لم يذق الفلسطينيون يوما طعم الحرية والاستقلال. فمن الاستعمار العثماني إلى الاحتلال الإنكليزي، فالاغتصاب والاحتلال الإسرائيلي. ولم تقم يوما للفلسطينيين دولة يشعر فيها إنسانهم بالمواطنة، ويُمنح فيها بطاقة تعريف فلسطينية وجواز سفر. فقد عاشوا لاجئين مشردين ممزقين، حجبت عنهم غالبية البلدان العربية حق المساواة بأهل البلد وحق التملك، ومنعتهم من السفر، وبعضها منعهم من العمل أيضا.

لم يعد الإنسان الفلسطيني يطيق الحياة حتى على أرضه وبين أهله وأقربائه وشعبه، فالبطالة والجوع والخوف، والقلق على الحياة والممتلكات يكتسح جميع الفلسطينيين ويقهرهم ويذلهم، حتى أصبح الهروب من الوطن هاجس الجميع ومنفذهم ومنقذهم من الآتي الأعظم. وأصبح الفلسطيني المحظوظ هو الذي يجد أرضا أخرى غير أرضه تقبله وتأويه، إن حالفه الحظ واستطاع الهرب، أو الحصول على تأشيرة خروج من وطنه أو تأشيرة دخول لأرض أخرى من أراضي الله الواسعة.

ما يحدث الآن من قتل واقتتال فلسطيني- فلسطيني في الضفة الغربية وغزة كان متوقعا منذ اللحظة الأولى لصعود حماس إلى الحكم. توقعه وحذر منه جميع المتابعين للشأن الفلسطيني. وحدهم الحالمون والمتمنون من أنصار حماس غلبتهم أوهامهم ورغباتهم، ونظروا للأمور بعين الرغبة والتمني لا بعين الواقعية والموضوعية، مما قادهم للظن أن عصر الإخوان المسلمين قد بدأ. الآن في فلسطين، وغدا في بلاد العرب والمسلمين. مع علمهم ويقينهم أن الفلسطينيين قد انتخبوا حماس لا حبا بها ولا اقتناعا بشعاراتها اللا عملية واللا واقعية، وإنما نكاية بفتح، وعقابا لفتح على فساد زعمائها وممارساتهم وإهمالهم لقضايا شعبهم، واستهتارهم بمطالبه ومطامحه. واستئثارهم بالمكاسب والمغانم والأموال والمساعدات والتبرعات.

لم يجنِ الفلسطينيون من انتخاب حماس سوى الجوع والحصار وتفاقم الأوضاع الأمنية، فلم تقدم لهم شيئا مما وعدت به، بل زادت الطين بلة، وزادت حياتهم صعوبة، وضاعفت من خوفهم وقلقهم على أطفالهم. لكن حماس بالرغم من إدراكها لما حل بشعبها خلال فترة حكمها، وبالرغم من إدراكها للمخاطر المحتملة إذا ما استمرت في الحكم على هذا المنوال، فقد استمرأت السلطة واستطيبتها، ولن تقبل بالانتخابات المبكرة، ودون ذلك ما صنع الحداد- لعلمها المسبق بنتائج هذه الانتخابات إذ لن يُلدغ الفلسطينيون من الجحر ذاته مرتين- أجل لن تقبل مهما كبُر الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون، ومهما علا، حتى لو كان هذا الثمن دماء وأرواحا. مما يجعل خيار الجوع والحصار أحلى بكثير من خيار الدم.

لقد خربت حماس في الماضي وما تزال كل مساعي السلطة الفلسطينية، وكانت كلما لاحت بادرة اتفاق في الأفق تتدخل حماس لتخريبه، معطية للعدو الإسرائيلي كل المبررات والأعذار للتملص من المفاوضات التي تفرض عليه دوليا ويدخلها مجبرا، وينقض بالتالي الاتفاقات التي أُرغم على عقدها. فتعود الأمور إلى المربع الأول، مع ما يتبع ذلك من خراب ودمار ونار وحصار يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني كله.

عشرات كثيرة من السنين والفلسطينيون من مأساة إلى مأساة، ومن مخيم إلى مخيم، ومن منفى إلى منفى، وأرضهم تضيق وخياراتهم تضيق. ما قبلوه بالأمس رفضوه قبل الأمس. وما يقبلونه اليوم ويطالبون به، غير متاح لهم الآن، فقد رفضوه بالأمس.

لن يستطيع الفلسطينيون النهوض من حفرتهم، وتجاوز محنتهم، ما لم يبصروا الأمور بشكل أفضل، ويكونوا موحدين متحابين متفقين على ما ينفعهم وما يضرهم، ولا بد لذلك من الاتفاق على برنامج عمل، ومطالب عملية، يمكن تحقيقها، ومقبولة محليا وعربيا ودوليا، بعيدا عن الشعارات التي لا تبني دولة فلسطينية ولا تغني عن جوع. فقد آن الأوان لهذا الشعب أن يبني دولته المستقلة، القادرة على الحياة وعلى جلب الاستثمارات، وتوفير فرص عمل لجميع مواطنيها، فقد كفى هذا الشعب الاستجداء. وإلا فهذه الأرض إذا ما هجرها أهلها، فلن تجد من يطالب بها، فتبقى لقمة سائغة، وهذا ما يعمل لأجله الإسرائيليون.