.jpg)
حميد مشهداني من مدريد: في الثاني من هذا الشهر ldquo;نوفمبرrdquo; فاجاء متحف ldquo;البرادوrdquo; زواره بمعرض فريد من نوعه على مدى عصور المتاحف العريقة، فهو المحتفظ بأكبر مجموعة من لوحات ldquo;بيتر بول روبنزrdquo; في العالم، ومجموعها 90 لوحة كانت موزعة بين العديد من قاعات المتحف الكبير، ويبدو أن احدهم من محافظي المتحف الاذكياء، فكر في جمعها وعرضها بطريقة رائعة بين صالتين، فتجمعت أعمال الفنان متراكمة، في احتفال لوني باهر لم يره أحدا في السابق، فمتحف ldquo;البرادوrdquo; صاحب أكبر مجموعة من لوحات ldquo;الفلامينكيrdquo; كانت تتواجد في مختلف القاعات بين رسامي عصره مثل ldquo;فيلاسكيزrdquo; و ldquo;ثوربارانrdquo; وrdquo;كارفاجيوrdquo; واخرين، وثاني اكبر المتاحف في العالم بعد ldquo;اللوفرrdquo; يعرض كنوز ldquo;روبنزrdquo; في صالتين، وبتسلسل تأريخي .
هذا النوع من العرض كان كلاسيكيا في القرنين السابع والثامن عشر، استعاده الان متحف ldquo;البرادوrdquo; ففنانو تلك العصور أعتادوا عرض لوحاتهم في اسواق خاصة، وحتى في شوارع المدن، مثل ldquo;فينيسياrdquo; وquot;امستردامrdquo; وldquo;امبيريسrdquo; وهنا تكمن فكرة العرض الفريد هذا في متحف ldquo;البرادوrdquo; حيث سحبت كل أعمال ldquo;روبنزrdquo; لتتكدس في قاعتين، كما في سوق شوارعي، وrdquo;بيكاسوrdquo; هو الوحيد الذي خلد هذا النشاط في عرضه الشامل للمئات من لوحاته، ونحته، وحفره في الاربعينات من من القرن الماضي في قصر البابوات في مدينة ldquo;افينيونrdquo; ألتأريخية في جنوب فرنسا.
والجميل، كما ذكرت، هو تراكم الاعمال كما في أي سوق محلي، ولكنها هنا وضعت بتسلسل تأريخ تنفيذها، بمشهد ldquo;باناروميrdquo; مثيرا للدهشة. ففي الصالة الاولى يلاحظ المشاهد تطور وتكنيك الفنان شابا، وفي الثانية الفنان شيخا ناضجا في أسلوبه، وأكتشافه للضوء مرة اخرى .
في فتراته الاولى كان شغوفا بأعمال ldquo;مايكل أنجيلوrdquo; النحتية ولوحات ldquo;رافائيلrdquo; مما استعجله السفر الى ldquo;روماrdquo; لدراسة الفن من جديد وهو الشاب الذي كان قد سمي ldquo;أستاذاrdquo; في مدينته قبل بلوغه العشرين من العمر، بسبب رؤيته للمرة الاولى بعض التخطيطات ولوحات فناني ldquo;النهضةrdquo; و مشاهدته عن قرب تماثيل ldquo;أنجيلوrdquo; ابهرته، هذا جعله يعيد التفكير فيما انتجه هو لحد الان، فقرر الدراسة مرة اخرى، وكل يوم كان يقضي ساعات راسما ومخططا لمنحوتات ldquo;مايكل أنجيلوrdquo;الذي سنرى فيما بعد كيف اثر في تعبيرية لوحاته، خصوصا في ldquo;التشريحrdquo; الذي لم يقارن لحد الان من قبل أي رسام.، في دقة تفاصيل الجسم الانساني، وقوة الاذرع والعضلات، وهذا التأثير الاول لم يفارق لوحات ldquo;روبنزrdquo; طيلة حياته .
في القاعة الاولى نرى هذا التأثير خصوصا في لوحة ldquo;القديس جورج والتنينrdquo; وديانا، الهة الصيد rdquo;ولوحةldquo; ميلياغرو يصطاد خنزير كاليدونيا رغم ان العديد من لوحات هذه الفترة كانت تتعلق بأمور دينية ذات طابع انجيلي بحت، مثل صعود المسيح الى الصليب، وأمه ldquo;مريمrdquo; في مشاهد قصص عديدة، منذ ولادته الى يوم صلبه، وفي القاعة الثانية يركز الفنان ويتعمق في الاسطورة الاغريقية، فيرسم ldquo;باريسrdquo; سبب حروب ldquo;طروادةrdquo; وldquo;اوليسيسrdquo; وrdquo;دباناrdquo; وrdquo;اكيليسrdquo; والعديد من أبطال تلك الاساطير .
فهو كان مصورا للاساطير التي درسها في شبابه والتي كانت في الذهن الاوربي على مدى قرون، فقصائدrdquo;هوميروسrdquo; الملحمية التي اتخدها بعض الرسامين السابقين موضوعا للوحاتهم، ولكن ليس بكثرة ldquo;روبنزrdquo; الذي باعتقادي غطى تصوير كل اللحظات المهمة والمثيرة في الاسطورة الاغريقية.
يحاول متحف ldquo;البرادوrdquo; وبقوة جذب انتباه زواره بهذا الكنز العظيم لكي يعتبروا عمله بطريقة شاملة، فاللوحات التسعين كانت موزعة بين عدة قاعات، وأعتقد ان صاحب فكرة تجميع لوحات ldquo;روبنزrdquo; في فضاء واحد قد نجح تماما، فزوار المتحف ، وأنا منهم لم نكن لنتوقف كثيرا امام لوحات ldquo;روبنزrdquo; كما في هذا العرض، حيث كنا نشاهد لوحتين، أو ثلاث في كل صالة وهذا لم يعط الزائر فرصة الانغماس والتعمق في رؤية عمل الفنان، وهذه هي المرة الاولى في التأريخ التي تعرض فيها هذه المجموعة النادرة التي كان قد أشتراها ملك اسبانيا ldquo;فيليب الرابعrdquo; في مزاد علني بعد وفاة الفنان.
حينما درست تأريخ الفن تلميذا في ldquo;الاكاديمية ldquo; في ldquo;بغدادrdquo; أتذكر ان نقاشنا الرئيسي حول ldquo;المدرسة الفلامينكيةrdquo; كان المقارنة بين ldquo;روبنزrdquo; وrdquo;ريمبرانتrdquo; وأتذكر صداع الرأس الايديولجي الذي كان يصيبني كل مرة نتطرق فيها الى هذا الموضوع، فrdquo;ريمبرانتrdquo;1606-1669 معاصره الغلامينكي، كان يعتبره البعض منا أكثر فنان من روبنز لانه ولد من العدم وأنتهى في العدم والفقر الذريع، اذا قورن ب ldquo;روبنزrdquo; المترف على مدى حياته، وأبن عائلة ذات مستوى أجتماعي وطبقي رفيع، فوالده كان محامبا مرموقا، وعضوا في مجلس بلدية ldquo;امبيريسrdquo; التاريخية والذي أضطر الهجرة الى المانيا بسبب انتمائه الديني، حينها ldquo;الاراضي الواطئةrdquo; كانت تحت سيطرة الامبراطورية الاسبانية الكاثوليكية وهو كان بروتيستانتي المذهب، ولكن بعد وفاة هذا في المهجر عادت العائلة موطنها بنفس الترف،
النقاش كان يدور حول عودة الفنان الى مدينته، ويضع نفسه تحت خدمة الاميرة ldquo;ايزابيلrdquo; بهذا النوع من الانتهازية، وهذه عينته رسام البلاط الرسمي، وrdquo;مستشاراrdquo; دبلوماسيا لها يمثلها في ذالك الشمال الاوربي الملئ بالنزاعات السياسة والدينة، ثم ارتباطه الحميم مع ملوك أسبانيا الذين كرموه، وحافظو على حصانته ووظيفته الدبلوماسية، ولكن ما كان يثير الشك دائما هو، كيف أستطاع ldquo;روبنزrdquo; رسم أكثر من 1500 لوحة ؟.الجواب نجده في عقليته التجارية، التي كانت توازي عبقريته كرسام، فهو كان صاحب أكثر من محترف ldquo;يقال ثلاثةrdquo; بين ldquo;مدريدrdquo; وrdquo;امبيريسrdquo; مستفيدا من جهود العديد من الشبان الرسامين الذين كانوا يشتغلون مجانا مقابل دروسا محدودة، وبعضهم كانوا يدفعون للفنان مبلغا شهريا كي يعتبروا تلاميذا لأشهر فنان عصرهم، ويؤكد العديد من المؤرخين ان اكثر من نصف عدد لوحات الفنان لم تكن تحمل الا توقيعه فقط، فمعظمها كان قد نفذها طلابه في ldquo;محترفاتهrdquo; بتوجيه مباشر منه، أحيانا كان يقوم بتخطيط الموضوع على ldquo;الكنفاسrdquo; ويكلف أحدهم مهمة التلوين، وربما يضع اللمسات الاخيرة بعض من لطخاته اللونية المعروفة، للايهام ثم يوفع بعد ذالك. لايوجد تفسير اخر لغزارة أنتاجه .
فقصته مع أشهر تلاميذه معروفة وهذا صار رمزا أخر ldquo;للمدرسة الفلامينكيةrdquo; وهو الرسام ldquo;فان دايكrdquo; 1599 -1641 وهذا كان منذ صغره يتعلم في محترفrdquo;أمبيريسrdquo; وبعد اكتشافه ان أعمالا كان قد نفذها هو كاملة، وجدها موقعة من قبل أستاذه مما اثار غضبه، وثار على ldquo;روبنزrdquo; وهو شاب لم يكن قد بلغ العشرين من عمره في 1619، وأشتهر ldquo;فان دايكrdquo; في استخدامه للضوء في اللوحة كما لم يبقه رساما أخر، فأستقل عن أستاذه وأسس ldquo;محترفه ldquo; الخاص به، وفاق معلمه في التكنيك والالوان ، ورغم قصر عمره ترك أعمالا تأريخية، واعلن رسامون أخرون غضيهم وغادروا ldquo;مشغل ldquo;روبنزrdquo; كي يتفرغوا كفناين مستقلين .
وعلى الضد من ldquo;روبنزrdquo; كان ldquo;ريمبرانتrdquo; أكثر انسانية في مواضيعه، وتنوع أستخدامه للعناصر الفنية المختلفة مثل التخطيط، والحفر، وفاقه حتى لوحاته الزيتية، فهو أبتعد عن القصور والامراء، والرسم بالتكليف، كما أعتاد ldquo;روبنزrdquo; طيلة حياته، وأنا لست ممن يريد التقليل من شأن الفنان، عكس ذالك، فأعتبره ldquo;العبقري الاصيلrdquo; الذي لولاه لم تكن لتشتهر ldquo;المدرسة الفلامينكبةrdquo; عالميا، ومحطة أساسية في تأريخ الفن الاوربي .
والمعرض الذي يقيمه متحف ldquo;البرادو ldquo; الان، هو نشلط فريد وجرئ يستحق المشاهدة، رغم كثرة ldquo;البورتريهاتrdquo; التي كثيرا ما كانت تبدو رتيبة ومكررة، ولكن أعماله الكبيرة تعجب المشاهد لحد الانبهار، خصوصا فيما يتعلق بالاسطورة الاغريقية التي ولع بها منذ صغره .
بيتر بول روبنز
ولد في ldquo;سيغينrdquo;1577، وتوفي في ldquo;امبيريسrdquo; 1640الواقعة الان في ldquo;بلجيكاrdquo; التي مع ldquo;هولنداrdquo; كانت تسمى بالاراضي الواطئة، والتي كانت تحت سيطرة الامبراطورية الاسبانية، من عائلة ثرية، رفيعة المستوى الاجتماعي، أضطرت الى الهجرة الى المانيا بسبب القمع الكاثوليكي في تلك الفترة، ليعود الى بلده بعد سنوات، وبعد وفاة والده في المنفى، ومنذ طفولته تمتع بتعليم عالي المستوى، وحين ظهرت موهبته في الرسم دخل في العديد من ldquo;المحترفات الفنيةldquo; التي كانت منتشرة حينذاك، اخره كان للرسام ldquo;أوتو فان فييتrdquo; الذي تأثر به وبتعليمه كثيرا، وبعد أستحقاقه لقب ldquo;ماسترrdquo; أو أستاذ في مقتبل عمره يقرر السفر الى أيطاليا، لمواصلة دراسته الفنية، فولعه بفناني النهضة كان لايقاوم، وبقى هناك أكثر من تسعة أعوام، محظوظا، ومقربا لاهم عائلات ايطاليا الارستقراطية، و أهمها كانت عائلة ldquo;دوق مانتواrdquo;المعروفة بحبها للفنون والفنانين ، كما حدث سابقا مع عائلة ldquo;ميديتشيrdquo; في ldquo;فلورنساrdquo; التوسكانية، فهذا ldquo;الدوقrdquo; بعد رؤية اولى لاعمال الشاب ldquo;روبنزrdquo; يعينه رسام بلاطه، وبعدها يعينه ldquo;مستشارrdquo; له في الامور الدبلوماسية .
وبعد الفترة الايطالية يستقر في ldquo;مدريدrdquo; بعد مهمة سياسية ممثلا لدوق مانتوا امام ملك أسبانيا ldquo;فيليب الثالثrdquo; ليعود بعدها الى ldquo;امبيريسrdquo; لخدمة أقرباء الملك الاسباني هناك ldquo;الارشيدوق البرت وزوجته أزابيلrdquo; حكام تلك الاراضي وقام على مدى سنوات في العديد من المهمات الدبلوماسية بين مدريد ولندن، وسلطات الاراضى الواطئة، وبعد فشله في الانجاز السياسي، لبعض المهمات اضطر الى الاعتزال عن العمل الدبلوماسي في عام 1633 .
بداياته الفنية كانت مليئة بالمواضيع الدينية متأثرا بمعلميه الذين أعتادوا هذا الاسلوب بتكليف رسمي، أو كنائسي ، فالكنيسة كانت القوة السياسية الاولى على الاطلاق، بعدها انتهى يرسم مواضيعه الخاصة متفوقا على أساتذته ، وهو حينها لم يبلغ العشرين من عمره، ولكن ldquo;المرحلة الايطاليةrdquo; كانت حاسمة في صقل اسلوبه المتميز، فولعه بفناني النهضة ترك بصمات واضحة في كل أعماله الى نهاية حياته، فنرى الانفعال في منحوتات ldquo;مايكل اجلوrdquo; معكوسا في لوحاته، ومن ldquo;رافائيلrdquo; يتعلم التوازن الانشائي التشكيلي خصوصا في تخطيطاته المشهورة، كما تلاحظ تاثيرات معاصره ldquo;كارفاجيوrdquo; والوانه ldquo;الفينيسيةrdquo; الباهرة، وبعد عودته الى ldquo;امبيريسrdquo; خالدا ومشهورا كثرت عليه الطلبات فعاد وفتح ldquo;مشغلهrdquo; المشهور هناك، فأستخدم العديد من الرسامين الشباب في تنفيذ اجمل أعماله، خصوصا تلك التي كانت تحاكي الاسطورة الاغريقية، فرسم كل ابطالها تقريبا ، وايضا بمساعدة هؤلاء رسم كل القديسين.










التعليقات