من يرى أو يسمع سماحة السيد عبد العزيز الحكيم يطلق كل هذا الصخب حول الفدرالية متشبثاً بها ومصراً عليها ومهدداً من يعارضه في إقامتها بإقامة الحد عليه، يعتقد أن سماحته قد تجول مع طاقمه الحزبي والمليشياتي في بلدان العالم الفدرالي وغير الفدرالي ودرس الفدراليات وقرأ عشرات الكتب والتجارب حولها فاستوعبها وحفظها عن ظهر قلب وختمها كما يختم الكتب الدينية وأدرك مزاياها وفوائدها العظيمة فامتلأ بهذا الحماس والإيمان بها وبهذه اليقينية بضرورتها لجنوب العراق!
بينما لو أجري امتحان لسماحته بالفدرالية حتى ولو بمبادئها العامة البسيطة لما أخذ أكثر من صفر مكعب!
ومن يراه بهذه النشوة الفدرالية يظن إنه قد حل كل مشكلات العراق وعلى أفضل وجه فنشر الأمن والسكينة وقضي على الإرهاب وشغل العاطلين وجعل الكهرباء تضيء بيوت العراق الحزينة والبنزين والماء الصافي يتدفقان وقضى على الفساد، وحل المليشيات فثاب أعضاؤها إلى رشدهم وكفوا عن القتل والسلب والاغتصاب ولم يتبق له سوى تطبيق الفدرالية!

ترى ما سر ولع سماحته بالفدرالية؟
يذكرنا فهمه للفدرالية بفهم سيئ الذكر خير الله طلفاح للاشتراكية، فكثيرون يتذكرون تلك المقابلة المضحكة التي أجراها صديقنا إبراهيم الزبيدي معه في تلفزيون بغداد أواخر الستينات عندما سأله عن رأيه بالاشتراكية فأجاب: (الاشتراكية هي إنني أنا محافظ بغداد أجلس معك الآن أنت المذيع في التلفزيون)
وليت فهم طلفاح للاشتراكية توقف عند هذا الحد! لقد فهمها وطبقها (وهي الاشتراكية الوحيدة التي نفذت من شعار حزب البعث) على إنها مشاركته الناس في ما يملكون من عقارات وأموال بغير وجه حق طبعاً وبسلطة وسلاح ابن أخته صدام، فراح يصول ويجول منتزعاً القصور والبيوت والبساتين والمعامل من أصحابها ولم يرق في عينه عقار أو مال إلا واغتصبه وسرقه حتى حاز بجدارة لقب حرامي بغداد!

ومن الواضح اليوم إن الحكيم وابنه عمار (الذي صار كثير من الناس في الجنوب يلقبونه بعدي الثاني) يسيران على خطى طلفاح ولكن خلف لافتة الفدرالية، وليت الأمر توقف بحدود اتنزاع ملكيات الناس أو الدولة من بيوت أو بساتين أو مصالح في بغداد والنجف وكربلاء والبصرة أو التجار بالنفط وغيرها أو بحدود اقتطاع جنوب العراق الجزء الأكثر اكتنازاً بالعسل والسمن والفاكهة من الكيكة العراقية وجعله كانتوناً طائفياً يتربع عليه وشلته النشيطة، إنه في الواقع مشروع جهنمي رهيب يضع مصير جنوب والعراق كله تحت تصرف القيادة الإيرانية في مخططها القومي التوسعي لقضم الأرض العربية بحجة الجهاد للقضاء على إسرائيل!
فحكام إيران، ومنذ خروجهم في حربهم مع العراق والتي كان صدام قد أشعلها والخميني أطالها سنوات وسنوات حتى صار الشريك الأكبر في الجريمة، قد استيقظت فعلاً في أعماقهم أحلام الإمبراطورية الفارسية القديمة وما حكاية مزايدتهم على العرب في السعي لإلقاء إسرائيل في البحر إلا برقع لا ينطلي حتى على السذج والمغفلين !
فلو كانت القيادة الإيرانية محقة في دعواها لإعادة الحق لأهله لم لا تعيد طمب الكبرى والصغرى للإمارات العربية والمحمرة لأهل عرب جنوب العراق؟ وتمنح الكرد في إيران حقوقهم أو في الأقل عشر ما يتمتعون به في العراق؟ إن مزايدات إيران في القضية الفلسطينية والتي يشكل حسن نصر الله أحد الدمى في لعبتها الدموية هو مثل فدرالية الحكيم طريق وقناع لتشكيل الطوق الفارسي الذي يسميه البعض بالهلال الشيعي خطأ. فالشيعة العرب براء من هكذا مشروع وجد لتدميرهم كعرب دون أن ينتصر لهم كشيعة، وهم يدركون إن النزعة الفارسية غير الروحانية الشيعية وإن قادة إيران مستعدون للتضحية بجميع الشيعة على مذبح مصالحهم القومية! وقد لمسوا كيف عمل الإيرانيون منذ البدء بتخريب العهد الجديد في العراق والذي لشيعته مصلحة كبرى فيه وعملوا وما زالوا يعملون على إشعال نار الفتنة بينهم وبين السنة مثلما عملوا على دفع السنة ليحطموا رؤوسهم على الدبابات الأمريكية! وما سعيهم لامتلاك السلاح النووي إلا لتحقيق الغطاء الاستراتيجي الذي يقف بوجه أية قوة عظمى قد يتحالف معها العرب للوقوف بوجه هذا الشر المتخفي زوراً وبهتاناً خلف الإسلام ولو قدر لهذا المشروع أن يتحقق وتقوم الدولة الفارسية الممتدة من جنوب العراق حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، فإن قادة إيران سيفرضون على جميع المسلمين من غير الإيرانيين وأتباعهم أن يحجوا إلى قم ليسلموا من جديد على يد خامنائي وربما يغيروا قبلتهم أيضاً!
كثيرون غافلون عما يجري بل أن بعض حكام الخليج لاهون في كرنفالات مع حكام طهران وبعض كتابه يتصايحون: لم لا يحق لإيران أن تمتلك سلاحاً نووياً مادامت إسرائيل تمتلكه؟ وكأن قدراً على العرب أن يكون كل ما لدى إسرائيل حق لغيرها حتى لو كان ضد هم، هكذا يفقهون!
ومن المؤسف أن القيادات الكردية تثبت مرة أخرى إنها قصيرة النظر في تحالفاتها التي طالما دفع الشعب الكردي والعراقي أثمانها باهظة فهاهي تساوم وتتحالف مع الحكيم في فدراليته الخطيرة المبيتة فقط لتعزز فدراليتها حسب ما تعتقد بينما فدراليتها معززة مكرمة لدى عرب العراق لأنها تقوم على أسس أخرى ويفترض أنها لا تضمر الشر للعرب أو غيرهم. بينما فدرالية الحكيم لو تحققت كلبنة أولى في هلال إيران الاستراتيجي فإنها ما أن تستقوي وتسفر عن نفسها داخل الإمبراطورية الفارسية حتى تلتفت وتلتهم فدرالية الكرد بل وستعمل على محو وجودهم القومي لتقيمه على أساس ديني وطائفي كما هو حال الكرد الآن في إيران!
قادة الكرد في مساومتهم مع الحكيم يتيحون لقيادة طائفية خاضعة لإيران أن تتسلط على أبناء الجنوب وهذا أمر لا ينبغي أن يصدر من قادة الكرد وعليهم أن لا ينسوا أن الكثير من أبناء الجنوب ناضلوا مع الكرد واستشهد كثير منهم واختلطت دماؤهم بدمائهم على أرض كردستان!
إن الفدرالية في الجنوب لن تقوم إلا على أيدي أبناء الجنوب الوطنيين الأحرار، المثقفين العلمانيين الذين سيبنون فدرالية حضارية مزدهرة وسيذودون عن وحدة العراق ولن يسمحوا بانزلاق الجنوب أو غيره للتبعية لإيران!
والأمريكان إذا سمحوا بقيام فدرالية الحكيم في الجنوب فهذا يعني إنهم قد وضعوا في فم إيران آخر ثمرة من ثمار تغيير الوضع في العراق المدفوعة الثمن من دماء آلاف وعشرات آلاف الجنود الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم من الحلفاء!
لذا يجب الحذر ثم الحذر من قيام فدرالية في جنوب العراق على أسس طائفية ودينية كما يريدها سماحة الحكيم، ولا ٌيطلق مشروع الفدرالية حتى يتم فصل الدين عن الدولة والسياسة عن الدين لأن الفدرالية ستتحول حتماً إلى فدرالية طائفية وذات انتماءات لا وطنية حتى لو قامت في البداية على أسس جغرافية أو على أساس كل محافظة على حدة ما دامت الدولة ملتحمة بدين الطائفة ومذهبها المتحجر ويهيمن عليها طائفيون وانعزاليون وغرباء حاقدون على تاريخ العراق وأهله. وإذ ينشغل البرلمان في هذه الأيام بالمشروع الفدرالي ويقف في الباب سماحة الحكيم وحرسه فإن الإجراء الذي ينبغي أن يتخذ هو تأجيل مناقشته والبت به حتى قيام برلمان جديد وإجراء انتخابات عامة جديدة لا تتدخل فيها المرجعية الطائفية ولا المحاصصة الطائفية وتشكيل لجان وطنية مختصة تستعين بخبراء وأكاديميين ورجال قانون وإدارة لإنضاج مقترحات علمية وموضوعية لها. إن التعجل في طرح المشروع الفدرالي منذ الآن قفزاً على قائمة طويلة من الأولويات تسبقه بجدارة وإلحاح سوف لن يكون لضرورات وطنية بل فقط من أجل القيادة في إيران التي تلعب في العراق ولبنان الآن أكثر من أهل الدار وما نستطيع لهذا الخطب سوى أن نردد مع اليازجي بيته الشعري الشهير معتذرين له لتحويره:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طغى الفرس واستقوت بهم جبب!