتشكل بعض العناصر السرية التي تتسلل بغفلة أو بقصد من الذات للعمل الفني. ومتابعة خط إنتاج فنان مابعد حداثي مشهور (جيف كونز) الأمريكي تدلنا على ذلك. هذا الفنان العولمي رغم كون نتاجه من إفرازات السوق التشكيلية الأمريكية المتنوعة وبمقاربات من مخلفات فن البوب من خلال استغلاله لجاهزية الكثير من أشكال الدمى التسويقية ومفردات السوق الغذائي والجنسي. بإمكاننا ان نرصد خطا سريا يربط أعماله ببعضها ليس بعيدا عن مقاصد شروط الذائقة الاجتماعية والحس التسويقي (وهو مهني أصلا في مضاربات البورصة قبل ان يتفرغ للإنتاج الفني) في أنتاج أعماله. وبالتأكيد شروط إنتاج مقننة هكذا سوف تنتج فنا ذا طابع أسلوبي صناعي جمالي نفعي متقارب رغم اختلاف المفردات وحتى مواد تنفيذها، والمهم بالنسبة للفنان هو طريقة اكتشاف المفردة الفنية بحس تسويقي يتواءم وأطروحات السوق الإعلامية. للحد الذي مكن أعماله من عرضها في قصر فرساي ضمن فضاء مغاير لفضاء المدن الأمريكية الحديثة حيث عرضت في فضاءاته وتفاصيلها (الروكوكو) الأثرية ولأول مرة. وهي مفارقة لا تزال موضع شك، رغم استساغتها كفضاء غرائبي معاصر تكرر في مشاريع عروض أخرى وفي مناطق مختلفة من العالم.
الأسلبة التشكيلية في وقتنا الحاضر لا تعني إعادة أو تقليد اللوحة الأولى ولا المنحوتة الأولى أو الرسم الأول والفتوغراف الأول للفنان تحت ذريعة الخصوصية الأسلوبية، رغم وجود نماذج لنتاج بهذه المواصفات لفنانين تشكيليين عراقيين أو عرب وللحد الذي ألغى الخصوصية الإبداعية في العديد من الأعمال الفنية العربية لاشتغالها في نفس المنطقة المشاعية الأثرية تحت ذريعة التأصيل. والتأصيل بالمفهوم المعاصر هو أصلا معاصرة الحدث الثقافي تأصيلا لزمنه. فكل منتج تشكيلي هو منتج ثقافي وعلينا مراعاة شروط الإنتاج الثقافي لزمننا وليس للأزمنة الماضية التي خلقت منتجها الخاص. وان كان ولابد من الاستفادة من الموروث، فاعتقد أن هذه الاستفادة بحدود كونها لا تلغي السمة التجديدية الابتكارية التي لا تتعارض ومبتكرات التشكيل المعاصر، والعولمة التشكيلية الثقافية كما نفهمها أو ندعو لها لا تلغي الثقافات المحلية وكما تنص عليه العديد من تنظيراتها والتي من الممكن ان تكون سندا لنا في مواجهة زيف الآخر. وان كنا من ساكني هذا الكوكب الأرضي فمشكلات العنف والتطرف والبيئية والاقتصاد هي واحدة. مثلما هي مساحة الجمال والمتعة والتأمل واحدة. وهي دعوة للبحث عن سبل وطرق تشكيلية أدائية جديدة تتماشى وحاضر الثقافة العالمية التي يشكل التشكيل احد أركانها. فان اعترض غالبية التشكيليين العرب على الطرق الأدائية (الأسلوبية افتراضا) العالمية، فهل بإمكانهم الإتيان بما يوازي مبتكراتها التي لا تعد والتي تغلغلت بين ثنايا الثقافة العامة والشخصية الاورباميركية وحتى اللاتينية والصينية واليابانية وشرق آسيا. أم هل ننتظر المعجزة. وهل يتخلى التشكيل العربي عن دور الريادة المزعومة رغم تواضعها. مع ذلك فان رياداته الزمنية التأسيسية الحديثة كانت على مقربة من حافات التشكيل العالمي في ذلك الزمن. والحافة هي طريقنا للولوج إلى العمق من مناطقه المضيئة إذا ما توفرت لدينا النية للمغامرة. فالتشكيل وبكل الأحوال هو مغامرة للمجهول، لكنها مغامرة تصنع مجد مستقبلها.
التعليقات