ماجدة داغر من بيروت: لم ينته بعد من تعمير القصائد، عمارةً شاهقة البنيان. ولم يستطع الزمن الطاعن في السنين أن ينال من بريقها. هو الهاجم على العمر الشاعر بكل ما أوتي من أعمار، فلا تراكم الأيام أثقل منكبَيه ولا ذبلت في راحتيه سهول الشمس.
بينه وبين القرن عشقٌ وشغف، رميَتا حجر ويجتاز جسر المئة. ثمانٍ وتسعون سنة تهاوت على محيّاه الأبيض من دون أن تعرف لوناً آخر، ثمانٍ وتسعون سقطت عن جبينه فلم تعلق بتجعيدةٍ أو بخطوطٍ عميقة. هو المتقِن المشي بين التجاعيد ونتوء الأيام، فلم تعرف إلى روحه سبيلاً. ملساء سنواته كنضارة فكره، ونقيّة كالزرقة المتمكّنة من ضوء عينيه، ليصير النهار أكثر زرقةً وأشدّ انبلاجاً.
سعيد عقل الرابض على قرنٍ كجبلٍ يداعب العواصف، يقف بقامته العاصية على الرّيح يكتب شطرَي المئة بأزاميل صلبة كانَتها أصابعه الخضراء منذ فجر القصيدة.
سعيد عقل المفتون بلبنان القصيدة، يحفظ لبنانه عن ظهر قلب ويرويه اليوم في عيد مولده عظيماً كما غنّاه، عريقاً كما أنشده وخالداً كقصائد تطيب مع الزمان.
سعيد عقل، فتضع التاجَ على رأسها الأبيض، تلك القصيدة التي تفوح منه غير عابئةٍ بعبور السنوات. لا يسعك سوى الاقتراب أكثر لعلّك تلتقط بعض شذا، أو ربما يمسّك سحر الكلمة، فالعمر في حساب الشِّعر لا يؤرّق والبيادر يكسوها الذهب. ذاكرة تحاكي العمر البعيد، ما زال يحتفظ بتفاصيلها ولحظاتها وإن كانت تغدره في بعض الأحيان، لكنها صبيّة لم تنَل السنون منها وما استطاعت قصّ ضفائرها، فتسترسل حيناً في وجوه وأحداث وتجذّف، معظم الأحيان، في محيط شعري شاسع. فما عليك سوى إعطائه الكلمة- المفتاح ويقرأ هو من الذاكرة أشعاراً يلقيها بنشوة تضجّ في صوته وعينيه، كأنه فرغ من كتابتها للتّو:
quot;أجمل من عينيك حبّي لعينيك!
فإن غنّيتُ غنّى الوجود.
في نجمنا أنتِ، وفي مُدّعى
أشواقنا، أم في كذاب الوعود؟
كنتِ ببالي فاشتتمتُ الشّذا
فيه تُرى كنتِ ببال الورود
(...) آه اخلعي ما أنتِ من خاطرٍ
أتعبتِ، من شوقٍ إليكِ، الخلود.
(...) أجمل ما يؤثَر عن أرضنا
أوهامها أنك زرتِ الوجودquot;.
متعة السّماع مزدوجة، أشعاره بصوته يتلوها بلا توقّف فيُنبِت في ترابها ورداً جديداً. بحضور ذهنيّ تغلّب على المئة من السنوات، ومشاركة في الكلام تتطلّب من المتحدّث ملامسة الأذن لإسماعه، وبقسماتٍ هادئة (لكنها ما زالت ثائرة)، وبسلامٍ عميق لقّنته إيّاه القصيدة، وبشرة بيضاء نقيّة لم يعرف التغضّن درباً إليها، وفحوص طبيّة سليمة نظيفة، يجلس سعيد عقل على كنبَته تحيط به زيتيّات لأكبر التشكيليين بينها بورتريه عدة له ، ومشروعه الشعري ساري القافية، فلا يهزّ أعمدته عمرٌ ولا يقوى عليه قرنٌ أو دهور.
في عيده، في الرابع من تموز، استقبل الشاعر أصدقاء وشعراء ورفاق درب، فتحلّقوا حوله ينهلون من عطر عنيد يفوح كلّما أصرّ على الحياة، ناثراً بعضاً من ترياق سعيد عقل جرعاتٍ مدوزنة على إيقاع سنيه الخصبة المترفة إبداعاً وسرّ بقاء.
سعيد عقل، عِش بعد، عِش كثيراً، أنجِز شَطرَيها تلك المئة، ومن هناك من فوق أكمِل قطف الأعالي، فالقِمم تُزهر في يديك!