هيثم حسين: تنتقي الروائيّة اللبنانيّة لينة كريديّة مرحلة تعدّ من أحرج المراحل وأكثرها حساسيّة بالنسبة للمرأة، ألا وهي بلوغها الخمسين من عمرها. تنقّب في روايتها quot;خان زادهquot;، laquo;(لآداب، بيروت 2010)، في دواخل ثلاث نساء على أعتاب الخمسين من أعمارهنّ؛ الراوية وجيهان وروعة، تقدّم ثلاثيَّها النسائيّ مرتحلة في الماضي والحاضر، تستذكر منعطفات حياتهنّ الرئيسة والثانويّة، تسترجع وقع وتداعيات الأحداث الشخصيّة والعامّة عليهنّ.
تنهض الراوية، غير المسمّاة، بمهمّة السرد، تسرد فجائعها التاريخيّة، سيرتها وسيرة عائلتها البيروتيّة التي تتمازج وتتخلّل سيرة مدينتها بيروت. تتذكّر مآسيها وانكساراتها، تروي، ابتداءً من النهاية، حين تستهلّ الرواية بقولها: laquo;وأخيراً...raquo;، وهي تعاود روتينها اليوميّ، وطقوسها المكرورة، كأنّها تقرّ بأنّها على أعتاب نقل تجربتها كاملة غير منقوصة، من النهاية التي تختارها كبداية للرواية، هذه البداية التي تنطلق من مركز الدائرة، وتتشعّب في مختلف الجهات فيما بعد. تكون الراوية مركز الرواية، لكنّها تسعى إلى تبديد مركزتها كثيراً، لأنّها تحرص على التركيز على قرينات وشبيهات وحكايات محاذية. لا تكتمل حكايتها إلاّ بحكايات منسوجة ومجدولة مع حكايات صديقتيها جيهان وروعة، وعمّتها خان زاده، وعمّها أسامة، فضلاً عن شخصيّات متخلّلة تلك الحكايات، مقتحمة ذكرياتها رغماً عنها.
تنقل كريديّة في روايتها التبدّلات التي تطرأ على النساء في سنّ الخمسين، تتتبّع التغيّرات الحاصلة في التصرّفات والسلوكيّات، بالموازاة مع تصويرها للتغيّرات الشكليّة التي تجتاح الأجساد، فتخلّفها كأنّها خارجة من معارك كثيرة مستمرّة. تنقل المعاناة التي تسبّبها الوحدة والوحشة، وكيف أنّ المتع التي كانت مصدر سعادة قصوى سابقاً تتحوّل إلى أمور بسيطة باعثة على الملل أكثر منها على البهجة. تراجع حساباتها، ولا تودّ أن تخرج بنتيجة فحواها أنّها مهزومة ومكسورة في قرارتها، لكنّها تجابر وتكابر، تروي فجيعتها، فجائع قريناتها، فجائع مدينتها التي تندب أحوالها، وتصوّر بحرقة كيف أنّها تغدو ملعباً ومسرحاً لتصفية الحسابات. تحكي ما ارتكب بحقّهنّ من إجرام، وما ارتكبنه بحقّ أنفسهنّ من تواطؤ وتبخيس.
تحاول الراوية تقوية ثقتها بنفسها، تخاطب قرينتها، صورتها الممرآة لها، تخبرها أنّها ما تزال فاتنة، جميلة، رشيقة. وأنّ أجمل النساء اللواتي في الخمسين من العمر. وأنّه لم يزل أمامها الكثير لتنجزه. تستقوي بتذكّر خان زاده التي تودّ التشبّه بها، وتنبش عن جيناتها التي تحملها في دمها. تتحدّى الهشاشة والحزن والوحدة، ولا تتوه وراء رغباتها التي تكوي قلبها وتحرق حاضرها بأمنيات جامحة بأبناء وأحفاد يكونون سندها وسعادتها في وحشتها الطاغية، ومستقبلها الضبابيّ.
تكون خان زاده المرأة النموذج الذي توجِب الراوية تعميمه، ومع إقرارها بأنّها تحملها في قلبها ولا تشبهها، وأنّها مثلها في كلّ شيء، سترحل كما رحلت، هي القدّيّسة، وستطوي قصّتها كملايين النساء. laquo;كلٌّ منهنّ تطوي قصّتها، كلّهنّ خان زاده، رحلن دون أثر يذكَرraquo;. لكنّها، وهي تقرّر أن تطوي قصّتها، تحكيها، تدوّنها رواية. ومع تشبيهها لنفسها بها، لكنّها تحمل علامات الاختلاف والافتراق الكثيرة عنها، تنتصر لنفسها ولها، تتأثّر بها، لكنّها لا تستطيع أن تماثلها. تكون الراوية متعدّدة الأقنعة والوجوه، باحثة عن نفسها وسعادتها، راغبة في إثبات كينونتها بصخب وتمرّد، في حين أنّ خان زاده تكون متصالحة مع نفسها وروحها، تعيش بوجه واحد في صمتها المعبّر. خان زاده التي تنتقيها الراوية ممثّلة وعلامة فارقة للنساء، والمرأة الأكثر تضحية وعطاء، تعجَب بها، تؤسطرها، لكنّها ترحل تاركة نموذجها يتفعّل ويتشظّى في الآفاق. تغدو الراوية متلبّسة خان زاده ولكن على طريقتها المعاصرة، تنتقم للبؤس الذي أغرق عمّتها والكثيرات من النساء المجايلات لها، تفضح السلوكيّات الفحوليّة التي مورست عليهنّ، لا ترحل دون أن تترك أثراً يذكَر ويردّد خلفها. روايتها تكون الأثر المتصادي.
لا تكتفي الكاتبة بتصوير فداحة هزائم وانكسارات الشخصيّات النسائيّة فقط، وإن كان هذا المحور هو الأكثر حيازة على اهتمامها، بل تصوّر شخصيّات ذكوريّة عديدة تتقاطع معها، تستحضرها بين الفصل والآخر، بين الذكرى والأخرى، يحضر العم أسامة المتمرّد الذي يغرق في بركان رغباته، تكون ثورته ردّاً على ضغط الوالد المتسلّط، الذي يولي الانتباه للآخرين، كأنّه كان يعيش من أجل الآخرين لا من أجله، فيكون رد ّفعله العنيف مكلفاً له وللعائلة، يعيش وحيداً لعقود طويلة، تزوره الراوية أحياناً مع خان زاده المحبّة لأهلها وذويها. كما تكون هناك شخصيّات رجاليّة أخرى، كنضال المعشوق المكروه، الأب المغالي في حرصه، والصديق الأنانيّ، عمّو راتب.. وغيرهم من العيّنات التي تشير إلى فئات وشرائح موجودة في المجتمع.
تهرب الراوية إلى ما بعد الخمسين، إمّا إلى سوق الغرب أو بحقيبة سفر، تهرب من كلّ أنهار الدماء السائلة ومن كلّ الكرنفالات الدمويّة. تستذكر أحوال المدينة ما بين الحروب والهدن، وكيف كانت الحياة تستمرّ برغم كلّ الانهيار الحاصل والتفكّك الفضّاح. كيف أنّ الملاجئ شهدت الكثير من الحبّ، وأنّ خطوط الهواتف المعطّلة أشعلت حرائق في قلوب العشّاق. وكيف أنّ البلد الديمقراطيّ الوحيد يئنّ تحت وطأة الحروب الأهليّة والتمزّق الداخليّ. تزاوج في سلوكيّاتها وروحها بين عمّها أسامة وعمّتها خان زاده. تأخذ من كليهما لتكون نتاجهما الإنسانيّ المعتدل.
تصرّح الراوية بنوع من الاعتراف المؤلم: laquo;لم نعد نحن الثلاث كما كنّا، أصبحنا أقلّ نضارةraquo;. كما تطلب من صديقتيها التوقّف عن البكاء والنحيب، laquo;لماذا كلّ هذا البكاء والنحيب يا جيهان؟ لماذا كلّ هذا البكاء والنحيب يا روعة؟raquo;، ولا ترضى أنّ عمر الخمسين يمرّ من دون شهوات وطموحات وأحلام، وبرغم اعترافاتها الخطيرة، واسترجاعها لبعض من قصص صديقاتها وأقاربها الكئيبة والفاحشة، وبرغم تحطّم الأحلام الشخصيّة والعامّة بالتنقّل بين ربوع وطن كبير، إلاّ أنّها تنتفض، تقرّر المحاولة مرّة أخرى، تكون الفينيق المرتجَى، ولا تقبل أن ينتهي العمر بانتكاسات متلاحقة، ترمي زجاجاتها الفارغة في كيس النفاية، تنظر إلى نفسها في المرآة، تصرّ على أنّها ستبقى جميلة وقويّة، تبرمج أيّامها القادمة، لا تستكين للأسى الذي تنتجه المرارات المتلاحقة. وهي في تنقّلها بين ذكريات الأمس واليوم، تفترض تصوّرات ورؤى مستقبليّة، دون أن تقع في شِراك فرضها، كي لا تظهر بمظهر الواعظ المتأستذ.
يغمر الفضاء المكانيّ للرواية مدينة بيروت وبعض الأمكنة المحيطة بها، كما تقارب أحياناً بعض الأمكنة التي تزورها الشخصيّات أو ترتحل إليها، فتعقد مقارنة بينها وبين بيروت، تصف laquo;بيروتهاraquo; التي تبقى الفضاء الأكثر انفتاحاً وتألّقاً برغم ما تعانيه من كوارث وحروب، وكيف يتمّ ترييفها على أيدي أبناء الريف، بدلاً من أن يتمدّنوا فيها. في حين أنّ الفضاء الزمانيّ يستطيل بضعة عقود، لا تلتفت الروائيّة إلى سدّ الفجوات الزمنيّة، بل تورد فصولها ndash; ذكرياتها، ترتحل بين المراحل والسنين، من مرحلة الطفولة إلى الشباب. ولا يبدو الخطّ الزمنيّ متصاعداً، يغيب الخطّ الواضح، تحضر الخطوط المتوازية والمتقاطعة، فقد نعثر في الفصل نفسه على أحاديث الماضي والحاضر. ولربّما يشفع لها أنّها قد تلاعبت بالسرد، وأخضعته لحرّيّة الساردة غير المشروطة، وهي ترتشف كؤوس الشراب التي تخلط بين الأحلام والوقائع. بحيث يكون تغييب المنطق الواعي في الرواية تنبيهاً إلى تغييبه الخطير على أرض الواقع، وما يمكن أن يتسبّب به من جنون وتخبّط.
بأسلوب سلس شفّاف، تعكس laquo;خان زادهraquo;، عبر التقاطعات والتداخلات التي تطرحها، انتصاراً للمنشود، بشيء من الجلد والتقريع، تبحث عن تثوير لروح بيروت المسلوبة، وهي في تطرّقها إلى الكثير من الحالات، ومعالجتها وطرحها للكثير من الأزمات والوقائع، تبدّت باحثة عن التغيير، بعيداً عن الانغلاق القاهر والانفتاح الفوضويّ. بعيداً عن التيه والعنف والتوتّر.