برغم النقلة الكبيرة التي أحدثها ربيع العرب في مجريات أحداث المنطقة، فقد أخفق حتى الآن في تقديم المشروع السياسي والاقتصادي الواضح الذي يمكن أن يعتبر بديلاً مما

الحلقة الأولى

كان. فهل يمكن اعتبار هذا نتاجًا مباشرًا لغياب صوت المثقفين عن أكبر حدث عربي في الوقت الراهن؟.


إعداد صلاح أحمد:الشباب العربي الذي فجّر laquo;ربيع العربraquo; إنما فعل ذلك لأنه سئم نوع الخطاب الذي ورثه عن أسلافه. فهو خطاب لم ينجز شيئًا للفلسطينيين، وعمّق الشقاق بين بين الدول العربية بدلاً من توحيدها.

إزاء هذا الوضع سعى هؤلاء الشباب إلى التركيز على الإخفاقات، التي صارت سمة لمجتمعاتهم. في هذا الصدد يقول الصحافي اللبناني حازم صاغية: laquo;في ما مضى كان كل شيء لا يتعدى القشرة والمظهر: إما أن تكون مع أميركا أو ضدها.. الدور الإسرائيلي.. وهكذا دواليك. لكن هذه الثورات الجديدة مختلفة تمامًاraquo;.

حجر الأساس
الواقع أن التأكيد الجديد على الحقوق المدنية والديمقراطية في الداخل لم يأت من فراغ. فقد بدأ بعض المثقفين العرب يتحدثون بهذه اللغة من زمن بعيد. ومن هؤلاء صادق جلال العظم، الذي نشر ndash; بعد المهانة العربية في حرب 1967 ndash; كتابه المهم laquo;النقد الذاتي بعد الهزيمةraquo; وتناول فيه هذه المسائل.

بالتدريج جاء بعد العظم من تناول أيضًا الشيء نفسه. وفي أعقاب laquo;ربيع دمشقraquo; القصير الأمد في أواخر التسعينات، وقّع مثقفون سوريون على laquo;إعلان دمشق 99raquo; الذي نادى بمزيد من الحريات المدنية والانفتاح، فسُجن العديد منهم عقابًا عليه. ولا بد من القول إن الشجاعة التي تحلّى بها هؤلاء المثقفون في سوريا - وفي مصر أيضًا ndash; ربما كانت هي حجر الأساس، الذي تقوم عليه الانتفاضات العربية في العام الحالي.

لا مكان للعلمانية
لكن أصوات المثقفين من ذلك النوع لم تجد الآذان الصاغية، لأن خطابها العلماني لا يناسب مجتمعات، صار الإسلام السياسي هو القوة المهيمنة عليها. وحتى الإسلاميون أنفسهم من جهتهم لم يكونوا أفضل حالاً حتى عندما حاولوا إلباس نقدهم السياسي زيًّا دينيًا.

على سبيل المثال، فقد بدأ المفكر المصري حسن حنفي في الثمانينات الدعوة إلى laquo;يسار إسلاميraquo;، بمعنى laquo;أيديولوجية اشتراكية تتخذ جذورها في الدينraquo;. وكان جزاؤه أن اتهم بالزندقة، وصار محل تهديد بالقتل من جانب الجهاديين. ووفقًا للمؤرخ المستشرق الهولندي كارول كيرستين، فقد وجدت أفكار حنفي قبولاً في إندونيسيا على سبيل المثال، لكنها نُبذت في وطنه مصر.

مكبّر الصوت
على أن من المثقفين العرب من نجا من هذا المصير. فمثلاً صار الروائي المصري علاء الأسواني في السنوات الأخيرة من أشد منتقدي حكومة حسني مبارك، فقط بفضل شهرته ومكانته كأديب مفوّه.

وكان الأسواني ضمن أوائل المثقفين الذين خاطبوا جموع الجماهير في ميدان التحرير في يناير/كانون الثاني، ثم في مارس. ويُشهد له أنه أنزل هزيمة فكرية نكراء برئيس الوزراء، أحمد شفيق، في حوار متلفز.

وعندما أقال المجلس العسكري هذا الأخير في اليوم التالي، أرجع العديد من الناس الفضل في هذا إلى الأسواني. وبرغم كل ذلك، فقد أوضح هذا الكاتب منذ البداية أن هدفه الأول والأخير هو أن يكون فقط بمثابة مكبّر الصوت للمتظاهرين ومطالبهم، ولهذا فلم يطرح على الساحة أي أفكار تكون بمثابة البديل أو المؤشر إليه.

مقارنة بشرق أوروبا
كان محتمًا أن يُقارن ربيع العرب بانتفاضة شرق أوروبا على الهيمنة الشيوعية السوفياتية في 1989، لكن هذا ليس من باب الإنصاف.. ربما لأن المثقفين أدوا دورًا أساسيًا في هذه الأخيرة.

وكما تقول الكاتبة آن أبيلبوم، الخبيرة في بواطن معسكرات الاعتقال السوفياتية: laquo;في بولندا، على سبيل المثال، كان تحالف المثقفين ونقابات العمال ذات أهمية عالية، فساعدوها في تشكيل حركات الاحتجاج وتوحيد فصائلها المختلفة. وكانوا وقتها بمثابة ما يعادل laquo;فايسبوكraquo; في زماننا الراهنraquo;.

على سبيل المثال، فقد كتب وقتها المسرحي التشيكي المعارض فاتسلاف هافل مقالة بعنوان laquo;قوة من لا قوة لهمraquo;، صارت بمثابة laquo;برنامج عملraquo; عن كيفية العيش بكرامة تحت سلطة قمعية. وبالطبع فقد صار هذا الكاتب صوت شعبه ومنظّره من خلال ما يعرف باسم laquo;ثورة المخملraquo;.

فشل المثقفين السوريين
بالنظر إلى طفرة تكنولوجيا الاتصالات الحالية، فربما كان نوع الدور الذي أدّاه هافل وأمثاله ليس بكل تلك الأهمية في عالم اليوم.. أو ربما كانت المنابر الأيديولوجية التي اعتلتها ثورات الأمس نفسها عتيقة بالمعايير السائدة الآن.

في هذا الشأن يقول بيتر هارلينغ، المحلل في laquo;انترناشونال كرايسيس غروبraquo; إن عصرنا هذا laquo;ينطلق بسرعة عالية، ومن الصعب الإتيان بنموذج مثالي لأي شيء. ولهذا صار الناس يبحثون عن إضاءات سريعة تنير الطريق فقط حيث يكونون وبلا داع لنظريات مطولة يسيرون على هديهاraquo;.

لكن، يضيف هارلينغ، فقد تقاعس المثقفون السوريون كافة عن تقديم أي مشروع سياسي يتطلع إليه الناس، كبديل مستقبلي للنظام الحالي. وتعاظمت بالتالي المخاوف إزاء افتقار الانتفاضة أي توجه واضح المعالم والملامح.

خطأ التطلع للتجربة التركية
الآراء التي انبثقت في خضم ربيع العرب تتعلق بشكل أو بآخر بالتجربة التركية، قائلة في ملخصها إن خليطها المؤلف من الإسلام المعتدل والحكم الديمقراطي يمكن أن يصبح مثالاً يحتذى في المنطقة.

على أن هذا رأي لا يخلو من سطحية، وقد يأتي بخيبة أمل عظيمة في المستقبل، لأن من الصعوبة الجمّة تكرار التجربة التركية. والسبب في هذا، جزئيًا، هو أنه بينما أنجزت تركيا ثورتها المضادة للتقاليد خلال القرن العشرين عبر laquo;الفعلraquo;، كان هذا ما تحدث عنه المثقفون العرب laquo;نظريًاraquo; فقط في الفترة نفسها.

ففي بداية العشرينات، بدأ مصطفى كمال أتاتورك ثورته التعليمية، وجلب المصلح الأميركي جون ديوي للاستعانة بمشورته في هذا الصدد. وألغى مؤسس تركيا الحديثة الخلافة، وقلب النظام القضائي رأسًا على عقب، وفصل الدين عن الدولة بالكامل. ومع أن أول انتخابات تركية أجريت في 1946، فقد تطلب الأمر عقودًا (وعددًا من الانقلابات العسكرية) قبل أن تنضج التجربة الديمقراطية في البلاد، وتحظى باحترام العالم.

خلاصة القول هنا إنه بدون تجربة قاسية تقوم على فصل الدين عن الدولة، فمن شأن الثوريين الجدد في العالم العربي إعادة التاريخ كما هو. خذ في هذا الصدد رسالة كتبها في الأسبوع الماضي عربي على laquo;تويترraquo; وجاء فيها: laquo;فليكن مقتل القذافي درسًا للثوريين، بقدر ما هو درس للحكام. وليتذكر صنّاع laquo;الثورةraquo; في كل مكان أن ما أتى بالقذافي نفسه قبل أربعة عقود إنما هو laquo;ثورةraquo; أخرى خاصة بهraquo;.