علي النجار:لكي يتم معاينة ميزات العمل التشكيلي ارتئي الابتعاد عن محاولات سبر ميزاته من خلال المنهج السيكولوجي حرصا على استقلالية مبثوثاته وتشضي مناطق تلقيها وتأويلها التي تتعدى آليات التفسير لهذا المنهج وللحد الذي يكون فيه غير فاعلا غالبا في الزمن التشكيلي الراهن. وان كان الاعتقاد الشائع أحيانا بان هذا المنهج يكرس الفن منفذا لفك أو فتح مغاليق عصاب الفنان وللحد الذي يجد نفسه متعايشا معه كي يتجنب مضاعفاته المرضية ومكرسا الاضطراب النفسي كدافعا ارأس لإبداعه، والذي يعزو اضطراب المزاج لما قبل الشروع في العملية الفنية إلا إرهاصات فترة ما قبل بزوغ (الومضة الإبداعية!). تفسير بهذه الصيغة ربما يكون مقبولا أو مقنعا كإشارة من بعض إشارات لحراك النتاج الفني (الرومانسي) لزمن محدد من القرن الثامن عشر. لكن ومع كل الحراك الثقافي البراكماتي والآلي والاجتماعي لوقتنا الحالي وتحكم سلطات عديدة في إخراج النتاج الفني وسبل أداءه وتسويقه وفرض ذائقته، يبقى مجال ضيق جدا للقراءة السيكولوجية لهذا النتاج الإبداعي. لكن ونحن بصدد معاينة رسوم العصابيين فلا بد من الاستعانة ببعض من خصائص هذا المنهج ليس حفرا في شخصية الفنان (العصابي) بل في رسومه، تقريبا أو تبسيطا لإمكانية معاينتها.
حدثني احد أصدقائي التشكيليين العراقيين (*)عن تجربة فريدة حدثت له في مرسم تابع لمصحة عقلية في إحدى مدن السويد. حينما عرض بعض رسومه مع رسوم أنجزوها المرضى. وكانت المفاجئة إعجاب الدكتور المعالج برسومه كرسوم تبيين بشكل جلي عصاب شخصية منتجها. المعالج هذا فاته أنها نتاج الأستاذ (وهو فنان محترف) وحسبها لبعض المرضى. وهذا المثل يدلنا على أن النتاج التشكيلي المحترف سواء كان تشخيصيا أو تجريديا أو ما بينهما من أساليب ورؤى وأفكار هي إن خضعت للمعاينة النفسية السريرية فسوف يصنف غالبتها كنتاج مرضي عصابي. من هنا جاء نأي النقد التشكيلي المعاصر عن المنهج أو الممارسة المنهجية السيكولوجية اجتنابا لمطباته التي لا تحمد عقباها والتي تخضع الظاهر للباطن المستور بأدوات هي قابلة للحجب لا للإظهار. وخاصة والنتاج التشكيلي في زمننا الآني يخضع وبشكل عام لضوابط ثقافية فردية وجماعية واجتماعية آنية وتراكمية مثلما تتحكم فيه ضوابط تسويقية. أي بمعنى ما، تتوفر في النتاج التشكيلي المعاصر إرادة معرفية متطورة، وحتى في الأشتغالات الفنتاسية التي خضعت للبرنامجية الرقمية في معظم أطروحاتها. وان حدثت مقاربات في نتاج الذهنيات المريضة (النفسانية) فان سعة منطقة التشكيل المعاصر تحتويها كاجتهادات مقاربة لاجتهادات الأداءات العفوية، أو التلقائية التعبيرية والإمكانات ألأدائية لمادة التنفيذ.
كثيرا ما تم تداول عبارات مثل لا فرق بين خربشة حيوان (القرد مثلا) وبين رسوم بيكاسو أو أي من مجايليه الحداثيين في الستينات من القرن الماضي ولنا مثلا في (خروشوف، كناطق إيديولوجي رسمي، لا يختلف عن مجايليه من إيديولوجيات مختلفة) وليس في الأمر من غرابة لتحكم الايدولوجيا والحنين لماضي يوفر قناعات هي جزء من مفهوم ساذج لواقعية الرؤية والتخيل. وما بين واقعية الرؤية وهي فيزيائية ملغزة وواقع الحراك الثقافي الفني الاستكشافي ألتجاوزي بون شاسع. لكن وفي بعض من إيحاءات هذا الفهم (الواقعي) يكمن التوافق ما بين خربشة القرد وخربشة الجنون وخاصة لمن يعاني من الذهان وهو عطب يؤدي إلى اختلال في بعض من مدارك العقل أو انفصام ألشخصيته. والعطل بالذات إذا كان في نسبة معينة فالمتبقي منه ربما يوازي مدارك عقل القرد. ومن هنا ربما يحدث التناظر ما بين خربشة القرد والمريض (وقد وجدنا أمثلة قليلة تؤيد هذا الزعم). لكن مع تحفظنا على ذلك، والسبب راجع إلى مرجعية المريض الماقبل مرضية ومدى انبثاق بعض مخزوناتها عفويا أثناء ممارسته الخربشة أو (الرسم) ويستدل من ذلك على قدرة رسومه التشخيصية (شخوص استيهاماته الخاصة، حالاته المتشضية) التعبيرية. وان كان المجنون أو لنطلق عليه النفساني غير قادر على الإفصاح نطقا وخاصة إذا كان متوحدا، ومع ذلك فان هذا البكم أو الخرس الظاهري لا بد أن يخفي خلف ظاهره غورا فوارا قابلا للإفصاح، بما توفره له أداة التعبير أو الإفصاح المتوفر لديه أو الموفرة له عن مكبوتاته، كأدوات الرسم مثلا، حينها سوف يكشف لنا (بتوفر المزاج أو الدافع الناتج عن تفريع المكبوت أو تنفيسه) عن نتاج يوازي في قيمته التعبيرية نتاجات تشكيلية حديثة مشهورة.
الأحلام نافذتنا السرية لتواريخ هي جزء من ارثنا الشخصي أو الجمعي. تواريخ حوادث ومطبات آنية ومدروسة،ورغبات وميول، خسارات وأمنيات، خيالات تطفو على سطح زلق، سماوات وحضيض. نشوة وتقزز. شبق وسمو. اختلاطات هي جزء من إفرازات العمق المحصن عن البوح بضوابط فردية وجماعية. بشرائع وسنن. وللفن بمساحته الواسعة أحلامه الخاصة التي تسع مساحته، أحلام هي من العمق أو السطح، وما يصيب الشخص من رذاذ أحلامه كذلك للفنان حصته. وأحلام الفنان المتحكم بدفتها تسعى وبشكل سري للمتعة الاستثنائية والتي من ضمن مركباتها الشهرة. المتعة وهي ناجزة فعلا، لكن سوف تظل الشهرة مخبوءة إن تكن أحيانا لغزا لكنه سوف يفكك حكايا غالبا. ومن ضمن المألوف وعدمه برزت للسطح لامألوفية أعمال تشكيلية هي جزء من أسطورة أحلام صانعيها. أخضعهم (عصابهم !) أو هم خضعوا لعصاب عصرهم. وما بين وحشة غرفة (فان كوخ) الحمراء وبكائيات (بيكاسو) وهستريا الجنس عند (فرانسيس بيكون) و صرخة (ادوارد مونخ) توزعت نوازع ذاتية بقدر ما تبدو عصابية هي جزء من ذوات بلغت الأوج في انصهارها وبعض من محن عصرها أو محنهم الشخصية أو البيئية. وان خضعت أعمالهم هذه للمعاينة السيكولوجية فسوف تخسر كل تألقها، رغم لا خفاء مظهريتيها السيكولوجية. مع كل ذلك لا نعدم أن نجد رسوما للمرضى النفسانيين توازي مقدرة هذه الأعمال الافصاحية. ربما لحراك مخبوءات العمق بعد انفجارها ونفاذها للسطح دور في ذلك.
للعديد من أعمال الكرافيت الشبابية المخترقة أمكنتها عنوة في الشوارع والبنيات العمومية (وهي تختلف عن فن الشارع**) سمات عصابية جنسية هي بعض من إفرازات الاحباطات الذاتية أومن مخلفات المعازل الأثنية الجنسانية ( ليست كما كانته في قرون سابقة، بل كما هي عند مرضى الايدز أو الأمراض الجنسية الوراثية أو الشواذ..) سواء كانت نصوصا مكتوبة أو رسوما تشخيصية لهؤلاء الشباب. لكنها لم تبلغ بكل إشاراتها وضوح وحتى فجاجة رسوم المرافق العامة (المراحيض) الجنسية الهستيرية وخاصة في مدن الشرق أو الجنوب. لسيادة ضوابط الخطاب الاجتماعي الجمعي وقمع النوازع الغريزية الجنسية. ما تحمله هذه الرسوم السرية من عناصر وضوح أو إيحاءات أو حتى اعلانات تكرس الجنس هاجسا ممضا وبمظهرية غالبا ما تكون ساذجة بدائية لا تتعدى أحيانا وسيلة إيضاح للأعضاء الجنسية أو الإفصاح عن الميول والرغبات المكبوتة.على النقيض من ذلك فرغم نوازع الكبت المرضية إلا أن رسوم غالبية نزلاء المصحات العقلية تمتلك خصائص فنية اقدر لامتلاكها أداة التعبير والإفصاح عن أعمق خبايا نفوس هؤلاء المرضى، تماهي المريض وحالته الذهانية أو بعض من مبعثراتها تكسبه الصفة الافصاحية بدقائقها وبموشور ملونتها الحريف. رسوم بهذه المقدرة التعبيرية تستحق جدارتها الفنية بمصاف العديد من الرسوم التعبيرية الحديثة. كما من الممكن أن تشكل مصدرا إلهاميا للعديد من النتاج التشكيلي ألمابعد حداثي مثلما كانته في النتاج التشكيلي الحديث.
ربما نجد بعض التفاصيل المقاربة بين رسوم الأطفال والمرضى النفسانيين. لكنها وان وجدت فإنها لا تشكل دليلا على انتمائها لنفس المنطقة التعبيرية. فدماغ الطفل هو في طور النمو ويفتقد الكمال في نضوج تلافيفه. بينما النفساني في تواريخ سابقة كان يتمتع بكمال ذهنه قبل عطب منطقة أو عدة مناطق من دماغه. كذلك فان عالم الطفل ومداركه محصورة في ادراكاته المختزلة للجسد والبيئة المحيطة وبحراك اجتهادات نفعية غرائزية غالبا هي جزء من نوازع تحقيق شخصيته. بينما النفساني في رسومه يحاول النبش في ذاكرة كانت مكتملة وتعرضت للعطب لاحقا، في مسعى لخفض توتر أو ضغوط حالة الكبت اللاشعوري الاستثنائي الذي يعاني منه. وإذا كان الطفل يحقق رغبة في فعله الفني، فان النفسانيون يحاولون استعادة بعض من مخبوءات ذهنيتهم أو غرائزهم المفقودة تنفيسا عن ضغط مكبوتاتها. لذلك فان الغالبية من رسومهم تتوفر على عناصر تشخيصية وأدائية أكثر غنى وأفصح تعبيرا وأوضح في إحالتها لمصادرها الإلهامية الفنتاسية اوالمادية. رغم أهمية الكثرة من رسوم الأطفال لسماتها التعبيرية التلقائية في طبقة السطح الأولى. إلا أن العديد من رسوم النفسانيين تنفذ إلى العمق متعدية ذلك باختلاف دوافع التعبير وحدة نوازع بزوغه. أي بمعنى آخر، هي أكثر غنى وأوسع مساحة. وبحاجة لتنقيب أكثر.
العديد من الرسوم الشخصية التي أنتجها النفسانيون تحمل سماتها العصابية كملامح يغلف خطوط قسماتها الخوف أو الرعب او الكآبة، جحوظ العينين مع نثار أو لطخة اللون الحاد الذي يغطيها أحيانا. تكشيرة الأسنان أو ضم الفم بحدة تؤكد دهشة ولوج عتبة الفناء. إما الرسوم التي تمثل وجوه أنثوية فإنها تحاول إظهار إشارات حادة أو صارخة للقسمات الأنثوية: لون العينين أو المبالغة في الرموش وحجم الشفاه وألوانها وحتى الوشم أحيانا مع استعراض عناصر الكبت كالدموع أو اثر القبلة وأحينا بحاضن زخرفي أو بما يعوض عن ذلك من ملونة خلفية. وللخيال بعض الأحيان وهو من بعض خزين ذهنيتهم السابقة دور في إخراج صيغة رسوماتهم وخاصة مالها صلة برسوم الحيوانات أو تقمصهم لها. وأحيانا يشكل القناع وغالبا ما يكون مهرجا، قناعا حقيقيا لأحلامهم اللاشعورية المفقودة. كذلك تشكل الدمى للمريضة معبرا لانفعالاتها المكبوتة بما تحملها من تفاصيل وخروقات ووخز وملونة فاللعب بملامح الدمية هو بالتأكيد يوازي تقلب أو تغيير ملامح أو قسمات المريضة نفسها وبما يتفق وضغط حالتها النفسية.
إن كانت للعصاب لغته الافصاحية الفنية التي تعبر عن مكبوت الرعب الداخلي. مثلما هو الحال في اللغة التعبيرية لمرضى الاكتئاب، أو الذهان (اختلال العقل، فصام الشخصية، أو الجنون الحاد)، أو الإدمان على الكحول والمخدرات، أو من يعاني من أي عطب جسدي يؤدي إلى الخلل النفسي، أو التخلف في السلوك والعقل، أو بتأثير من أعراض مرض جنسي. فان محاولاتهم الفنية التعبيرية تتوزع عبر كل حالات معاناة دواخلهم هذه، لغات تعبيرية متعددة ومختلفة بنسب تحددها حدة المعاناة أو ضغط اللاشعور المعطوب. ويبقى فن الرسم من ضمن هذه اللغات التعبيرية هو الأكثر حظا لتوفره على المقدرة الافصاحية لمألوف استرجاعات تفاصيل عوالمهم المفقودة. وأخيرا فنتاج العوق النفسي اظافة إلى مقارباته لنتاجات تشكيلية أخرى لا بد وان يشكل جزءا لا يتجزأ ا من النتاج التشكيلي الإنساني لوسع مساحة إبداعه. وان كان ثم أرشفة علاجية أو متحفية فسوف نكون مكشوفين من خلالها على دواخل غالبا ما نغظ الطرف عنها.
* الفنان عمار داود.
(Street Art)**
فن الشارع: يمارسه فنانون وطلاب و يحققون مشاريعهم على سطوح البنايات العامة أو الشوارع ومن مختلف التخصصات. ومعظم عروضهم صورية أو أدائية جسدية وبنوازع ثقافية أو جمالية او فنطاسية تتشكل ضمن بيئة قابلة لاحتضانها وتتحقق كمشاريع فنية تضيف مسحة حركية في معظمها. وتندرج غالبية هذه العروض ضمن حيزها المعماري وبيئتها الاجتماعية.
التعليقات