رسالة محمود بايزيدي في عادات الأكراد وتقاليدهم |
جان دوست: قرأت على صفحات إيلاف عرضاً لكتاب رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم للباحث الكردي ملا محمود بايزيدي من القرن التاسع عشر. ذلك الكتاب الذي كان لي شرف ترجمته إلى اللغة العربية ونشرته مشكورة هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث- مشروع كلمة.
لقد أحزنني جداً أن محمد الحمامصي شوه مقاصد المؤلف والمترجم معاً واستولى على أجزاء من الكتاب دون أن يشير إلى أنه إنما ينسخ فصوله نسخاً ساذجاً. وحتى حين أراد أن يقدم للكتاب كعادة كل من يريد عرض كتاب جديد للتعريف به فإنه نسخ مقدمتي للطبعة العربية نسخاً مقيتاً ولم يكلف نفسه عناء التعليق ولو بجملة واحدة على هذا الكتاب الذي أحببت أن يطلع عليه الإخوة العرب ويتعرفوا على شعب يعيش بجوارهم ولا يعرفون عنه سوى ما قاله المستشرقون وبعض العقول المتحجرة من القومويين الذي لم يروا في هذه البلاد سوى لون واحد، وأغرقونا بشعاراتهم التي أصبحت وبالاً عليهم.
ويبدو- كما قال أحد المعلقين- أن السيد الحمامصي حاول دس السم في العسل(وأي عسل هذا؟) حين اجتزأ من الكتاب مقطعاً يتحدث فيه المؤلف عن نظرية الأصل العربي للأكراد التي تعود إلى بدايات العهد الإسلامي في كردستان. إن مؤلف هذه الرسالة ملا محمود البايزيدي أورد تلك النظرية على علاتها كحقيقة تاريخية ولم يلتفت إلى النظريات الأخرى. وقد شرحت في الكتاب أن البايزيدي كان مستعجلاً في أمره وأراد أن ينهي الكتاب في أقرب وقت ليسلمه إلى القنصل الروسي في أرضروم المسيو أوغست جابا الذي كان سيبعث المخطوط بدوره إلى الأكاديمية العلمية الروسية في بطرسبرغ.
صحيح أن البايزيدي يورد هذه النظرية السقيمة من حيث مصداقيتها الترايخية لكنني رددت عليه في هوامش الكتاب وبالأخص في الصفحات من 35 حتى 41. وفي معرض ردي على المؤلف كتبت ما يلي: quot; إن المؤلف يردد نظرية قديمة مفادها أن أصل الأكراد من قبائل عربية هاجرت من مواطنها الأصلية واستقرت في المناطق الجبلية. ويقول بعض الأكراد القوميين حالياً إن لهذه النظرية الخاطئة قاعدة عنصرية ولكنني أريد التنويه إلى أن ماورد عن أصل الأكراد لدى المؤرخين الإسلاميين ليس من باب الصهر القومي أو السعي لنفي وجود الأكراد كشعب مستقل، ولكن حدث ذلك لأسباب اقتصادية وسياسية. يقول المستشرق آرشاك بولاديان في كتابه (الأكراد حسب المصادر العربية ndash; ترجمة: خشادور قصباريان، عبدالكريم أبا زيد): إن نشوء فرضية الأصل العربي للأكراد كانت على الأرجح تستهدف أبعاداً سياسية، فعن طريق تلك الروايات والمزاعم، جرى مداراة جزء من الأكراد، للتخفيف من علاقات العداء تجاه الفاتحين العرب، وهذا بدوره كان يسهل استجرار الأكراد للمساهمة في الحياة السياسية والعسكرية للخلافة الإسلامية، كما أن تلك الرواية (الفرضية) ساعدت من جهة أخرى على مضاعفة الوزن السياسي والاقتصادي للعرب في المناطق الكردية. انتهى كلام بولاديان.
لقد انتبه المؤرخون الإسلاميون مبكراً إلى ضرورة البحث عن أصول الشعوب التي ضمتها الامبراطورية الإسلامية الناشئة، وتعددت الآراء بتعدد المؤرخين والجغرافيين وكان البحث عن أصل الكرد أحد مشاغل علماء التاريخ والجغرافيا المسلمين. وبدا الأكراد حينذاك عيِّنة مثالية لشعب مبهم الأصل،غامضِهِ. ولما لم تكن للأكراد حضارة في ذلك الوقت، بل كانت الغالبية العظمى منهم قبائل رحل وجبليين يعتمدون التراث الشفوي كمصدر وحيد للثقافة، فإنهم لم يستطيعوا إثبات أصلهم، بل تركت المهمة للمؤرخين والجغرافيين العرب المسلمين. فبرزت فرضية الأصل العربي للأكراد، حيث قال ابن عبدالبر في كتابه (القصد والأمم في أنساب العرب والعجم) إن الأكراد ينتسبون إلى كرد بن عمرو بن عامر الملقب بمزيقيا الذي كان أحد ملوك اليمن. ثم يورد هذا البيت:
لعمرك ما الأكراد من نسل فارسٍ ولكنه كرد بن عمرو بن عامرٍ
(وفيات الأعيان، ابن خلكان ndash; الجزء الخامس ص 357 ndash; 358 )
ونستشف من هذا البيت أنه رد على مقولة النسب أو الأصل الفارسي للأكراد التي كانت دارجة لدى بعض المؤرخين مثل ابن البلخي والمسعودي الذي أشار إلى أن الفرس يزعمون بأن الأكراد من ولد كرد بن إسفنديار بن منوشهر وذلك في كتابه التنبيه والإشراف.( الكرد حسب المصادر العربية ndash; آرشاك بولاديان ndash; ص 139).
وقد أسرف بعض المؤرخين في الخيال ونسبوا الأكراد إلى الجن الذين كانوا في خدمة النبي سليمان، بل ورد في بعض الكتب عبارة نسبت إلى الرسول تقول: الأكراد طائفة ٌ من الجن كشف الله عنهم الغطاء! ولا شك أن هذا الحديث موضوع إذ لم يرد في أيٍ من كتب الحديث النبوي و أن الرأي القائل بانتساب الكرد إلى الجن رأي سمج سقيم عدم الرد عليه أفضل لافتقاره إلى العقل والمنطق السليم.
وقد استطاع المقريزي في كتاب المواعظ، أن يحلل بحسه النقدي سبب نشوء فرضية الأصل العربي للأكراد فيقول: وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم، وإنما هم قبيل من قبائل العجم، وهم قبائل كثيرة(يقول ياقوت الحموي في مادة البربر : وقد اختلف في أصل نسبهم فأكثر البربر تزعم أن أصلهم من العرب وهو بهتان منهم وكذب).
ومعنى كلامه، أن الفقهاء المسلمين لما أرادوا التقرب إلى الحكام الأكراد، أقنعوهم بأن لهم أصولاً عربية (والأصل العربي القرشي كما نعلم من شروط الحكم في القرون الغابرة).
ولقد استمرأ الأكراد أنفسهم تلك الفرضيات التي ترجع بهم إلى أصولٍ عربية. ومنهم حكام إمارات شمدينان وبهدينان وحكاري الذين ادعوا الانتساب إلى أصول عباسية وحكام إمارة بوطان الذين ادعوا انتماءهم إلى خالد بن الوليدhellip; واليزيديون الذين كانوا إلى وقت متأخر،بل ما زال بعضهم إلى الآن، يدعون انتماءهم إلى السلالة الأموية المروانية.
وثمة تفسيرات عديدة لنشوء نظرية الأصل العربي للأكراد نستعرضها فيما يلي:
يقول الشيخ محمد مرودخ كردستاني في مقدمة قاموسه (قاموس مردوخ): يبرهن التاريخ وتشهد التجارب أن الشعب الذي يسيطر على شعب آخر يغير من أخلاق وعادات ولغة الشعب المغلوب تبعاً لطول مدة السيطرة ونفوذ الشعب الغالب. أما الباحث عزيز محمد بور داشبندي فيقول: إن شدة الشبه بين العرب والأكراد من جهة الحمية وحفظ الشرف والفروسية والبداوة (السكن في الخيام)، هي السبب في نشوء نظرية الأصل العربي للأكراد.(من مقدمة الترجمة الفارسية لهذا الكتاب).
وللأستاذ الباحث رشيد ياسمي رأي قريب من رأي الشيخ محمد مردوخ فهو يقول في كتابه أصل الكرد: نظراً لسيطرة العرب على كثير من الأقوام، فإن تلك الأقوام أرادت أن تخلق لنفسها نسباً يتصل بالعرب الغالبين، ومن بين هذه الأقوام الشعب الكردي. وعلى هذا فقد اعتقد المؤرخون بصحة ذلك النسب المزعوم. ويقول المستشرق الدكتور آرشاك بولاديان في كتابه القيم (الأكراد حسب المصادر العربية) : إن مصطلح الكرد كان يعني ndash; علاوة على المعنى السلالي- مربي المواشي، البدوي، وهكذا فإن حمزة الأصفهاني من القرن العاشر يقول: إن الفرس قد سموا الديلميين أكراد طبرستان، وسموا العرب (أكراد سورستان). وتحت التأثير الإيراني أصبح هذا المعنى لكلمة (الكرد) فيما بعد مقبولاً لدى المؤلفين العرب ودخل في مؤلفاتهم، وقد حدث هذا على مايبدو، لأن كلمة (كرد) كمرادف لمفهوم (مربي الماشية)، أصبحت تستخدم لتدل على تلك القبائل التي كانت حسب معيشتها تشبه الأكراد، رغم أن لها خصائص أخرى وكانت تقاليد الرعي لدى الأكراد التي امتدت قروناً، هي على الأرجح السبب الذي جعل الإيرانيين يسبغون على المعنى السلالي لكلمة (الكرد) معنى اجتماعياً (الكرد حسب المصادر العربية، آرشاك بولاديان، ترجمة د. خشادور قصباريان والأستاذ عبدالكريم أبا زيد.. ص 12)..
وفي قاموس بدائع اللغة مادة كرد نجد أن للفظة الكرد معنى اجتماعي، إذ يقول الكاتب علي أكبر كردستاني في تفسيره للفظة كرد أنها تطلق على الأقوام التي تستوطن البراري.
وقد التصق مفهوم البداوة بالأكراد منذ القديم فصارت لفظة الكردي مرادفة للفظة الراعي أو البدوي. وفي الأخبار الطوال ص 27 لأبي حنيفة الدينوري المتوفي سنة 282هـ أن ساسان بن بهمن أبو ملوك الفرس غضب من أبيه، لما جعل الملك لابنته فاقتنى غنماً وصار مع الأكراد في الجبل فمن ثم يُعيَّر ولد ساسان إلى اليوم برعي الغنم فيقال: ساسان الكردي وساسان الراعي.
ويمكننا فهم نشوء نظرية الأصل العربي للأكراد على ضوء الصراع القبلي بين العرب العدنانيين والعرب القحطانيين وهو صراع مديد أفاض فيه النسابون واستطردوا كثيراً، فكان فريق العدنانيين يدعي انتساب الفرس والأكراد إليهم مما حدا بخصومهم القحطانيين إلى الادعاء بانتساب اليونان والترك أيضاً إليهم. يقول الدكتور جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) منشورات دار العلم للملايين بيروت 1976:
(ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس والاسرائيليين، بل زعموا أن الأكراد من أقربائهم كذلك، وأنهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد او من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل أو أنهم من نسل مضر بن نزار أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن (hellip;) ولقد بقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعاً من بعض الأكراد في أيام العباسيين وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضاً فرقاً في شجرات النسب ) وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس (وهم اليونان) من ذوي أرحامهم فقالوا: إن يونان أخ لقحطان (hellip;) وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، فقال أحدهم وهو أبو العباس الناشئ:
وتخلط يوناناً بقحطان ضلَّةً لعمري لقد باعدت بينهما جدا
وأضاف القحطانيون الأتراكَ إليهم أيضاً ).
ولو لم يكن بين العرب والأكراد تشابه كبير في نمط المعيشة لما كان بالإمكان أن يعتبرهم العدنانيون عرباً، فهاهو ابن حوقَل يقول في صورة الأرض عن الأكراد: (ومذاهبهم في القُنية والنجعة مذاهب العرب) (صورة الأرض ndash; ابن حوقل). ndash; منشورات مكتبة الحياة ndash; بيروت لبنان 1979 م.
أما النجعة فهي الترحل والانتجاع في المراعي وأما القنية فهي التملك.
وكما قلنا: فإن النسب العربي وخاصة العدناني لاقى صدى مقبولاً لدى الأكراد لأن عدنان كانت أشرف قبائل العرب وكان الرسول عدنانياً قرشياً، وانحصرت الخلافة في قريش ولو أن الأمر كان مجرد تشويه للأصل الكردي لما كان المؤرخون والنسابون ينسبون الأكراد إلى العرب، لأن الانتساب إلى العرب مفخرة وليس تشويهاً، وعلينا ألا نقرأ التاريخ بعيون معاصرة أو نظرة راهنة. فلقد رغبت شعوب كثيرة في الانتساب إلى العرب لما في ذلك من مصلحة كبرى لهم مثل البربر الذين يقول عنهم ابن خلدون: (وأعجبوا بالدخول في النسب العربي لصراحته وما فيه من المزية بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مضر).
ويقول الحسن بن داود البشنوي الكردي المتوفي سنة 465هـ وهو ابن عم صاحب فنك:
مفاخر الكرد في جدودي ونخوة العرب في انتسابي.
(انظر: الوافي بالوفيات، تأليف صلاح الدين خليل ايبك الصفدي، دار نشر فرانز فيسبادن 1985م الجزء السابع، ص 7)
فالنسب عربي إذاً ولكن القومية هي الكردية.
أما ابن خلدون في تاريخه فقد اختصر رأيه في هذه المسألة قائلاً: ( وقد قيل أن الكرد والديلم من العرب، وهو قول مرغوب عنه ). (تاريخ ابن خلدون. الجزء الثاني ص10. منشورات دار إحياء التراث العربي. بيرون لبنان. ط1. 1999).
ويقول صاحب كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ابن فضل الله العمري:
( إن الأكراد وإن دخل في نوعهم كل جنس، فإنهم جنس خاص من نوع عام). (من مقدمة د. إحسان عباس لكتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان). ومعنى قوله أن الأكراد جنس (قومية) من البشر، لاينفردون بهذا الاسم، بل تسمى كثير من الأقوام الأخرى أكراداً نظراً لظروف معيشتها، وخصائصها الاجتماعية كما بين ذلك حمزة الأصفهاني الذي سمى العرب أكراد سورستان [سورية وجزء من العراق] وسمى الديلم أكراد طبرستان.
مما سبق نستنتج مايلي:
1- نشأت نظرية الأصل العربي للأكراد لأسباب سياسية واقتصادية، منها محاولة احتواء الأكراد وضمان ولائهم للدولة الإسلامية.
2- نشأت نظرية الأصل العربي للأكراد في خضم الصراع القبلي العربي بين الفرعين الكبيرين (العدناني والقحطاني).
3- كان لبعض الأكراد المصلحة الكبرى في ادعاء النسب العربي(مسائل السلطة والشرعية في الحكم).
4- الشبه الكبير في الحياة الاجتماعية بين الأكراد والعرب من جهة حياة البداوة وما يتبعها من خيام وماشية وانتجاع واصطياف وترحل. كان من الأسباب التي دعمت نظرية الأصل العربي.
5- لم تقتصر لفظة الكرد على دلالتها العرقية السلالية بل تعدت ذلك إلى تسمية كل شعب بدوي أكراداً كما لاحظنا عند حمزة الأصفهاني.
6- إن خوض المؤرخين العرب والنسابة في هذه القضية واتفاقهم على أن الأكراد من أصل عربي، ليس من باب الصهر القومي، بل هو نتيجة منطقية للمناخات التي تحدثنا عنها آنفاً.
7- بات من حكم المؤكد ونتيجة للدراسات المعاصرة أن الأكراد من الأقوام الآرية الهندو أوروبية. ولا يربطهم بالساميين أي رابطة من روابط النسب.
إلى هنا ينتهي اقتباسي من هوامشي وتعليقاتي كمترجم للكتاب وإنني إذ أعرضها على الملأ فإنني أبدي استغرابي من أن كل هذا الكلام والعرض التاريخي لم يلفت أنظار السيد الحمامصي بينما اكتفى بجملة صغيرة أوردها مؤلف الكتاب قبل مئة وستين عاماً من الآن. لقد نشرت هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث- مشروع كلمة هذا الكتاب القيم ليكون بطاقة تعريف بالشعب الكردي ولأن المكتبة العربية تفتقر إلى جسور بناء حقيقية بين شعوب المنطقة ولكن مع الأسف الشديد يبدو أن العقلية الشوفينية ما تزال مسيطرة وأن إلغاء الآخر هو إلى الآن على الأقل سيد الموقف.
التعليقات