دُعي لإلقاء محاضرة عن: quot;غياب المثقفquot;.. أجاب الدعوة بحماس غير معهود للنادي.. تحمّس المنظمون معه؛ فلأول مرة في تاريخ النادي الأدبي ستُفّند نظرية الغياب المزعومة للمثقفين.
وزّعت الدعوات.. المسجات، ورسائل البريد الإلكتروني.
في مطلع الشهر الميلادي الجديد حُدِّد تاريخ إلقاء المحاضرة. اكتظت القاعة بالحضور المُتميِّز. على خلاف العادة، طُلِبت الكراسي الاحتياطية، لِتسع الحضور الغفير.
المثقف المُنتظر لم يأتِ بعد. ما العمل؟ لا أحد يدري.. تحيّر المنظمون، هل تُلغى المحاضرة؟ هل يُدار حوارٌ عفويٌّ إن تأكد غيابه؟ هل يُطلب من أحد المثقفين الحاضرين؛ أن يُلقيَ كلمة مرتجلة؟ لكن، هذا خلاف الأنظمة، فمطلوب رسميًّا أن تُكتب المحاضرة، حرفاً حرفاً، وكلمةً كلمةً، قبل إلقائها على الحاضرين، ولا يسمح للمُحاضر سوى أن يُعلّق، تعليقات خفيفة، تُساعد على إيصال الفكرة للمستمعين إن لزم الأمر ذلك.. إذاً، ما الحل؟ ما المخرج؟
تحرّك أحد المنظمين من مكانه، اقترب من مدير النادي، طلب منه رقم الجوال للضيف الكريم.
- عفواً، محاضرنا لا يمتلك جوالاً، كما أنه لا يؤمن بالتقنية الحديثة؛ إذْ يحسب نفسه من طراز المثقفين القُدامى، وهو لا يكتب أيضاً على الأوراق الناصعة، بل تراه يُفضِّل الصفراء منها؛ ليتذكّر عبرها أيام مجدٍ قد سلف، وهو بصنيعه هذا، يحاول التقاط المجد الضائع للأمة، كما كتب في مقالة سابقة له!
يتقدّم مدير النادي مطمئناً الحاضرين، بقرب وصول المحاضر، فقد رئي من قبل عارفيه، وهو يقود سيارته أمام الشارع المجاور للنادي.. انخفضت الأصوات، إلاّ من همس خفيف.
تمر الدقائق بطيئة، والمثقف لم يأتِ بعد!
-هل أصيب، بمكروه؟
هكذا تساءل أحد أقاربه -الذي قَدِم خصّيصاً من منطقة بعيدة- ليُشنف أذنيه بكلام قريبه وأستاذه ومثله الأعلى.
-quot;فال الله، ولا فالكquot;.. بهذه العبارة، ردّ أحد مُحِّبيه.
مضت من الوقت المحدّد لإلقاء المحاضرة، أكثر من نصف ساعة، وتسلّل بعض الحضور خارج القاعة.. أحدهم راح يشعل سيجارة؛ وآخرون تناولوا أكواب الشاي وعلب الماء والعصير.. تهامس بعضهم: quot;مثقف آخر زمن، ما صارت، إلى متى ننتظر تشريفهquot;؟.. quot;خلّنا نروح بيوتنا أبرك ليناquot;.. quot;يالله، من صبر ظفرquot;.. quot;خوش تتنquot;..
مدير النادي لم يقرَّ له قرار، بدا منزعجاً، لفظه الكرسي؛ ليستوي واقفاً على رجليه، أمسك باللاقطة، شعر بالخجل الشديد، وقال بتوتر ظاهر: quot;الغايب عذره معاه، ونسأل الله السلامة لمحاضرنا.. باسمي وباسم النادي الأدبي، أوجه اعتذاري لجميع الحاضرين، وأشكركم سلفاً لتجشّمكم عناء القدوم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتصبحون على خيرquot;.
انفّض الجمع، وهم يتهامسون.. فيما أقبل المنظمون بعضهم على بعض يتلاومون.
بعد يومين، تناولت الصحافة المحلية الخبر، فكتبت إحداها بالمانشيت العريض: quot;مثقف بارز أضاع مقرّ النادي الأدبي، فوجد ضالته في مطعمٍ شعاره: كل حتى تشبعquot;.

[email protected]