أثرت المشاكل في النظام المصرفي العالمي على معظم أبرز الكيانات الاقتصادية في العالم، وردًّا على ذلك، قامت الحكومات بإدخال سياسات نقدية ومالية لمحاولة تحسين الموقف، الذي تحول إلى مأساة دولية، بدأت من أميركا، ولم تنته عندها.
لندن: في الجزء الثاني من هذه الورقة البحثية، التي أعدت في إطار حلقة دراسية عن الاقتصاد الدولي، سوف أقوم بالبحث عن الطريقة التي قامت من خلالها حكومة الولايات المتحدة الأميركية بتعديل سياساتها النقدية والمالية ردًا على التباطؤ العالمي، شارحًا الأسباب التي أدت إلى تلك التعديلات، ومشيرًا إلى المشاكل التي يتم إنشاؤها للشؤون المالية الحكومية كنتيجة لسعيها وراء تجنب حدوث ركود اقتصادي أعمق.
مع الإشارة إلى اقتصاد الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية الأخيرة، فقد بُذِلَت جهود في صورة سياسات نقدية ومالية لإنعاش الاقتصاد والحفاظ على الاستقرار في النظام المالي ردًّا على التباطؤ العالمي. وتتعلق السياسة المالية بأعمال الحكومة من حيث التغيرات في الميزانية الوطنية من خلال الضرائب والإعانات من أجل التأثير على اقتصاد البلاد.
وتتعلق السياسة النقدية بأعمال المصرف المركزي لتغيير معدل النمو وحجم المعروض من النقود، في المقام الأول من خلال أسعار الفائدة قصيرة الأجل وطباعة النقود وهلم جرا. وبحسب ما ذكره باغيهوت (1873)، تعتبر تلك السياسات التوسعية ضرورية للتخفيف من الذعر الناجم عن الأزمة المالية، ليس فقط بالنسبة إلى واضعي السياسات للرد وفقًا لذلك، وإنما للمحافظة أيضًا على الثقة في سلامة النظام المصرفي.
وعلى مدار الأزمة المالية الأخيرة منذ العام 2007، شاهدنا سلسلة من المشكلات الاقتصادية، بما في ذلك الإفلاس والاستيلاء الاتحادي على فاني ماي وفريدي ماك وكذلك صعود أسعار النفط والغذاء.
وقامت وزارة الخزانة الأميركية بضخ 100 مليار دولار في كل وكالة في مقابل أوامر لشراء 79.9% من فاني ماي وفريدي ماك مقابل مبلغ رمزي. والأسباب الكامنة وراء هذه التدخلات هو حقيقة أن النظام المالي كان على شفا الانهيار، لذا من الضروري أن تساعد التدخلات بشكل مثالي في توفير الاستقرار للأسواق المالية، ودعم توافر التمويل العقاري، وحماية دافعي الضرائب من الخسائر المفرطة.
في الجزء الاول: يدًا بيد مع quot;آدم سميثquot; ... هل نترك السوق حرًا أم لا؟ |
هذا ولم يُتخذ إجراء مماثل أثناء انهيار بنك ليمان براذرز، مما أدى إلى نشوء الكثير من الانتقادات الوطنية والدولية. وردًا على تلك المشكلات واسع النطاق، تعهدت الحكومة الأميركية أيضًا بتطبيق سياسات مالية عن طريق تمرير مشاريع قوانين عدة في شكل تحفيز اقتصادي (قانون التحفيز الاقتصادي لعام 2008 ) وحزم إنقاذ ( قانون الطوارئ لتحقيق الاستقرار الاقتصادي لعام 2008).
وكانت خطة التحفيز الأولى خطة تقدر قيمتها بـ 700 مليار دولار اقترحتها وزارة الخزانة، ستسمح في الأساس للحكومة بشراء الأصول المتعثرة من ميزانيات البنوك وتقديم ضخ لرؤوس الأموال إلى تلك البنوك، في مقابل الحصول على أسهم ممتازة.
وبإتباع قانون الطوارئ لتحقيق الاستقرار الاقتصادي لعام 2008، لم يتمكن الاقتصاد من التعافي بالصورة التي كانت متوقعة له، وقررت وزارة الخزانة أن تضخ مبلغ إضافي يقدر بـ 250 مليار دولار في تسعة من أكبر المؤسسات المصرفية بالولايات المتحدة والشركات الأصغر.
وكانت هناك أيضًا حزم تحفيز مالي لاحقة، مثل خطة الشراء المباشرة للأوراق التجارية لتحفيز الإقراض قصير الأجل بين الشركات وهلم جرا. وقد ساهمت كل هذه الحزم الرامية لدعم النشاط الاقتصادي في تفاقم مشكلة العجز في الميزانية الأميركية، لكنها كانت ضرورية لمنع حدوث انهيار دولي واسع النطاق بسبب الحقيقة التي تقول إن الولايات المتحدة لا تزال تشكل مركز الاقتصاد العالمي.
وبعيدًا عن حزم التحفيز المالي، شاهدنا أيضًا استجابات سياسات نقدية من مجلس الاحتياطي الاتحادي. وبغية تشجيع الأداء السليم للنظام المالي، واصل مجلس الاحتياطي الاتحادي السياسات النقدية التوسعية عن طريق خفض سعرها الاتحادي الخاص بالفائدة من 5.25% في السابع عشر من آب/ أغسطس العام 2007 إلى 0.00 ndash; 0.25 منذ السادس عشر من كانون أول/ ديسمبر العام 2008.
وكانت هناك تخفيضات كبرى في تلك الفترة الفاصلة، ويتم خفض سعر الفائدة بشكل أساسي من خلال quot;عمليات السوق المفتوحةquot; عن طريق زيادة المعروض من النقود من خلال شراء الأوراق المالية الحكومية. كما وسَّع ذلك من النطاقات المباشرة لإرجاع القروض وقدَّم خطوطًا مباشرة من القروض للمؤسسات المالية الأخرى، وليس البنوك التجارية وحدها. وعلاوة على ذلك، أصبح أيضًا مجلس الاحتياطي الاتحادي ضامن الديون لبير ستيرنز خلال تعرضه للسيطرة من جانب جي بي مورغان.
وعلى الرغم من عدم حل تلك الأعمال للأزمة، فإنهم تمكنوا من القيام بدور مقدمي السيولة ومُحَسِّني الثقة في النظام المالي. وبإتباع أساليب تقليدية غير فعالة، تم كذلك تنفيذ سياسة نقدية غير تقليدية في صورة تخفيف كمي.
وفي الوقت الذي يتراوح فيه السعر الاتحادي الخاص بالفائدة حول 0.00 ndash; 0.25%، فلا يوجد هناك مجال كبير للمناورة ويتم استخدام التخفيف الكمي لشراء السندات الحكومية باستخدام أموال تم استصدارها حديثًا، وهو ما يتم فعله لخفض الفائدة أكثر من منحنى العائد وزيادة حفز الاقتصاد. وفي الولايات المتحدة، تمت الاستعانة بالتخفيف الكمي العام 2008 لإعادة شراء الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية وجُدِّدت في 2010 في الوقت الذي لم يكن ينمو فيه الاقتصاد بقوة.
ما هي المشاكل إذًا التي تشوب عملية الإنقاذ؟
تُستَمد الأموال العامة للحكومة من ثلاثة مصادر رئيسة، هي: الضرائب والديون ورسوم سك العملات. وتعتبر الضرائب بصورة تقليدية هي المورد الرئيس للتمويل العام اليوم. وتأتي من ضريبة الدخل وضريبة الثروة وضريبة القيمة المضافة وضريبة المكوس ورسم الطابع وهلم جرا. والدين الحكومي هو نتيجة قروض تم أخذها، وسندات تم استصدارها، واستثمارات مالية قدمتها الحكومة. وبطريقة أكثر بساطة، كثيرًا ما كان يُنظر إليه على أنه دين غير مباشر لدافعي الضرائب.
وتعتبر رسوم سك العملات هي الإيرادات التي تتحصل عليها حكومة إحدى الدول بعد قيامها بطباعة النقود لإصدار المزيد من العملات. وباستخدام تلك الموارد، سوف تنفق الحكومة أموالها مباشرةً أو كإعانات ويحدث عجز في الميزانية عندما يتجاوز إنفاق الحكومة إيراداتها. وكما نرى من مختلف استجابات السياسات النقدية والمالية في جزء منها، نعلم أنه ستكون هناك بعض المشكلات للشؤون المالية الخاصة بالحكومة الأميركية دون النظر حتى في الحقائق والأرقام.
وفي الواقع، من حيث المشاكل الناجمة عن السياسات المالية فقط، نتج عجز مالي كبير وظلت الأرقام تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. وظلت وزارة الخزانة تنفق مبالغ كبيرة من أموالها على برامج التحفيز المالي وغيرها من حزم الإنقاذ، وهو ما أدى إلى تفاقم الحالة الخاصة بعجز ميزانيتها المتوترة بالفعل. ومن المعلوم أن الولايات المتحدة ظلت تعاني عجزًا كبيرًا في الميزانية في أعقاب انفجار فقاعة الدوت كوم، وهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، والإنفاق العسكري لتمويل الحروب في أفغانستان والعراق، وكذلك خفض الضرائب بقيمة 1.35 مليون دولار إبان حقبة الرئيس بوش.
وقد ساهم انخفاض عائدات الضرائب وارتفاع الإنفاق في تفاقم الوضع الخاص بعجز الميزانية، ناهيك عن السندات الصادرة والتي عَمِلت على زيادة مستويات الديون. وعلى الرغم من وجود بعض الارتفاعات والانخفاضات، انخفض العجز إلى 161 مليار دولار في 2007 قبل أن يزداد إلى 485.20 مليار دولار في 2008 بسبب بلوغ معدلات إصدار السندات معدلات قياسية لدفع تكاليف برامج الإنقاذ الضخمة.
وهذا يشير إلى حدة التراجع الاقتصادي في الولايات المتحدة وكذلك السياسة المالية الصارمة التي اعتمدتها وزارة الخزانة في محاولة لمنع الاقتصاد الأميركي من الغرق بشكل أكبر وصولًا إلى ركود أعمق. وأدى الانخفاض الضخم المتواصل إلى زيادات أخرى في العجز، وصلت إلى عجز بقيمة 1.4 مليار دولار للعام المالي 2009 و1.56 مليار دولار في 2010، بفضل خطة الميزانية الجديدة التي وضعتها إدارة أوباما.
ومع أنه من المتوقع أن ينخفض عجز تلك الميزانية إلى 1.27 مليار دولار للعام المالي 2011، نتيجة لتعهد أوباما بأن يقوم بفرز المشاكل المالية بشكل مرتب من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار على المدى الطويل، فهذه ليست إجابة مضمونة، كون أن الأمر برمته يعتمد على حالة الاقتصاد الأميركي، سواء إن كان سيتحسن ويعود إلى حالة مرضية كما كان الأمر قبل الأزمة أم لا. هذا وقد واجهت إدارة الرئيس باراك أوباما كثير من التحديات في أعقاب تطبيقها لبرنامج إصلاح نظام الرعاية الصحية، على الرغم من أن أولويتها الرئيسة لا تزال منصبة على إصلاح الاقتصاد.
ولم ترتبط السياسة النقدية في حقيقة الأمر بالشؤون المالية الحكومية بشكل تقليدي، في الوقت الذي لا تؤثر فيه زيادة أو انخفاض أسعار الفائدة على العائدات الحكومية أو الإنفاق. ومع هذا، فإنه مع تزايد استخدام التدابير التوسعية غير التقليدية الخاصة بالسياسة النقدية، ظهرت سلسلة من المناقشات حول ما إن كان التخفيف الكمي معادلًا لرسوم سك العملات. فبعد هذا كله، يتطلب التخفيف الكمي استصدار أموال جديدة بصورة الكترونية لشراء الأوراق المالية الحكومية.
وهذا ليس بالأمر المقبول من الناحية السياسية، حيث لن يعترف الساسة بالتشابه، لكنها في الأساس هي المفهوم نفسه من وجهة نظر الاقتصاديين. وبطريقة ما، سوف يعمل التخفيف الكمي كمصدر لتمويل العجز عن طريق البنك المركزي ndash; وهو ما يتم حظره في كثير من الأحيان بالعديد من البلدان.
وعلى الرغم من ذلك، يقول بعضهم إن التخفيف الكمي ليس رسوم سك العملات. وتكمن الاختلافات بينهما في حقيقة أن الحكومة لا تُضطر لشراء السندات ( على عكس الحالة التي يتم فيها استخدام رسوم سك العملات كتدبير أخير في بلدان مثل زيمبابوي )، ويكون لديها النية لإعادة بيعها بمجرد أن ينتهي التباطؤ الاقتصادي. وربما لا يؤثر ذلك أيضًا على الشؤون المالية، في الوقت الذي لم تهدف فيه الحكومة إلى تسييل الديون.
وبالتالي، ينبعث بشكل أساسي القلق الرئيس بخصوص الشؤون المالية الحكومية من عجز الموازنة الذي ينتج عن الزيادات الهائلة في مختلف حزم الحوافز المالية وخطط الإنقاذ، كجزء من تدابير السياسات التوسعية للحكومة الفيدرالية، تليها تخفيضات كبيرة في عائدات الضرائب.
*ترجمة الزميل أشرف أبو جلالة
bull;لقراءة أوسع حول الحلقتين يمكن الاطلاع على قائمة المراجع للاستفادة والاستزادة من خلال رسالة إلى البريد الإلكتروني:
[email protected]
التعليقات