كامل الشيرازي من الجزائر: يقرأ الأديب الجزائري المتألق quot;عز الدين جلاوجيquot;، المد الثوري العربي الحالي كمؤشر على بلوغ العقل العربي مستوى راقيا من الوعي، وفي حديث خاص بـquot;إيلافquot;، يرى صاحب المُنجز الروائي الضخم quot;حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظرquot;، أنّ ما حدث في تونس ومصر ويستمر في ليبيا والبحرين واليمن وسوريا هو انتفاضة عقلانية تحتاج إلى ثورة ثقافية موازية.
bull;تمثلون واحدة من أهم تجليات تيار الرواية الجديدة في المغرب العربي، كيف تقرأون السيرورة الروائية الحالية جزائريا، مغاربيا وعربيا؟
-هذا سؤال كبير لا يتأتى إلا لمن أحاط خبرا بالمسألة، غير أني أجزم أنّ الرواية العربية بخير، فقد استطاعت رغم حداثة السن أن تجد لها عرشا تحت الشمس، وصارت لسان المثقف الأول في التعبير عن الطموحات الوجودية والفنية معا، وفي تحريك العقل العربي لطرح الأسئلة بجرأة أكبر، بل وصارت الإلهة التي تسعى كل الأقلام إلى الطواف بكعبتها طالبين القرب، والأمر سيان بالنسبة للرواية المغاربية من ليبيا إلى موريتانيا ويكفي أن تقرأ لإبراهيم الكوني ولولد بنو مثلا، ولعل الكعب العالي كان للرواية الجزائرية باعتراف العرب مشرقا ومغربا، وإني لمسرور بما قدمنا حتى أني طالما رددت أمام المهتمين quot;الرواية حفظت ماء وجه الأدب الجزائريquot; لأنني أتصور أنّ المنجز الشعري مثلا فشل في إنجاب فحل يمكن أن نفاخر به، والأمر كذلك في المشهد النقدي، أما المسرحية نثرا وشعرا فأدهى وأمر، ولا أدل على ذلك من هذه quot;الحرقةquot; التي صارت تمارس إلى بر الرواية من جزر الشعر والنقد، إن الرواية تمارس استنزافا رهيبا لمعاقل الفنون القولية الأخرى حتى لقد صارت ظاهرة تحتاج إلى الـتأمل والدراسة.
إنّ ما قدمه ابن هدوقة ووطار ليعد أساسا متينا للرواية الجزائرية، وما قدمه ويقدمه الجيل الثاني بعدهما كواسيني والزاوي ومفلاح وساري وسعدي والسايح يعد استمرارا جميلا ورائعا، وهو ما نسعى لاستكماله في منجزنا الروائي، طبعا لنكون إضافة متميزة لها ملامحها وخصوصياتها تعتز بالمنجز السابق ولا تذوب فيه.
bull;ارتضيتم الخوض في الرواية التاريخية من خلال عملكم الجديد quot;حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظرquot;، لماذا هذا الخيار وسط حرصكم على التنويع الدائم، وهل لذلك صلة بالأسئلة الشائكة التي تطرح بكثرة حول ذاكرة الجزائر على أهبة خمسينية استقلالها؟
-حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر تندرج في إطار حرصنا على التنوع، إنني أسعى دائما أن أضيف إلى نفسي، أنا مهووس بالتجريب، بمعنى أسعى دائما إلى المختلف حتى على مستوى الكتابة القصصية والمسرحية، إذا كنت أرفض أن أكون ظلا لغيري فأني أرفض أيضا أن أكون ظلا لنفسي، لا أحبذ أن أكرر نفسي، أريد لكل عمل أن يكون له عالمه وذوقه ورائحته التي تميزه، وهو للأسف الشديد ما يقع فيه كثير من أدبائنا إنهم يكتبون نصا واحدا يصرون على اجتراره حتى الانطفاء.
أصارحك القول أن كتابة الرواية التاريخية عمل شاق ومتعب، إنها مغامرة صعبة جدا، لقد قضيت عاما كاملا تقريبا أعيش تمزقا بين عوالمي المتخيلة الجميلة الرائعة وبين حقائق التاريخ المحنطة الجافة، وأحس إرهاقا شديدا يحرق الأعصاب ويمتص المخ، وأنا أنكب على عشرات الكتب قراءة وتنقيبا، وأنا أجلس إلى عشرات الناس، وأنا أتنقل بين عشرات الأمكنة أستروح عبقها وأتنشق ذكرياتها الحلوة والمرة، وكثيرا ما كدت أتبرأ من العمل لولا قناعتي بوجوب كتابة تاريخنا فنيا، وذلك ما يجيب عن سؤالك الأخير، إنّ عدسة المؤرخ تلتقط زاوية ضيقة من الحياة الماضية يختارها بعين المؤرخ ثم يدخلها الثلاجة ليحفظها لنا هيكلا ميتا دون روح، قلم الأديب يزرع الحياة في هذا الماضي فإذا هو متألق عبق يانع مزهر، وهو من خلال ذلك يسعى إلى طرح أسئلة وأسئلة كبيرة أيضا سكت عنها التاريخ لخصوصيته أحيانا، أو لرسميته أحيانا أخرى.
إنّ حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر هي الجزء الأول من مشروع روائي ضخم، ستصدر قريبا في 560 صفحة وفي أكثر من مئة ألف كلمة، فهل سيسعفني الحظ في أن أكمل المشروع؟ أرجو ذلك.
bull;شكّلت الثورة الجزائرية الشهيرة موضوعة للعديد من الأعمال الأدبية في الجزائر، وطُرحت أسئلة عديدة إزاء ما انتاب مسار تلك الثورة من منعطفات وسوالب وخفايا، إلى أي مدى يمكن للرواية التاريخية أن تجيب عن أسئلة كثيرة لا تزال معتمة؟
-أقرّ لك أن ذلك عمل صعب لأن أفكارنا ومفاهيمنا قولبتها الإجابات الجاهزة التي تلقيناها من التاريخ الرسمي أولا ومن انتماءاتنا وقناعاتنا ثانيا، إذا أراد الأديب أن يكتب عن هذه الفترة عليه أن ينسلخ من كل ما ذكرت، وأن يبعث خلقا جديدا لا مصباح يهتدي به في ظلمات الأيام والليالي إلا حسه الإبداعي المرهف، وأنا هنا لا تعنيني حقائق التاريخ ما ظهر منها وما خفي، ولكن تعنيني كيف نكتب هذه الحقائق، ولا بأس أن ألاحظ أن الرواية الجزائرية للأسف الشديد لم تكتب هذه الثورة العملاقة، بل أتصور أنها ظلت تتهرب منها رغم أنها دين في رقبتنا جميعا.
منذ عامين اخترنا في رابطة أهل القلم التي أرأسها عنوان quot;ثورة التحرير في الروية العربية والعالميةquot; وتصور وصلتني عشرات المقالات القيمة حتى من انكلترا وسوريا ومصر والمغرب ولكن المبادرة أجهضت، لعل هناك من يسوءه ويخيفه أن نتحدث عن الثورة التحريرية.
bull;في روايتكم الموسومة quot;الرماد الذي غسل الماءquot;، مارستم تجريبا فنيا برز في تأثيثكم للمسار الحكائي وسميائية الخطاب، أهي الرغبة في كسر كلاسيكية السرد والمرور إلى رواية متجردة ثائرة، أم لاهتمامكم بالتأصيل لتجريب مغاير؟
-كثير من النقاد كتبوا عن ركوبي موجة التجريب ومنهم الروائي الناقد محمد ساري الذي كتب ذات سنة مقالا بعنوان quot;عزالدين جلاوجي ومغامرة التجريبquot; وهو إيمان مني أنّ الأدب ثورة وتمرد وهو ليس تمردا عن قيم الإنسان وأخلاقه حتى صار كل من يكتب عهرا يدعي أنه أديب معتقدا أن الفن أن تنزع ثيابك وتسير عاريا أمام الناس، بل هو ثورة على الانحطاط والانغلاق والظلم والقبح والشر، هو انتصار للحب والتسامح والفن والجمال والإنسانية، أنا ثائر ضد القيم الفنية الماضية مؤمن أن لكل جيل قيمه الفنية والجمالية بل ولكل قلم ما يميزه عن غيره.
كما يسوؤني كثيرا أن نكون صدى لنماذج غربية، صدقا الرواية فن غربي بامتياز لكن موروثنا الجميل والرائع لا يخلو من تجارب مثيرة للدهشة تحتاج منا جهدا لنبعث فيه الحياة، إن ما يؤرقني أيضا هو أن أكتب نصا روائيا يقولنا ويعبر عنا، نصا ننتمي إليه وينتمي إلينا، وأنا أدعو لهذا الأمر في كل الفنون كالمسرح والقصة وغيرهما، وحتى النقد الذي كدنا نصير فيه كالحاسوب quot;نقل ألصقquot; لا همّ لنقادنا إلا أن يتلقوا منهجا نقديا غربيا نشأ في بيئة مختلفة ولدوافع فلسفية وأيديولوجية مختلفة، مرتبطا بظاهرة إبداعية معينة لها ملابساتها وخصوصياتها، يتلقون ذلك ويجهدون أنفسهم في حفظ مفاتيحه محاولين أن يفتحوا بها نصوصا تختلف في الانتماء والروح والتاريخ والجغرافيا.
bull; أي نمط روائي يفضله عز الدين جلاوجي، وهل من ابتكارات تعتزمون توظيفها في البنية والأسلوب والطابع الحكائي خلال قادم السنوات؟
-أنا أفضل كل ما يحقق التمرد، أفضل كل ما يسعى لما هو مختلف وجميل، أفضل ما يقترب من ذاتي كل ما يقولني فيقرأني الآخر من خلاله، يراني بين سطوره ويسمعني بين كلماته، وهذا ما حاولته من خلال رواياتي quot;الفراشات والغيلان، سرادق الحلم والفجيعة، رأس المحنه 1+1=0، الرماد الذي غسل الماء، حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر، وحتى مسرحياتي quot;الأقنعة المثقوبة، البحث عن الشمس، النخلة وسلطان المدينة، و... إنني أزور عن كل ما هو نمط لأن النمط قيد والإبداع حرية وانطلاق، وكم يسعدني وأنا ألتقي قرائي فيعترفون أنهم وجدوا أنفسهم فيما قرأوا، وأنهم قرأوا ما هو مختلف لم يقرأوه عند غيري، ولعل ذلك في تصوري عائد إلى رفضي الدائم إلى أن أكون تابعا لتجربة ما، لقد قرأت مئات التجارب وجلست بين يدي بعضها تلميذا متعلما لكن دون أن أذوب فيها.
ولذلك أيضا ليس في ذهني ما سأبني عليه نصوصي القادمة، الإبداع ابن اللحظة، ابن مكانه وزمانه، وابن تجربته، لأن كل تجربة لها خصوصياتها وتفردها، وهذا لا يمنع أبدا أن أرسو على أطمئن إليه ذات يوم، بل أصارحك أني أكاد أستقر على شكل مسرحي جديد سيكون رؤية فيما أتصور مختلفة عن كل التجارب السابقة.
bull;كلام كثير أثير بشأن توظيف الموروث الشعبي المحلي في إبداعكم وكذا في الأدب والمسرح الجزائري، كيف ترون تطبيقات هذا التراث ركحيا وروائيا؟
-اتخذ الموروث الشعبي بكل أشكاله في الإبداعات العالمية حيزا كبيرا، وقد أدرك العرب قيمة ذلك فانبروا يستنطقون موروثهم، التراث الشعبي الجزائري جزء من هذا الموروث، إعادة استلهامه ضرورة فنية وجمالية، وقد حضر ذلك بقوة في روايتي سرادق الحلم والفجيعة، ورأس المحنه، وكذلك في روايتي الجديدة، كما حاولت استحضاره أيضا في بعض مسرحياتي، أعتقد أن الموروث الشعبي نافذة مهمة يمكن أن نطل من خلالها لكتابة نصنا وإقامة مسرحنا، وكثيرة هي التجارب التي حاولت استحضار عوالم السير كسيرة ذياب لهلالي والجازية، والتي حاولت ركحيا استلهام القوّال والحلقة، وحتى المسرح الاحتفالي في المغرب ومسرح الحكواتي والسامر في المشرق، إن تراث كل شعب هو جزء من محليته التي يجب أن يقوم عليه أدبه لأن العالمية لا تتحقق إلا انطلاقا من المحلية وهذا ما يلاحظه المتتبع لكل التجارب الإبداعية العالمية الخالدة.
bull;تقودون رابطة أهل القلم في الجزائر، ماذا عن إحرازات هذه الرابطة ورهاناتها، ونظرتكم لراهن الهيئات الثقافية في بلد يعاني من التذبذب وتكرّس عقلية المهرجاناتية والمناسباتية؟
-على مدى عقد من الزمن أقمنا ملتقيات أدبية حققت الثبات والاستمرارية والنوعية، وخرجت بالأدب الجزائري من حدود الوطن إلى العالم العربي مغربا ومشرقا، وطبعنا عشرات الأعمال الإبداعية، وكلن حلمنا كبيرا جدا غير أن دكتاتورية الإدارة كانت لنا بالمرصاد واغتالت كل آمالنا في إقامة فعل ثقافي جاد وعميق بعيدا عن المناسباتية وبعيدا عن التزلف ومدح كل من هب ودب.
لابد من إعادة ترتيب الأمور في هذا الوطن، وعلى الطبقة المثقفة المستنيرة أن تستميت في إبعاد الحمقى والجهلة ممن تبوؤوا المناصب المهمة، إنهم يسرقون حقهم في ذلك ثم يسعون لإقصائهم وتهميشهم، وإظهارهم بمظهر الخانع والمستكين، لا يمكن أن ننعم بفعل ثقافي جاد ينهض بهذه الأمة إلا إذا قادها المثقفون، وذلك لا يقدم لهم على طبق من ذهب بل عليهم أن ينتزعوه انتزاعا، مؤمنين بأنه حق لهم ولا منة لأحد عليهم فيه.
bull;من موقعكم كأكاديمي وروائي، كيف يتسنى بناء الذات الثقافية الجزائرية؟
-هذا سؤال كبير، يحتاج إلى مشروع مجتمع، وهو بالضبط ما افتقدناه منذ استرجاع حريتنا، أتصور أننا ظللنا نخبط خبط عشواء دون أن نضبط البوصلة جيدا، بل إن المتتبع يفاجأ حين يتبين له أنّ أسلافنا حين ثورتنا وقبلها كانوا أكثر وعيا منا بهذا المشروع، وهو بالضبط ما قصد الاستعمار لاغتياله، وأتصور أن الجزائر لها من الطاقات ما يمكن لو أسند الأمر إليها أن تنهض بذلك.
لست مطمئنا تماما لواقعنا الثقافي، لقد عجزنا على مدار عقود من أن نسمع صوتنا خارج الجزائر على كل المستويات: الفيلم والمسرح والأغنية والكتابة، وكم أحس بالخجل حين يطرح علي السؤال: لماذا لا توزع أعمالكم خارج الجزائر؟ والتقصير ليس من الكاتب دون شك لأن ذلك يتطلب طاقات جبارة، ودون شك نحن نتعرض لغزو رهيب لا نحس بوقعه الشديد لأنه غزو عربي ينتمي لنفس الهوية، غزو المسلسلات والأغاني والآداب و...
bull;هل المبدع مدعو للتجرد والتملص من أي محاذير اجتماعية وإيديولوجية والتمرد على الاعتبارات السياسية لعكس واقعه كما هو؟
-طبعا يجب أن يتجرد من كل ذلك فهو لا يكتب إلا احتراما لقيم الإبداع واحتراما لقناعاته، ومتى ما وقع المبدع تحت ضغط هذه المحاذير كان أدبه ضعيفا، ولكن ذلك لا يعني أبدا أن يعكسها في كتاباته لذاتها وليقال أنه متمرد على هذه المحاذير، بل يتمرد لأن هناك ضرورة إبداعية تتطلب ذلك وإلا لا فرق بينه وبين الوقح الذي يتلفظ في الشارع ببذيء الكلام ويشتم كل من حوله ليقال أنه شجاع، لقد قرأت كثيرا من نصوص تحضر فيها مثل هذه الوقاحة وحاولت أن أجد لها مبررا فلم أجد غير مرض أصحابها أو توهمهم بأن هذا ما يدل على سمو إبداعهم، وهم يشبهون عندي من يسير عاريا في الشارع لا دافع له إلا أن يكسر طابوهات المجتمع.
bull;كيف ترون واقع النقد في الجزائر خاصة والوطن العربي عموما، وكيف تقارنوه مع ما يحدث في أوروبا؟
-دعني أتحدث عنه جزائريا فحسب، لأني لا أملك قوة أن أتحدث عنه عربيا وعالميا، أتصور أن المنجز النقدي الجزائري مازال يتلمس الطريق، صحيح أن الساحة الجزائرية أفرزت نقادا مهمين، غير أن بعض أعمالهم جنحت للتنظير، وبعضها غازل نصوصا عربية مشرقية أساسا لغرض أو لآخر، فهم لم يخلصوا للنص الجزائري، وأعتقد أن هذا النص بقي يقف في وجه العاصفة عاريا من نقد يسنده ويعرف به، وأنا لا يعنيني النقد الأكاديمي الجامعي لأنه ينجز بغرض الحصول على شهادة معينة ثم ينقطع أصحابه عن الفعل النقدي، فأصحابه ليسوا نقادا بقدر ما هم طلاب شهادات وترقيات وملتقيات، نحن إذن في حاجة إلى انتفاضة نقدية كبيرة أرجو أن يحمل رايتها جيل جديد استمرارا لما أنجزه بورايو وبوطاجين وعبد المالك مرتاض وغيرهم، يمكنه أن يقدم الأدب الجزائري ويعرف به في المحافل العربية والعالمية.
bull;ما موقع الجزائر في منظومة العولمة، وما العلاقة برأيكم ين تهافت الجيل الجديد على وسائط الأنترنيت ودواليب التكنولوجيا، وبين ركود الكتابة ومحدودية المقروئية؟
-المجتمع الأوروبي ارتبط عميقا بفعل القراءة من المكتوب، والكتاب بصورة خاصة، فكان بكل جدارة مجتمع quot;اكتب اقرأquot;، فلما تم اكتشاف الوسائط الحديثة والمختلفة لم يجد مشكلة في الانتقال إليها بنفس العمق والاهتمام، طبعا دون أن ينسلخ عن الكتاب، بل هو يزاوج بينهما ويعطي لكل حقه، وهو لا يقتصر على ذلك بل له علائق عميقة بالسينما والمسرح وكل الفنون ووسائل هذه الفنون، للأسف الشديد مجتمعاتنا لم تخلق منذ البداية تقاليد قرائية من الكتاب رغم أن أسلافنا كانوا ذات يوم يتفاخرون بكثرة ما يملكون في مكتباتهم الخاصة من مخطوطات، كما لم نؤسس لتقاليد فنية تشكيلية وموسيقية ومسرحية وسينمائية، فما كادت تظهر الوسائط الحديثة حتى قفزنا في الفراغ نضرب ضرب عشواء، ورحنا نستهلك هذه الوسائط دون عمق ودون وعي، ولذلك فمهما تكن إيجابيتها لاشك ستكون لها سلبياتها على قطاع واسع، المشكلة هي إذن في الوعي الذي تخلقه تقاليد المجتمعات وهذا يتطلب عقودا وجهودا.
bull;انتهاء، كيف تفاعلتم مع ما حدث في تونس ومصر، والذي يقع حاليا في ليبيا واليمن والبحرين وسوريا، هل هي ثورة العقل العربي الجديد؟
-هي الحتمية التاريخية التي غابت عن أذهان حكام العرب إن كانت لهم أذهان، المجتمع العربي اليوم يختلف تماما عن أسلافه الأقربين، لقد عملت الجامعات والوسائط الثقافية المختلفة على صقل مفاهيمه وتنمية وعيه، بل إنّ انفتاحه على الغرب واقترابه منه ولو اقترابا افتراضيا جعله يغيّر كثيرا من القناعات التي كان يؤمن بها أسلافه ومنها بالأساس ماهية الحكم والحاكم والعلاقة بينه وبين المحكومين، الانتفاضة إذن حتمية تاريخية لا تراجع عنها، والمشكلة هي كيف يمكن أن نحافظ على سير السفينة دون أن تغرق وأسماك متوحشة تنوشها من كل جانب، بل المشكلة هو أن لا تقتصر على تغيير الأنظمة أو تغيير الرؤوس التي تحكم، لابد من انتفاضة على واقعنا المزري في الثقافة والاقتصاد والوعي والأخلاق، لابد من ثورة موازية يقوم بها المثقفون لرسم خارطة طريق، لرسم مشروع مجتمع يتطلع للحداثة والديمقراطية متملصا من هيمنة النصوص الموروثة ومتملصا أيضا من سيطرة الآخر.
ويمكن أن نخرج من هذا المد العربي العارم بجملة من النتائج أهمها: أن العقل العربي وصل إلى مستوى راق من الوعي بحيث لا يمكن خداعه منذ الآن، وأن البعد الديني الفطري مازال عميقا في هذه المجتمعات لكن لا علاقة له بالبعد الديني الذي تنادي به الجماعات المتطرفة، وأن المجتمع العربي قد تجاوز الحزبيات الضيقة وأسقط فكرة الحزب الديناصور الذي يجب أن يخضع له الجميع، كما أكد على الانتماء للوطن بالأساس بعيدا عن الطائفية والعرقية والحزبية.
إنها فعلا انتفاضة العقل وانتفاضة العاطفة التي نريد لها الانتصار والوصول إلى بر الأمان، والتي نريد أن يؤطرها المثقفون ويقودوها نحو الانتصار.
التعليقات