كلما حاولت استحضار أول دوائر الانتماء التي شكلت شخصيتي وشخصية المحسوبين على الجيل الذي أنتمي إليه، إلا واصطدمت بذاكرتين زمنيتين متباينتين قُيِّد لي أن أعيشهما طفلاً وشاباً أيضاً: واحدة تحيل على تأسيس مدينة القيروان باعتبار ذلك حدثاً مفصليّاً حرصت الأجيال المتعاقبة على استبطانه رمزياً، معتبرة بحرمة مواضع القداسة داخله، تلك التي حدّدت مختلف أشكال تدبير مجاله.
تراجيديا القيروانين
كم بدا بديهياً لأطفال القيروان الذين كنت واحداً منهم، أن يستأنسوا في أنفسهم وضمن أولى الزمنيات قدرة على استمداد بطولاتهم من تلك التي خاضها صانع "الفتح" بالمغارب عقبة بن نافع الفهري، منبهرين بعظمة الجامع الذي حمل اسمه، معتقدين في بركة مزار الصحابي أبي زمعة البلوي، مفتخرين بتبحّر مؤلف "الرسالة" محمد بن أبي زيد، وواضع "المدونة" في فقه إمام مدينة النبي مالك بن أنس، سحنون بن سعيد، مُقبلين على ترديد كرامات الصلحاء والزهاد ممن آزروا مذهب الجماعة والسنة، كالحسن بن خلدون، وأبي القاسم السيوري، وأبي الحسن الوحيشي، وعلي العيوني، وعمر عبادة العياري، مولعين بجمال ترانيم مُنشديها التي تُشعرهم بسكينة يعزّ استجلابها خارج ذلك المربع الأصيل والبديع.
ترسم الزمنية الثانية، وعلى النقيض من ذلك، انكفاء حاضرة الأغالبة وانغلاقها على نفسها، وتهيّبها من تنمّر فحوصها البعيدة، وإقصائها بالكامل عن دائرة النماء بمجرد تصفية الاستعمار وتأسيس الدولة الوطنية.
لذلك، لم يكن غريباً عن أبناء جيلي أن يستبطنوا تراجيديا ذلك التناقض، مُستذكرين جحافل البدو التي حطمت مدينتهم منذ عشرة قرون، مُحدثة انقلاباً كاملاً على أشكال معاشها، ضاربة قدرتها على إعادة اختراع مناشط حياتها اليومية، منتهية بانكفائها، فاعتقاد سكانها خطأ أن إخلاص الحاضر للماضي أصل في نجاتهم، والحال أن التعافي من ذلك يقتضي الانخراط في عكسه تماماً.
قيروان مطمئنة
لئن اصطبغ تاريخ البلاد المعاصر بسردية جامعة ساهم انتشار التعليم في تعميمها، وجعل التونسيين يدركون أنَّ لهم تاريخاً مشتركاً، ليس من الدقيق ابتساره في حضور الإسلام، وأن ميراثهم الحضاري والثقافي قد شدّهم ولا يزال إلى مجالات انتماء متنوعة، اختلطت ضمنها الأبعاد العربية الإسلامية بما هو أرحب منها مشرقيّاً ومتوسطيّاً وإفريقياً، فأن تحوّل القيروان انثروبولوجياً إلى ما يشبه متحفاً للهواء الطلق احتضن ساكنتها وعكس لهجتهم، وأطعمتهم، وسمتهم، وكياستهم ورهافة حسّهم وعلاقة نُخبهم المخصوصة بالآداب وبمناشط الفنون والإبداع، هو الذي أوحى فيما نحدُس لرشيد بوحولة مؤلِّف "تعبير الوجدان في أخبار القيروان" بتركيب باقة أولى عرضت إلى ما راكمته ذاكرته المتيقظة حول مراتع الطفولة والشبيبة الغضّة، كما حول فنتازيا لحظات الصفاء والسعادة، مستحضراً ما علق بوجدانه من ذكريات حفلات الكرنفال، وسهرات الكازينو، والجلوس إلى الرفقة بالمقاهي، والتردّد على الأسواق القديمة، وحضور احتفالات الأهل والأحبة. وكذا التعبير عن افتتانه بروائح المدنية وبفسيفسائها الداخلية، ونبضها الجواني، وترانيم منشديها وأصوات أهل ولهها وبهاليلها، العارجة لتوّها إلى السماء.
ما من شكّ في أن ما حرص المؤلِّف على اقناعنا بعرضه على تلك الشاكلة، ورده إلى نوع من التوارد التلقائي للخواطر، قد استتبعه جهد كبير في تنظيم مادة أثره، تلك التي جاوزت مجلداً واحداً، مُنتهِية به إلى تحرير جزء جديد، ليس بعيداً في مطلق ظنّنا أن تَعقُبه أجراء. فقد بدا غرضه شديد الاتصال بما سبقه من العروض، حتى وإن كشفت مضامينه على أبعاد جديدة أفاضت في التأكيد على حقيقة اتصال التّوازن الذهنيّ بعدم تغيير مختلف المكونات الماديّة للفضاء، وهي مكونات لم يشملها غالباً، وفي حق مدينة القيروان، سوى تغيير طفيف. لذلك عرض "تعبير الوجدان" في قسمه الثاني صورة مطمئنة للديمومة والثبات. لكأننا نعيش ضمن مجتمع صامت يختلف بالكامل على ما يشوب ذواتنا من حراك متواصل، أو ما يعتري أمزجتنا من تحوّلات. ولعل تلك المهابة هي ما منح ساكنة المدينة إحساساً بالانتظام، وشعوراً براحة البال أيضاً. فصُور العالم الخارجيّ التي تعوّدنا على تسريح نظرنا فيها، غير مفصولة على ذواتنا الشخصيّة. وكذا العلاقات التي تربطنا بشكل متواصل بالعديد من الجماعات الماديّة المحسوسة، أو تلك التي تصلنا بها روابط ذهنية غير مرئية.
تذكّرنا كل بناية ضمن هندسة المدينة وتوضيبها بطريقة عيش اختصّ بها العديد من النّاس الذين سبق أن عرفناهم. لذلك، فإنّ ما قام به مؤلِف هذه الدفعة الجديدة من "تعبير الوجدان..." يشبه إلى حدّ كبير عمليّة تشريح لطريقة تفكير تمتزج ضمنها إسهامات عدد كبير من المجموعات، لعبت صورة الأشياء دوراً مخصوصاً في تثبيتها. وهو ما يفسر قيمة الدور الذي تلعبه المدركات الـمُحتَفَظ بها حول المكان ضمن ذاكرتنا الجمعية.
ذاكرة لهندسة الأماكن وثانية لتحريك الوجود
استعاد رشيد بوحولة بمنتهى التدبير وفي ما يقارب الخمسين خاطرة عزيز الحكايات حول مواضع لا تزال قائمة، وأخرى انثلم ركنها فتحوّلت إلى أثر بعد عين، وثالثة لم يعد لها من حضور خارج ذاكرة من عاصروا وجودها.
تتّسم التقاليد المحليّة بقدر كبير من الاستقرار، بحيث تكون المجموعة الحضرية على هيئة من التناغم يندر العثور على ما يشبهها خارج حياضها. ذلك ما نعثر عليه بمجرد متابعة ما تم تصفيفه من مرويات يمكن أن نحتفظ من بينها مثالاً لا حصراً بـ"الأمكنة وتحريك الوجود"، و"رتج المدينة"، و"صمار الحشايا"، و"من يصنع النعال لمواصلة السفر"، و"كفتاجي عروم"، و"خيط الفيليتو"، و"جدارية معهد ابن رشيق"، و"الورد ملك الرياحين"، و"ضحكة العيد..."، و"الحنّانة"، و"حمام زُغبار" و"كوشة عرّاك"، وقصة الحايك" و"أصوات لا تنسى"، وغيرها من طريف المرويات وبديع الخواطر.
عدّل بوحولة دقات ساعته على: "زهر اللوز في ابتسامته للعيون التي تتملأه"، وعلى "بكاء طفل غِيضَ دمعه حين انسل خيط خذروفة من أنامله وحجبت رؤيته خلف السحاب"، وعلى سكينة الفجر المؤذن بيوم جديد..."، معتبرا أنَّ "الطفولة قوة في حجم الجبال والأطواد تقدر على هزم من يعادي الحياة... [لذلك] ليس هناك ما يداني ضحكة الطفل... يوم العيد، لا الجبال في علوها، ولا البحار في اتساعها، ولا السماء في عمقها... فالطفولة مرفأ للاستراحة الدائمة... [حيث] يسكب الطفل [القابع في سويداء قلب الـمُؤَلِف] ماء البئر على جسده، متخيّلا البحر في صحن الدار... معتبرا الكُتب جدراناً تقرأ بالعين والقلب والروح... تصلح لفك سرّ الأسطورة، والعُقَدِ المحبوكة بخيوط الصوف حول القضبان... يرى بالقلب قبل أن يرى بالعيون... ويشتق الحياة وبهجتها من الموت ومن العيون الحزينة" أيضاً.
"الأسوار والبيوت العتيقة بأبوابها وشبابيكها المغلقة، والعتبات الممنوعة، والرتج، والثقب لن تمنع النفس من الانفلات منها ولو عبر خِصاص الباب، أو عبر الخيال". فـ"الأمكنة، والأزمنة، والأشياء الصغيرة، البسيطة بتفاصيلها، تسمع وترى، وتتفاعل، وتختزن ما تعجز عنه الذاكرة..." وهي على جميع ذلك "قادرة على تحريك الوجود. أليست وعاء لاحتواء... كل الكائنات؟" "يكفي [لذلك] أن نتوفر على خيط ناظم في الحياة [وآصرة وثيقة بـ] الإحساس وبالوجود".
"جوهر الحياة يدرك من تضاد الأشياء... وفي نقاء النفس حال التفاعل مع سحر الوجود... كيفما ينظر إليهما، ينطبع في النفس إما الإحساس بجمال [الحياة]، أو الإحساس بقبحهما".
يُلح مؤلف "تعبير الوجدان..." في جزئه الثاني - وهو على تمام صواب -، على أن للذاكرة الدينية سطوة لا تمارى وحضور خاص يحيل على جملة من التقاليد والطقوس الضاربة في القدم. وهي أعراف وسمت مجال المدينة، ثم امتدت لتطال ما هو أبعد من مجالها شمالاً وغرباً، فتمر بتونس، وبجاية، وفاس، حتى مشارف قرطبة. لذلك بدا من الصعب أن يخوض رشيد بوحولة في ما قد تستقسم تسميته بـ"معالم الإيمان في التعريف بموروث القيروان"، إذ لم يتم استحضار الأماكن التي احتضنت ذلك الموروث وأمّنت، ولا تزال، تواصله. فقد يكتفي القيرواني بالتحوّط على كتلة رخامية ضخمة حتى يستشعر في نفسه قدرة على نحت تقاطيع سحنة عقبة بن نافع، بل والتعرّف عليه لحماً ودماً.
ذكريات الجماعة الدينية وأعمال المدرسة الفقهية المالكية شكّلت على الدوام مساراً إجبارياً لا بد من تعقبه إذا ما رمنا التجوال روحياً بين أزقة المدينة وأنهجها ومحاجها. ويصدق أمر ذلك أيضاً في حقّ مواضع الصّلاح تلك التي تحيل على جوهر ذاكرة القيروان وحقيقة محتواها، لكأن ذلك الموروث قد مرّ من تحت قباب المساجد والمزارات، وعبر مختلف الأزمنة ليصل إلى مسامعنا صافياً معافى. يكفينا المرور بتلك المواضع حتى ينتابنا شعور غريب بأن ليس هناك من شيء قد تغيّر. فقد تعوّد المتعبّدون على أًمِّ تلك المراتع الروحية وسماع رفع الآذان داخلها، فبقيت صورة تلك الشعائر ومقاصدها حيّة في مخيّلتهم، وانتابهم إحساس عارم بالقدرة على استحضار إرث المدينة التليد في كل وقت وحين.
"لحن آذان الشيخ المقرئ علي البراق، انقلابٌ في طبع الذيل لقصيد "باكر البساتين". حين تسمعه [أُذْنٌ شغوفة تتفطن] إلى أن تقطيعه [قد أنجزته أنامل حمودة الزرقاء، أعرف القيروانيين بأوزان الموسيقى التونسية وبطبوع مالوفها]." "فرسان الشعر و[فِتْيَتُه الشرسين]، مصابيح مُسرَجَة تزيد المدينة إشراقا وتُبدّد وحشة الظلمة، وتفكّ ما استغلق من رموزها".
"قدر المدينة أن يقترن مصيرها بالحرف وبترانيم السماء والأرض...وبإنشاد الصوفيين وأذكارهم...فالتسامي عن عالم المحسوسات [يُطلب] بالتحليق في [أعالي السماوات]." لذلك "يمتلئ أهل المدينة نورا حال النظر إليها، ويستعيدون حواسهم بمجرد النزول إلى الأرض، ويلتبس أمر ذلك لدى البعض منهم، فيختلق... عوالم أخرى، تشكّل أمشاجا من الإنس والجن والخيال".
"لا يملك الدراويش غير صمتهم... يمارسون الحياة عبر مذاق لا يعرفه [غيرهم] أو لا يقدرون على إدراكه." فـ"تضوع من البيوت روائح الوشق والداد، والبخور لتسري في النفوس، وتضفي على الزمان والمكان جوّا روحانيا مفعما بروح المحبة... الروائح هوِّية المكان والزمان... لن تطالها ممحاة النسيان، والحرف مرتاج السعادة القصوى، وإيذان بمزيد الحرث. فـما "من جريمة أشد دناءة وفتكا بالإنسان من قتل الأرض، وافتكاك المحراث، وكسر قبضة المنجل، وإجهاض الأحلام".
تلك كانت جولة مضيافة لحمتها متن "تعبير الوجدان..." في نسخته الجديدة المتجدّدة، وسداه ترتيبنا المخصوص لما صاغته عارضة مُؤلِفه، علّنا نستجيب لما اعتبرناه خليقا بإعادة ترتيب حبات عقده الـمُغرية في نسجها، البديعة في ضربها.
التعليقات