عبدالله كرمون من باريس: نتخيل ونحن نقرأ الكتيب الذي ضم محاضرة مطولة، أصدرته مؤخرا دار أليا الباريسية، كاتبَه الشاعر الفرنسي المعروف بول فاليري (1871_1945)، وهو يلقيها أمام جمع من طلبة جامعة أنال في السادس عشر من يناير/كانون الثاني لسنة 1935. لقد كان الرجل قصير القامة، ذا بنية هشة، غير أنه كان كبيرا في ما عداها حسب ما قال عنه شاعر آخر هو جان بول فارغ، وقد يتناهى إلينا أيضا في خيالنا صدى كلماته المتهدجة وكأنها، كما كتب إيف بونفوا، ظلالٌ.
يمكننا ترجمة عنوان هذه المحاضرة بquot;في تقييم الذكاءquot; أول العقل، لأن فاليري أتي فيها على منجزات العقل البشري وحدوده، كما عرج فيها على التطور الكاسح الذي عرفه ذهن الإنسان، وما رافق هذا كله من سلبيات، مذكرا الطلبة بما ذكر لهم في المقام نفسه من قبل، لما ركز نظره على quot;ما هي عليه أمور هذا العالم الآنquot; مسائلا الوقائع التي كان هو وأترابه quot;فاعلين فيها وشهودا عليهاquot;، مشيرا لهم بأن فوضى عارمة لا يُعرف لها حد قد اعترت جوانب الحياة المعاصرة بكاملها، إذ quot;لم نعد نتحمل الديمومة، ولم نعد نستفيد من متاعبنا. فطبيعتنا تخشى الفراغ...quot;
أفشى لهم فاليري بأنه يتسلى أحيانا بأن يتخيل أن أحدا من عظماء الأمس قد بُعث، ثم يتطوع كي يؤدي له دور دليل في باريس، وبينما يتنزه معه في المدينة، تراه يرهقه بالاستفسارات، وبتعجبه، فيشعر، عن طريق هذه الوسيلة الساذجة، كما كتب، والتي ترغمه على أن يندهش ويستغرب كل يوم مما يراه، بالبين الشاسع الذي خلفه الزمن الفاصل بين حياة الأمس وحياة اليوم.
سيبدو واضحا لأذكياء العقل أن خطاب الرجل ليس سوى حشدا من المتتاليات الإنشائية التي لا تقدم ولا تؤخر شيئا في مضمار التحليل الرصين للتغييرات التي تطرأ على الصيرورة التاريخية لمجتمع من المجتمعات. ظل فاليري يحوم بذلك في العموميات، متنقلا من موضوع إلى آخر، ولولا انسيابية لغته وجمال أسلوبه لما استغرقنا برهة واحدة في قراءة نصه، لكن تأملاته الذاتية تلك لا تخلو في أكثر من موضع من سعة فكر ونفاذ رأي، بالرغم من انشغاله المندهش بتسارع وتيرة الاكتشافات العلمية وبتغير مناهج الحياة. يتساءل في ثلاثينيات القرن الماضي عن كيف يمكن لنا أن نفسر لديكارت أو لنابليون نظم الحياة المعاصرة، أو يسعى إلى تقصي الحقيقة حول كيفية تعامل الأسلاف من قبيل أرخميدس، نيوتن، غاليلو، ديكارت، مع المنجزات العلمية في زمنه، إذ يفرض جدلا، ماذا سوف سيكون رد فعلهم لو وُضع دينامو (مولد طاقة) بين أيديهم، وهم في ركن من أركان جهنم (لقد أرسلهم الرجل إليها إرسالا)، لن يعرف هؤلاء الأفذاذ كيف سيتعاملون مع هذا الشيء الغريب، وسيقلبونه بين أكفهم بلا جدوى، لأنهم يجهلون عنصرا جديدا، بالنسبة إليهم هو التيار. إن الأمر نفسه هو ما يحدث لنا مع الدماغ، كما كتب فاليري، لأن هذا المولد (المحول) الطبيعي ما يزال غامضا بالنسبة لنا.
ليس لأن فاليري يمقت التقدم، ولكنه حانق جدا من كل ما يرافق هذا الأخير من ممجوج، لهذا نراه لا يكف عن المقارنة بين الحاضر والماضي وبين ما كان وما صار عليه الحال، وليس هذا دون أن يعبر عن خشيته من أن يرتد الإنسان إلى حيوانية وبدائية أول عهوده. ففي عهد الشاعر الفرنسي رونسار (أي القرن السادس عشر) كانت تكفي الموهوبين شمعة وأقلام كي ينجزوا عيون شعر وأدب، ما لم يعد كافيا بل متجاوزا جدا في عصر السرعة (أيام فاليري).
يتأفف الرجل من كون الأرض والأملاك الحرة التي ليست لأحد غير موجودة بعد، فلم يعد هناك مكان واحد شاغر على وجه البسيطة، مثلما انتفى فيها الزمن الذي لا تملؤه مشاغل متشعبة. لذلك هب ستيفنسون وغوغان مثلا إلى مغادرة المدنية في اتجاه quot;جزر لا ساعات فيهاquot;.
يواصل فاليري النبش في أسباب الحنين إلى الأزمنة الجميلة، حيث quot;لم يزعج البريد ولا الهاتف أفلاطون يوماquot;. كما لم يستعجل فيرجيل أبدا كي لا يفوته وقت مرور قطارquot;.
ينقّل فاليري ناظريه حوله فيقدم ملاحظة عن هذا الأمر أو ذاك من شؤون المجتمع وشجونه، فينتقد طرائق المعمار، ويرى بأن الهدف الأسمى للبناء هو في الواقع تحقيق ما يسعد الأبصار وينعشها، ثم يعرج على التربية والتعليم، مؤكدا على أن مستقبلي العقل والذكاء متوقف عليهما تماما، منبها إيانا بأن علينا ألا نأخذ التعليم هنا في معناه الضيق، ذلك أن الحياة كما هو معلوم للجميع فضاء فسيح لا تخلو قط من مناسبات تلقين، غير أن ما يهم فاليري هنا هو التعليم النظامي، ما سوف يفرد له حديثا مطولا، ضمّنه انتقاداته واستياءه الكبير.
تأسف فاليري كثيرا من كون quot;فوضى زمانناquot; التي ذكرناه من قبل، تطال النظام التعليمي الفرنسي أيضا. يرى أن هذا النظام مبني على المراقبة ونيل الشواهد، في الوقت الذي يقول فيه فاليري: quot;لا أتردد أبدا في إعلان ما يلي: الدبلوم (الشهادة) هو العدو اللدود للثقافةquot;، وكلما كان هدف التعليم الأكبر هو نيل الشهادة إلا وانتفى مبرر وجودها الأصلي، أي التكوين المعرفي الرصين.
وفي سياق استنكاره هذا شدد فاليري لهجة تأنيبه على محدثي هذه الفجوات كلها في جسد التربية والتعليم، ذاكرا عبثية وغرابة ضبط الخط الفرنسي، وبعده الشاسع عن المسوغ الصوتي للكلمات، ثم عبر، في نفس المضمار، عن امتعاضه، ، من كون تعليم اللاتينية واليونانية (وهذا قبل ثمانين سنة) ليس تعليما حقيقيا في شيء، ذلك أن ذلك الدرس اللغوي، كما كان عليه، لا يفضي أبدا سوى إلى حفظ عبارات ونتف لا تصلح لشيء. اقترح فاليري بذلك في هذا الشأن أن لا تُجعل هاتان اللغتان خاضعتان للإلزامية، بل عليهما أن يكونا اختياريتين، فلن نعدم حينئذ بين الطلبة زمرة قليلة من محبيهما. وحينها فقط قد يرى فاليري مسافرا في القطار أو غيره يفتح على مصراعيه كتابا من أمهات الكتب اللاتينية أو اليونانية، إذ كان انعدامه من قبل هو ما يفسر به على الدوام صواب ما كان يذهب إليه.
بغض النظر عن هذه الملاحظات الملموسة، بل السديدة أحيانا، فإن فاليري كان مأخوذا على العموم في نصه بنفَسه الشعري المألوف لديه، ولم يبحث عن أساس مادي وموضوعي للظواهر العديدة التي عدّدها، بل ظل يهوم في فضاء الصيغ الإنشائية، معتليا كرسي النظرة الأرستقراطية المتعالية، متنعما بمكانة الكاتب الكبير التي كانت له، مقتنعا أن كل ما صدر من فِيه سيؤخذ على كونه ذهب الكلام.
بات ينطلي جزء كبير من ملاحظات الرجل على حاضرنا، لكن كيف سنشرح له لو عاد إلينا اليوم ما انتهت إليه الثورة الرقمية؟ وهل سيطعم تحليلاته الهلامية بشيء من المنهج العلمي؟ بأية عين سينظر إلى رفقائه الجدد في أكاديمية اللغة الفرنسية؟ وكيف سيكون رأيه في الأيدي التي آلت إليها فرنسا اليوم؟
إن ثمة أمرا مؤكدا هو أن فاليري سينهي محاضرته لو ألقاها اليوم أيضا بالحض بقوة على تدبير فن التفكير، لكن بمرارة تحت اللسان هذه المرة عوض الأمل الهرم!

[email protected]