أحمد كاظم نصيف: من المعروف والمؤكد، أن القصة بالذات، من الأجناس الأدبية التي لم تستقر ـ منذ زمن بعيد ـ على شكل معين واحد، أو نموذج متفرد، بل مر بأشكال عدة، من حيث بناء الحدث، أو من حيث بناء القصة نفسها، ومن حيث لغتها، فكرا ً، وحوارا ً دراميا ً متكاملا ً، فمرة تأخذ شكل القصة، وتارة شكل القصة القصيرة، وأخرى القصة القصيرة جدا ً، والأقصوصة، وكذلك الحكاية ؛ وعليه فلزاما ً أن يأخذ التجديد مأخذه من هذا الجنس الأدبي اللطيف، و هذا يدل على قدرة اللغة العربية، على احتمال التعبير الدرامي، وعلى تأدية هذا الدور بقدرة وكفاءة، وأن تكون اللغة مؤدية ومعبرة عن أهدافها ببساطة و وضوح ؛ والقصة هي القالب الذي اجمع النقاد على ضرورته، حيث إن العرب عرفوا القصة والرواية وفن القص، وشاعت مجالس كلامية كثيرة، وكان العصر العباسي الثاني، عصر نهضة في الأدب عموما، وفن القصة على وجه التحديد، الذي حرص على التحدث بذكر المجد القديم، واستحضار الآمال المستقبلية ؛ ونحن هنا أمام مجموعة نصوص، من النثر المكثف (المركز) جدا ً، quot;برقيات قصصية quot; للقاص حامد فاضل، (جريدة الزمان quot; بغداد quot;، العدد 3799 في 18 كانون الثاني 2.11)، وبما أن هذه النصوص لا تتوفر فيها كامل عناصر القصة، ومنها: أن يكون لها بداية و وسط وذروة ونهاية، ومنها أن يكون لها عنصر الصراع الدرامي بين طرفين أو أكثر، ومنها أن يكون لها معنى أو عبرة أو عظة، ومنها أن يكون أسلوبها حواريا ً، وكذلك لغتها مفهومة ؛ فيمكن أن نطلق على هذه النصوص، نصوص اللمحة، أو النصوص التوقيعية (السريعة) وهي ليست بدعة، كما قد يصفها البعض، ولكنها من سمات التجديد في الأدب العربي الحديث، وهذا يعتمد على الاختراع التركيبي من أدوات اللغة، لا على الكشف التحليلي، يقول ابن جني في الخصائص (الجزء الأول ص 228- 229): // إن اللغة العربية أكثر اللغات قبولا ً للاشتقاق، لتنوع المعنى الأصلي، وإكسابه خواص مختلفة، ومبالغة ومطاوعة، ومنها وفرة الألفاظ، وهذا يكسب اللغة وفرة في التلوين بالأطياف، والصور الذهنية المتعددة، ومنها الإيجاز في اللفظ والتركيز في المعنى //، وإن كانت في الشعر أوفر حظا ً وأبرز، وبرع بها الشاعر التونسي، المنصف المز غني، في ديوانه quot; حبات quot;، لكنها في القصة قد تبدو أكثر صعوبة ؛ لكن القاص المبدع حامد فاضل، من الذين يتميزون بقدرتهم الفائقة على دقة الملاحظة، ويحمل كاميرا بارعة في اصطياد اللقطات، التي تغني عن سرد واقع المجتمع وتفاصيله، وجعل هذه النصوص النثرية هي التي تختزل الشعر، وبطبيعة الحال، فأن الشعر هو الذي يختزل السرد القصصي، فقد وصف عباس محمود العقاد، في كتابه (في بيتي) بيت شعر للشريف الرضي، يقول: وتـلـفتت عيني ومـذ خـفيت
عـني الــطـلـول تـلـفــت الـقــلــب
قال العقاد: إن هذا البيت، أختزل أكثر من خمسين صفحة من القصة.
ويقدم لنا القاص حامد، نصوصا ً أو (حكايات) حقيقية أو متخيلة، لكنها لم تخلُ من مغزى أو عبرة، أو عظة، أو نقد اجتماعي لأوضاع معينة، وهذا أهم عنصر (من عناصر القصة) استفردت وتميزت به هذه النصوص.


اتجاهات ومحاور
يبدأ حامد فاضل، نصوصه من اتجاه، مرحلة الصبا، التي يسيطر عليها طابع العاطفة (الحب) وهي المرحلة التي يبدأ فيها تبلور الحلم، وربما تعتبر نصوص هذا الاتجاه، التمهيد الضروري للانتقال إلى النصوص التي تليها ؛ في نص (غصن) يتغزل بحبيبته، (من المتن)، //..... حين تخطرين أمامي غصن ربيعي، عيناي لا تطرفان //، وكذلك في نصوص (رائحة و لحاظ و أمل) ثم ينتقل إلى اتجاه مرحلة الشباب (الانكسارات)، وهذا الاتجاه تمثل في نصوص (خيبة و عاصفة و صورة وحزام) حيث تبدأ الانكسارات في نص (خيبة)، يقول: // كل ليل أغير طعمي، وألقي بصنارتي، وأصحو على سلة فارغة //، وهنا يعلن صدمته بالواقع، وذوبان أحلامه الوردية، وتستمر انكساراته في عاصفة من الريح تجلد ظهر الأرض.... فبمن أتقي العاصفة؟ نص (عاصفة).
و يقدم لنا القاص حامد، لونا ً دراميا ً بحتا ً، شاهدناه قديما ً ومازلنا نراه حديثا ً أمامنا، في نص (صورة) وهي صورة بليغة وخلاقة في غاية من الحزن، يقول: // بين الهتاف وبين التصفيق، أزاحوا الستار عن الصورة.. بعد حين، طفل منتفخ البطن حافي القدمين، قرفص قدام الصورة، وأقام مأدبة للذباب //، والستار هنا يمثل الفاصل بين الزيف و بين الحقيقة، فعند إزاحة الستار ظهر الواقع ؛ إن الانطباع الأول الذي يتشكل حتما في ذهن القارئ، إن بناء هذا النص يشبه بناء اللوحة التشكيلية، فهناك المساحة، والحركة والألوان، والفراغات حتى بين الجمل، لكن القاص حامد يغري المتلقي ndash; المشاهد ndash; القارئ، بالغوص في أعماق هذه اللوحة (النص) ليستخرج من خلالها رؤيته الكلية، للحياة والإنسان، وهذه الصورة عبر عنها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته quot; مقتل صبي quot; من ديوان، مدينة بلا قلب، لكن حجازي يعالج هذه الصورة بلا تندر، يقول في مقطعها الأول:
الموت في الميدان طن
الصمت حط كالكفن
و أقبلت ذبابة خضراء
جاءت من المقابر الريفية الحزينة
ولو لبت جناحها على صبي مات في المدينة
فما بكت عليه عين..
وبالطبع فأن الذبابة (الخضراء) لا تأتي إلا على جثث الموتى!!
وينتقل القاص حامد فاضل إلى محاور عدة، وان أهم ما يميز هذه المحاور هو إنها تتوالى على شكل امتدادات، أو هي تراكمات لفكرة واحدة، من هذه المحاور، الفوضى المنظمة، في نص (تذكرة) و محور المعاناة الاجتماعية في نصوص (مولدّة، و وطني، و نفط) ثم محور الغربة و المنفى، في نصوص (كلب، و نتيجة، و لماذا) ومحور القلق الدائم، الذي غدا مهنة تمتهنا شعوب بكاملها، في نصوص (قلق، و خشية) وعلى ما نعتقد، بأن القاص حامد فاضل قدم أهم محاوره (الإنسان) وأبدع فيه أيما إبداع، فقد مثلت نصوص ((سؤال , و ظلال، و عقال، و حيرة، ويقين، ومفارقة، وكرسي، و أزياء)) مرحلة الانتماء، و كون وضع الإنسان في الإسلام وضع فريد: quot; ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا quot; - سورة الإسراء 7.- صحيح إنها نصوص قد تعد اجتماعية إبداعية، لكن العنصر السياسي واضح فيها، وسنقدم هنا بعض هذه النصوص، أو مقاطع منها دون أن نحس بفارق كبير بينها، ففي نص quot; سؤال quot; نقرأ ما يلي // كلما نظرت حشود الباكين حولي.. تساءلت: كم عدد التماسيح؟ //، وفي نص quot; ظلال quot; نقرأ // إني مضيت ظلي المرعوب يسبقني، خائفا ً من حشود الظلال //، وفي نص quot; عقال quot; يقول: // سقط العقال، فاحتجت البنادق.. طرب العقال فارتمى تحت أقدام غجرية //، وهذا النص اختزال لقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد quot;حفلة صيدquot; من مشهدين:
المشهد الأول:
تصاعدوا بيارق
تهندسوا فيالق
وانطلقوا للصيد
البنادق
متخمة الأعناق
البيادق
تقدمت ملوكها
وأطلقتْ
وأطبق السكون
المشهد الثاني:
البيادق
مبقورة الأعين والبطون
البنادق
يلعقها الذباب
الملوك
منفوخة الرقاب
البيارق
ترفس في التراب
وكلها حرائق..
والعقال، عند القاص حامد، هو البيرق عند عبد الرزاق عبد الواحد، وحفلة الصيد عند الملوك وما يتخللها، هي اللهو تحت أقدام الغجرية..

وفي نص quot; حيرة quot; نقرأ ما يلي // أمام أسماء المرشحين تحيّر الناخب //، وفي نص quot; كرسي quot; نقرأ // الكرسي عال ٍ، فكر الحالم بالوصول إليه قال: أتوني بأكوام الجماجم // , وفي نص quot; مفارقة quot; نقرأ ما يلي // كلاهما يبدأ اسمه بحرف quot; الميم quot; المسئول والمسكين.. وشتان بين الاثنين // ؛ أمام هذه النماذج التي قدمناها، نجد إن الهدف منها اجتماعي، فكري، سياسي، في آن، حيث يملك القاص خاصية الاختيار للمواقف، التي (يريدها)، والانفعالات التي يحس ويشعر بها ويستفيد من تجاربها، ونصوص هذا المحور، تعد محاولة لفهم وعي ثقافي جديد، إن لم نقل عنه، قديم بقي في درج الأفكار، حينا ً يظهر، وأكثر ألأحيان مختف، ومفاد هذا المحور هو إن على الشعوب التي تنجح فيها التغيرات للأنظمة السياسية الفاسدة، عليها أن لا تقنع بما جاءت به السلطات الجديدة، بل مطالبتها برد الدين، والتضحيات من اجل أهداف سامية رفيعة، وليس الغرض منها قيام هذه البرلمانات، والصراع على الكراسي القبيحة، وقد، ونقول (قد)، كوننا قد نحمـّل هذه النصوص ما لا تحتمل (وهذه وجهة نظر لا غير)، لكنها بكل تأكيد نصوص هادفة، الغاية منها العناية بمستقبل مجتمع، أنَّ تحت ضغوطات كثيرة، نتيجة سياسات وأفكار عبثية، حد المبالغة والسخرية، يقول صلاح جاهين:
ألأوله آه.. والثانية آه.. والثالثة آه..
ألأوله بالبنادق سكتـّوا الثوار..
والثانية جـا اللورد ملنر يربط الأحرار
والثالثة تصريح في فبراير وأصله هزار..
فلا نريد لهذه النصوص الإبداعية، إن تكون quot; لافتات quot; سياسية عريضة، أو quot; افتتاحيات quot; صحفية كما قد يصفها البعض، وبالتالي إبعادها عن محتواها الفني ؛ لكننا نستطيع أن نعد هذه النصوص، بمثابة ترسيخ النموذج القصصي لمريدي الحداثة، على صعيد الأعمال الفنية المبدعة، وهي بكل تأكيد وليدة تطور فني إبداعي، وليس نقلة مفاجئة، لقد نجح القاص في وضع يسمح له بصياغة الأحداث والوقائع، لتتلاءم مع رؤيته الخاصة، وإن هذه النصوص هي إعادة اكتشاف ما هو غائب أو مغيب في هذا الوقت، وان هدفها الرئيسي تمثل في هجاء الواقع الاجتماعي، من خلال طاقتها التعبيرية، وشحنتها الفنية، لذلك جاءت النصوص أكثر هدوءً واقل ميلا ً إلى الخطابية والمباشرة.