تسببت الأزمة الإقتصادية في أسبانيا في إنهيار مستوى المعيشة في هذا البلد الأوروبي منذ نحو ثلاثة أعوام، وأدت إلى إرتفاع قياسي في صفوف البطالة، فاق معدل 20 %، أي قرابة الـ5 ملايين عاطل، بينهم نحو 30 % من أبناء المهاجرين، الذين إنهارت أحلامهم في تحقيق حياة أفضل في أرض أوروبا. حال الجالية العربية المقيمة في أسبانيا لا يختلف عن حال بقية الجاليات التي تأثرت بالأزمة الإقتصادية، وأدت بهم إلى الوقوع في متاهات الفقر والتشرد، أو الفرار الجماعي نحو أوطانهم أو نحو الشمال إلى دول أوروبية أخرى، بدأت تخرج من غرفة الإنعاش الإقتصادي. quot;إيلافquot; إستمعت إلى محللين، وسألت مهاجرين عربًا وأجانب عن واقع الهجرة في أسبانيا، وسط عاصفة أزمة إقتصادية ضارية يعيشها هذا البلد، الذي كان في الأمس القريب مسرحًا لقوافل الهجرة الشرعية والسرية ومبتغى لتحقيق أحلام المهاجرين من كل أنحاء العالم.


مدريد: يعد عام 2010 من بين الأعوام التي تنفست فيها الحكومة الأسبانية الصعداء عقب إعلانها في إحصائيات رسمية عن تراجع تاريخي في نسبة المهاجرين وعددهم، الذين وصلوا إلى البلاد بطرق غير شرعية، هذا يفسر بتخفيفها حدة هاجس الهجرة السرية، والسبب حسب ماذكره وزير الداخيلة الأسباني ألفريدو روبالكاف يعود إلى الأزمة الإقتصادية ومستوى التعاون الدولي في مكافحة الهجرة السرية، الذي أدى إلى عدم لجوء قوافل المهاجرين إلى أسبانيا، في إطار ما يعرف بالهجرة غير الشرعية.

فوزارة الداخلية الأسبانية كشفت في إحصائياتها عن أن نسبة الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت التي كانت تصل إلى سواحلها الجنوبية قد تراجعت بنسبة 46 % خلال عام 2010 مقارنة بعام 2009. ويعد هذا الإنهيار تاريخيًا في معدل الوافدين الأجانب عبر الحدود البحرية والجوية الأسبانية.

كما إنه ملفت للمتابعة، خاصة إذا ما قورن بعام 2006، حيث شهدت أسبانيا حركة نشيطة لقوارب الموت، كما تسمّى، والتي كانت تنقل قوافل المهاجرين من شمال أفريقيا بدون إنقطاع من المغرب والجزائر إلى جنوب سواحل إقليم أندلوسية أو جزر الكناريس.

وتقدر وزارة الداخلية الأسبانية نسبة هذا التراجع ما بين 2006 وحتى عام 2010 بنحو 80%، وسبب هذا التراجع يعود في الدرجة الأولى إلى تداعيات الأزمة، التي عصفت بمختلف القطاعات الإقتصادية في البلاد، وأولها قطاعات البناء والزراعة والخدمات، وهي القطاعات التي كانت تستقطب المهاجرين إلى أسبانيا من أجل العمل.

إحصائيات خاصة بمؤسسة الدراسات الإقتصادية التطبيقية FEDEA تشير إلى أن نسبة التراجع في تعداد الجالية الأجنبية المقيمة في أسبانيا سيواصل تفاعله الإنهياري خلال الأعوام اللاحقة حتى عام 2014. وحسب دراسة المؤسسة، فإن عدد الأجانب من المهاجرين في أسبانيا قد بلغ خلال عام 2009 نحو 5 ملايين و600 ألف مهاجر، حيث وصل إلى أسبانيا نحو 330 ألف مهاجرًا خلال سنة 2009.

لكن الإحصائيات تلفت إلى توقعات إنهيار غير مسبوق في معدل المهاجرين الوافدين إلى أسبانيا من 285 ألف خلال عام 2011 إلى 3 آلاف مهاجر فقط في عام 2014، والسبب تقلّص فرص العمل، ولجوء اليد العامل المهاجرة إلى دول أوروبية أخرى، كألمانيا وبريطانيا وفرنسا.

واقع المهاجر العربي بين المطرقة والسندان
يعبّر محمد بن طريقة رئيس منظمة التعاون مع شمال أفريقيا في حديثه لـquot;إيلافquot; عن قلقه الشديد حول وضع المهاجرين العرب وآفاقهم في أسبانيا جراء تأثير الأزمة الإقتصادية، ليس عليهم فقط، بل على الأسبان وشريحة المهاجرين في البلاد، التي وصل معدلها إلى نسبة 12 % من تعداد السكان في البلاد.

وإستنادًا إلى متابعته أحوال المهاجرين العرب في أسبانيا، يقول بن طريقة إن الأزمة الإقتصادية قد أحدثت شرخًا خطرًا على الصعيد الأسري لدى الجاليات العربية المقيمة في أسبانيا، أدى إلى فراق أسري رهيب تعيشه المئات من الأسر العربية، فلقد إضطر رب البيت، الذي وجد نفسه ضمن صفوف البطالة أو بدون دخل أو مساعدات حكومية، إلى إرسال أسرته إلى بلده الأصلي وإنطلاقه في رحلة البحث عن قوته حتى تسوية حالته الإجتماعية، والعثور على فرصة عمل.

كما سجلت منظمة التعاون مع شمال أفريقيا شكاوى عدة، رفعها أبناء المهاجرين العرب، تمثلت في عدم تمكنهم من تجديد وثائق إقامتهم في أسبانيا، والسبب راجع حسب بن طريقة إلى إرتباط quot;ميكانيزمquot; تجديد وثائق الإقامة التي في حوزته على عقد عمل، خاصة بالنسبة إلى المغتربين الذين لديهم بطاقة إقامة أسبانية مؤقتة.

رئيس منظمة التعاون مع شمال أفريقيا يؤكد أن هناك نسبة قد تصل إلى 45 % من الأسر العربية المقيمة في إقليم أندلسيا في جنوب أسبانيا تعيش في حالة فقر مدقع، بسبب فقدان رب البيت وظيفته ووثائق إقامته، فلا يمكنه بالتالي الحصول على أي مساعدات حكومية، إضافة إلى ذلك سجّل تنام في عدد أفراد الجالية العربية التي إضطرت إلى اللجوء إلى المراكز الإجتماعية الموزعة في كامل أنحاء البلاد للإستفادة من مساعدات غذايئة يومية لا غير، بما يعرف ببنك الغذاء.

يقول محمد، وهو شاب مغربي يعيش في الحي الشعبي لفابييس في قلب العاصمة مدريد، إنه حائر بين أمرين .. مواصلة كفاحه للحصول على فرصة عمل في أي قطاع كان أو العودة إلى مسقط رأسه ف مدينة مكناس المغربية، وهو خيار لا يستبعده حاليًا، وهو يعيش بدون دخل منذ قرابة السنة، عقب إنقضاء فترة إستقادته من كل المنح الإجتماعية المقدمة من قبل صندوق الضمان الإجتماعي. ويوضح quot;قد أواصل رحلة هجرتي نحو الشمال إلى ألمانيا أو فرنسا لعلي أجد عملاً، لكن فكرة العودة إلى وطني لا تغادر عقليquot;.

ليس بعيدًا من حي لفابييس، وجدنا خالد مهاجرًا جزائريًا مقيمًا في أسبانيا منذ 8 سنوات، يحمل كمًا هائلاً من الوثائق الرسمية الخاصة به، وهو في طريقه إلى مكتب أحد المحامين من أجل النظر في التقدم بطعن لدى وزارة العمل الأسبانية ووزارة الداخلية لإسترجاع وثائقه التي نفذت صلاحياتها منذ عامين.

أكد خالد أنه ضيّع وثائق إقامته بسبب الأزمة الإقتصادية، ولم يعثر على عمل بسبب ذلك. و ينصح عبر quot;إيلافquot; الشباب المغاربي والعربي بعدم المغامرة في quot;قوارب الموتquot; للوصول إلى أسبانيا، معتبرًا أن الأخيرة لم تعد جنة الوافدين إليها، يقطع كلام خالد مهاجر من الأكوادور يدعى إنريكي، الذي بدى لنا منهارًا بعد أشهر من المبيت في الشارع، لأنه لم يتمكن من دفع مستحقات إيجار البيت. ويرى إنريكي أن الحل هو العودة إلى بلده الإكوادور، quot;لقد إنتهت رحلتي هنا، ولم يسعفني الحظ في إيجاد عمل، ولحسن حظي فأسرتي قد عادت إلى وطني منذ أشهرquot;.

تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة من وزارة العمل والهجرة الأسبانية إلى أن نحو 30 % من البطالين في البلاد هم من الأجانب الذين فقدوا فرص عملهم، خاصة في قطاعي الخدمات والبناء.

والحديث عن الإحصائيات قد يتركز أساسًا حسب العديد من المتابعين لتطور الهجرة في أسبانيا على الأشخاص الحاملين وثائق إقامة من دون التمكن من متابعة رسمية وإحصائية لعدد المهاجرين الذين هم في حالة غير شرعية، أو تمكنوا من التسلل إلى أسبانيا بطريقة سرية، وبينهم الآلاف من أبناء الجالية العربية، خاصة من المغرب والجزائر، وقد إرتفع تعدادهم ما بين أعوام 2006 وحتى العام 2009.

العودة إلى الوطن وإنتظار هدوء عاصفة الأزمة
خلال العامين الماضيين 2009 و2010 قرر عدد هائل من المهاجرين العرب، خاصة منهم المغاربة، الذين يمثلون نحو قرابة 15 % من الأجانب في أسبانيا، العودة إلى أرض الوطن بصفة نهائية أو مؤقتة، نظرًا إلى تردي مستواهم المعيشي وفقدانهم فرص العمل، حيث تشير إحصائيات صادرة من منظمة العمال المغاربية في أسبانيا إلى أن نحو 150 ألف مهاجر من أصل مغربي قد عادوا طواعية إلى المغرب نتيجة الأزمة الإقتصادية، ونحو 1200 جزائري عاد كذلك إلى الوطن بعد هدوء عاصفة الأزمة الإقتصادية، وتبقى هذه الظاهرة ظرفية ومؤقتة في نظر العديد من العائدين.

كما إن الحكومة الأسبانية بادرت منذ عامين بسنّ قانون خاص يحمل اسم العودة الطوعية للمهاجرين الراغبين في العودة إلى أوطانهم، شرط التخلي عن بطاقة الإقامة والإستفادة من مكافآة مالية وتذكرة طائرة، وقد إستجاب للهجرة الطوعية نحو أكثر من 5 آلاف مهاجر، معظمهم من دول أميركا اللاتينية، مع تردد في إقبال المهاجرين العرب، والسبب حسب الكثير يعود إلى الأوضاع السياسية والإقتصادية التي يشهدها العالم العربي، والتي تبقى غير محفزة لعودة الأبناء إلى أوطانهم.

نظرة الأسبان إلى المهاجرين
تقرير إستطلاع رأي خاص حول الهجرة من قبل مؤسسة BBVA للدراسات الإقتصادية والإجتماعية في أسبانيا حصلت quot;إيلافquot; على نسخة منه يشير إلى أن نحو 38 % من الأسبان يرون في ظل الأزمة الإقتصادية أن المهاجر تختطف منه فرصة العمل إن وجدت واتيحت الفرصة، بما قد يفسر بأن هناك تخوفًا إجتماعيًا ضئيلاً في أسبانيا من ضغط المهاجرين في سوق العمل مقارنة بدول أخرى كبريطانيا، حيث يعتبر نحو 58 % من المواطنين أن المهاجر قد تطير من يده فرصة العمل.

ويعتبر الدكتور جاك ماكيت المشرف على إستطلاع واقع الهجرة الخاص بمؤسسة BBVA أن هذه المعدل إيجابي مقارنة بدول أخرى، رغم أن المواطن الأسباني يعيش أزمة إقتصادية، لكن لا يرى المهاجر كخطر، ويؤكد المحلل لـquot;إيلافquot; أن إستطلاع الرأي لم تكن نتائجه متوقعة إلى هذه الدرجة.

الإستطلاع ذكر أن نحو 52 % من الأسبان يرون أن مستوى رواتب العمل قد ينخفض بسبب المهاجرين، الذي يقبلون بأي راتب أو مستحق عمل يؤدونه، بينهم 44 % من الأسبان يرون أن لا علاقة للمهاجر برواتب العمل. ويعتبر هذا الإستطلاع مفاجأة كذلك على الصعيد الأوروبي، ويفسر ذلك بأن الأسبان يتخوفون من المهاجرين أو الأجانب من الناحية المادية المتعلقة برواتبهم، لكن بدرجة ليست عالية مقارنة بدول أوروبية أخرى.

في النهاية يؤكد الدكتور جاك ماكيت لـ quot;إيلافquot; أن الأزمة الإقتصادية في أسبانيا أدت إلى تراجع تنامي الهجرة، بنوعيها الشرعية أو السرية، لكن لم تخلق تصادمًا إجتماعيًا داخليًا بين الأسبان والمهاجرين بسبب الأزمة.

ويرى أن الحكومة الأسبانية حديثة العهد في التعامل مع ظاهرة الهجرة وكيفية تنظيمها في ظل أزمة إقتصادية لم تكن متوقعة، مقارنة بدول أوروبية أخرى، كفرنسا وبلجيكا وبريطانيا، لذلك فإن ما حدث في أسبانيا عقب السقوط الحر للإقتصاد الوطني والدخل الفردي قد لا يمكن تفسيره اليوم بشكل واضح، و يحتاج وقتًا أطول لمعرفة تداعيات الأزمة الإقتصادية على المهاجرين بصفة عامة، وهل ستغلق أسبانيا أبواب الهجرة إليها، رغم أنها لاتزال بحاجة ليد عاملة أجنبية في المستقبل.