يغيب في تناولنا للثقافة ودورها في التغيير تسلسل الاولويات. لسنا ندري على وجه الدقة، من الناحية التجريبية على الاقل، مااذا كانت الثقافة تغيّر المجتمع ام انها نفسها نتاج لتغيرات اجتماعية. ففي عالمنا العربي لم نستطع ، لا من خلال البحث، ولا من خلال المتابعة الرصينة، معرفة الاولويات والتجاذبات في الادوار بين التغيرات الثقافية والمتغيرات التي تساهم الثقافة في صنعها وانتاجها.
نستطيع منذ البداية، ان نرصد حرصا مبالغا فيه ، لدى المعنيين العرب بتحولات الثقافة وادوارها، على تقديم وسائل الدفاع ووضعها في المقدمة في كل حديث عن متغير ثقافي.قاد هذا الحرص إلى بناء اسوارعالية حول مفهوم الثقافة قبل عمل وفاعلية الثقافة .وتتوخى هذه الاسوار احاطة الثقافة العربية بهالة دينية وقومية وربطها بالمقدسات والثوابت الذهنية لكي لاينحو الحديث عنها إلى انفتاح او تفاعل. وتاريخيا، نعرف ان الثقافة التي انتجت في العصور الاسلامية الثلاثة حتى سقوط بغداد، اتسعت بفعل التعرف على ثقافات اخرى قامت في بلدان الفتح قبل فتحها، واستقبلت ثقافات بلدان اخرى لم يصلها الفتح او وصل إلى جزء من حدودها كالصين والهند واوروبا ولخصت عناصرها الانسانية ومزجتها في الطابع الثقافي العام لها.
لدينا مشكلة من النادر ان نعيرها الانتباه المطلوب، وهي مشكلة تحول مرحلة التنوير العربية(المسماة غلطا عصر النهضة ) إلى مرحلة دفاع ضد ثقافة الغرب.ولان العالم العربي الاسلامي في القرن التاسع عشر كان عالما متخلفا مقابل النهضة الاوربية في المجال الصناعي والعلمي، فان الثقافة العربية طوقت بحراسة مشددة من خلال اعتبارها الهوية الوحيدة لهذا العالم الذي تريد الثقافة الغربية ان تحلله إلى ثقافة مادية. مقابل فكرة الثقافة المادية للغرب تمت صياغة فكرة الثقافة الروحانية للشرق.وسارت مرحلة التنوير بالاتجاه المعاكس وتحولت من مرحلة التنوير إلى مرحلة العودة إلى التراث والحفاظ عليه، بدل ان تنطلق لتجاوزه واطلاق عناصر التحول نحو العصر الحديث الذي لم يبدأ الا بالدخول الكولونيالي إلى العالمين العربي والاسلامي، والذي واجه بنية تقليدية قوية وثابتة تعصى على التحلل تحت عناصر التحديث ما اضطر الكولونيالية إلى بناء مجتمعات من بنى تقليدية وحديثة في مزيج واحد.
تعيش منطقة الشرق الاوسط عالما من الحفاظ على التقاليد والتراث اصبح بديلا عن التحديث. ساعد على ذلك طبيعة تركيب الانظمة العشائرية والعائلية والعسكرية والحزبية التي رات ان التحديث يقف ضد استمرار هيمنتها على المجتمعات الشرق-اوسطية. واتجهت هذه الانظمة إلى عكس الاتجاه تماما حين جعلت من التحديث بنية امبريالية متناقضة مع البنية الشرق-اوسطية واطلقت صراعا مايزال يقوم على مقاومة التحديث والاصلاح باعتبارهما بنى امبريالية واصبحت الاولوية هي التمسك بهذا الصراع وتراجعت إلى الخلف قضايا الحريات والديمقراطية والدستور وتداول السلطة والتنمية البشرية وحقوق الانسان، واصبح العدو الخارجي على سلم اولويات المنطقة حتى الان.
اين النخبة الثقافية العربية ، وهل تصوغ مقدمات وتحظى بنتائج تساعد على نهضة وتطوير العالم العربي؟ سنضع النتيجة قبل المقدمات لان هذا التحليل يسعى للبرهنة على النتيجة( الفرضية) وهي ان النخب العربية فاسدة وهي المسؤولة عن فساد الوضع العربي وليس الانظمة وحدها وهي التي تواصل الابقاء على هذا الوضع الذي اصبح بالنسبة لها الدجاجة التي تبيض ذهبا وبقرة حلوبا وجميع الامثلة المشابهة.
تنطلق النخبة الثقافية من مقدمات ايديولوجية موزعة على اتجاهين رئيسين هما الاتجاه القومي والاتجاه الماركسي بكل تفرعاتهما ،حكما، وتحكما بالهيمنة السياسية والفكرية خلال نصف القرن الماضي، سواء في السلطة او في الشارع العربي.
من اين بدأ انطلاق هذين التيارين في العالم العربي؟في الواقع انطلقا من ميدانين: القومي انطلق من قضية فلسطين التي ربط جميع المهمات ،التي اطلق عليها مهمات التحرر الوطني، بها وشلّ تحرك أية مهمة قومية او وطنية اخرى الا من خلال علاقتها (المصيرية) بتحرير فلسطين. ولعب هذا المصير دورا في تغييب الحريات وفي الغاء سيادة القانون وفي تعطيل الدستور او تعديله باعتباره عمودا فقريا لقوانين الطوارئ وفي اتنهاكات مريعة لحقوق الانسان العربي وصلت إلى تغييب انسانيته وتحويله رقما في حشد متشابه العواطف لا اختلاف في عواطفه التي تتجه لحب الحزب الحاكم او الفرد او الطغمة او الزمرة المدنية والعسكرية على حد سواء. لم يكن مسموحا التفكير بعواطف مغابرة لهذه العاطفة التي يوجهها المثقفون نحوالانظمة من خلال التاكيد على تحمل الانظمة مسؤولية تحرير فلسطين وبالتالي لاشأن أخر للمواطن العربي غير هذا الشأن الذي يجب التنازل عن كل شئ من اجل تحقيقه. والماركسي الذي انطلق من معاداة الامبريالية باعتبارها عدوة الحركة الثورية العالمية وعلى راسها الاتحاد السوفياتي حيث وضع الكومنترن في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين اولويات الحركة الشيوعية العالمية وصاغها في مفهوم(الاممية)، ووضع الدفاع عن الاتحاد السوفياتي في مقدمتها. ولعب هذا التفكيرالاممي دورا في تغييب الحريات وفي الغاء سيادة القانون وفي تعطيل الدستور او تعديله باعتباره عمودا فقريا لقوانين الطوارئ وفي اتنهاكات مريعة لحقوق الانسان العربي وصلت إلى تغييب انسانيته وتحويله رقما في حشد متشابه العواطف لا اختلاف في عواطفه التي تتجه لحب الحزب الحاكم او الفرد او الطغمة او الزمرة المدنية والعسكرية على حد سواء. لم يكن مسموحا التفكير بعواطف مغابرة لهذه العاطفة التي دعمت الانظمة(الثورية التقدمية التي تسير نحو الاشتراكية) دون ان تدير بصرها ولو للحظة إلى اهمية الحريات وضرورة القانون واعمال الدستور وغير ذلك من مقومات الدولة الحديثة.
نحن اذن امام نخبة يقوم وجودها على حراسة قيم التخلف المتمثلة بغياب سيادة القانون والحريات وحقوق الانسان والدستور واحلال االشرعية الثورية محل القانون والدستور واعتبارها مرجعية الاصدقاء والاعداء والموقف من العالم القريب والبعيد.وتشترك النخبة في هذا التصور مع الانظمة العربية التي تعارضها او تؤيدها. وهذه الشرعية الثورية بالطبع هي شرعية استخدام العنف دون قانون ودون تقييد ودون حدود.وقد مارست النخبة الثقافية في كلا الحالين: الثوري اليساري والقومي، العنف أكثر مما دعمته ونظّرت له ولشرعيته لتصفية خصوم الثورة واعداء الاشتراكية والانهزاميين والمتخاذلين والمتأمرين والخونة والجواسيس عملاء الرجعية والامبريالية والامة العربية الذين يريدون ايقاف المسيرة الثورية التحررية التقدمية التي يقودها الحزب ثم اصبحت تقودها الطغمة الحزبية او الزمرة العسكرية لتصل إلى القائد الفرد الملهم .
كانت النخبة الثقافية في هذا المناخ حشدا موحدا وراء قائد المسيرة في الحزب او السلطة اوفي المنفى او في السجن. فحتى في السجن تبقى المسيرة مستمرة بحيث ان اغاني الثوريين العرب هي الترحيب بالسجن والقتل والاعدام ومسيرة الدم.
اليست هذه هي لغة النخبة في خطابها الثوري المشحون بالتخوين والتاثيم الذي حل محله خطاب نخبة التكفير؟
ان انفتاح ثقافة النخبة على العنف الحق الثقافة بعلاقة تبعية انقلابية والغائية مع الاهداف السياسية للايديولوجيات والاحزاب و والغى استقلالية الثقافة وحريتها وحولها من مؤسسة مدنية تنتمي إلى المجتمع الى مؤسسة رسمية الحقت في حالات كثيرة باحهزة العسف والارهاب السياسي والفكري وتنازلت عن دورها للتماثل مع الايدولوجيا ، واكثر من ذلك شهدنا ظواهر مربعة في بلدان عربية تنازلت فيها الثقافة للايديولوجيا لكي تلعب دورها ولكي يلعب المثقفون دور شرطة للارهاب الفكري والثقافي والسياسي ولكي يذيبوا القيم الثقافية العليا في اطار ايديولوجي قسمت فيه الثقافة على الايديولوجيات والاحزاب التي لعبت دور البوتقة التي ينصهر فيها المثقف كفرد في طبقة وسطى منتجة للافكار وحاملة لقيم التنوير والاستقلالية الثقافية ليذوب مع انتاجه الثقافي في عملية صناعة الوهم وصناعة القوة والجبروت السياسي وتحول المثقف ، في توهمه تحقيق مفهوم غرامشي عن المثقف العضوي، إلى موظف يقبض راتبه من خلال دوره في الترويج الايديولوجي وليس في انتاج الثقافة باعتبارها افكارا منتجة من طبقة المثقفين الذين يعملون على تحويل الرؤى والمشاعر والمناظر والافكار الى مشهد ابداعي امام المجتمع ايعمل، بدوره، على صياغة اطر العلاقات والمعارف الفردية والاجتماعية، بما فيها الابداع الادبي والفني ايضا.
لقد دخلت الثقافة العربية إلى نفق التوتاليتارية وترسبت في الوعي العام عبر تجلياتها الشمولية في الفكر والعلاقات والاحكام والمقارنات والممارسات السياسية والاجتماعية التي استحوذت على سلوك المثقف وافكاره. ان المثقف العربي هو ابن الاطر التوتاليتارية في التفكير. فالشمولية هي مضمون جميع الايديولوجيات المختلفة التي تساهم في صراع الافكار السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط، سواء الحاكمة او غير الحاكمة.فغير الحاكمة تخضع بدورها حتى وهي خارج الوطن، لاحكام فكرية شمولية ذات طابع ايديولوجي منسق ، يغذي موقف المثقف من الاخرين، ويحكم علاقته بهم،كما يحكم على افكارهم ونشاطهم الثقافي من خلال ذلك الطابع الايديولوجي العصبوي المللي الذي يقود المثقف ليخدم في صفوفه كمنظمة دعائية او عقائدية دوغمائية تحجب الحقائق وتتعامل مع اوهام الايديولوجيات وتطعم المخيلة الاجتماعية بوعي زائف.. يملك العالم العربي ارثا تعسفيا في السياسة والفكر والثقافة زاد في انتشاره الارث التعسفي الاجتماعي الناتج عن طبيعة العلاقات القبلية والدينية التي تعيش على نمط من حملات التهميش والالغاء والتعامل مع الثقافة كمنبر لصوت واحد، مقتبسة نظام الطبيعة القاسية وناقلة قيم وتقاليد الريف إلى المدينة. هذه النزعة التعسفية ترد على الصوت الواحد بصوت واحد، وعلى التهميش بتهميش الاخر، وعلى التعسف الحزبي تجاه الجماليات بتعسف فردي يجعل من الجماليات مزاجا مريضا. تعيش الثقافة العربية عزلة عن محيطها وعن متلقيها ، وهذه العزلة انتجت منطقة فراغ واسعة بين النخبة الثقافية وبين الرأي العام، اذ مايزال عمل النخب بعيدا جدا عن عكس أمال وطموحات الرأي العام واهدافه.واكثر من ذلك، وقعت النخبة في الوله الايديولوجي بحيث عجزت ان تعكس امالها وطموحاتها هي،فاهدرت الزمن والثقافة في عكس رغبات وطموحات الزعامات السياسية لاحزابها وايديولوجياتها.ولذلك نجد ان الانتاج الثقافي والفكري بشكل عام، يعكس صراع النخب فيما بينها دفاعا عن تلك الزعامات وطموحاتها، ولايعكس املها وطموحاتها كنخب ولايعكس طموحات وأمال الرأي العام الذي وجد في الثقافة انعكاسا للايديولوجيا والعاطفة والوجدان السياسي
مايزال سلم الاولويات مقلوبا اذن لدى النخبة الثقافية العربية، فهو بدل ان يبدأ من الداخل فانه يبدأ من الخارج ويغرق فيه بحيث تصبح الرؤية النقدية الداخلية محرمة، ولذلك ينطلق التخوين ليمنع هذه الرؤية باعتبارها تماهيا مع الخارج، وكل خارج هو مؤامرة ومشروع خيانة وطنية وقومية.وكرست الثقافة العربية هذه الرؤية وهي مكرسة حتى الان ولذلك فان أي حديث ثقافي حول الديمقراطية والحريات والاصلاح ونقد الاستبداد والدكتاتوريات والانظمة العربية انما يصب في خدمة المشروع الامبريالي ضد المنطقة.
يرتبط النظام السياسي بثقافة النخبة هذه ارتباطا وثيقا، فالنظام السياسي يعيش على جميع تصورات ومفاهيم وانقلاب سلم الاولويات لدى النخبة. كما ان النظام السياسي العربي هو وليدة مجمل عناصر هذه الثقافة التي تشرّع العنف تجاه الاخرين باعتبارها فعلا ثوريا وحيدا لاقصاء الخصم وعدم الاعتراف بالتعددية والتنوع.وماتزال ثقافة النخبة تمجدالانقلاب والعسكر والدبابة التي تحسم امور الحكم . ولدينا في العراق انصع الامثلة عن تمجيد ثقافة العنف هذه التي تطورت لتكون ثقافة استخدام ملاعب كرة القدم معتقلات وسجونا للتعذيب والتحقيق كما هو الحال مع ملعب الادارة المحلية في الكرخ الذي استخدم معتقلا لاستيعاب الاعداد الهائلة من السجناء السياسيين عام 1963، ثم تصاعدت وتيرة ثقافة العنف والالغاء إلى الاعدامات والمقابر الجماعية لتنهي هذه الثقافة دورها بتكريس عبادة الفرد وتكريس الدكتاتورية وتحويل المنهج العقلي إلى منهج فاشييفوم على تبرير وتشريع الحرمان من لقمة العيش ومطاردة البشر من اجل تكريس عبوديتهم للحاكم على حساب كرامتهم وحقوقهم في العيش والتفكير والتعبير والرأي، وانتشار ثقافة التكسب مقابل الصمت وغض النظر بحيث احبرت نخبة العراق الثقافية اما على الرحيل او الصمت او الدخول في عملية اختلاس عقول الناس ومشاعرهم وصبغها بالوان السلطة والطاعة والخنوع والانضمام للحشد الموحد الذي ينشد فيه الرسام والشاعر والناقد والمسرحي والسينمائي والاستاذ الجامعي والكاتب ومنتج الفكر في جوقة غنائية مهينة اناشيد لميلاد القائد الضرورة، وغير ذلك من مشاهد دراما سقوط الثقافة العراقية، التي تشيركلها إلى الكارثة الثقافية التي عانى منها العراق بصعود الفاشية والدكتاتورية كثقافة للسلطة والمجتمع عممت بواسطة كل وسائل الاكراه والعسف التي امتلكها النظام.
ان النخبة تقدم جهدا في التصدي لجميع الاطروحات التي لاتتناسب مع عقليتها وتصوراتها أكثر مما تقدم جهدا في ابتكار وابداع افكار جديدة وارساء قيم مرجعية للنهضة وتتحدث عن الحداثة ومابعد الحدث بحس لايشعر ابدا بشعور كارثي يفتح عينيها على التخلف المريع في لاعالم العربي والذي يصبح فيه الحديث عن مرحلة مابعد الحداثة مجرد حديث عن قصيدة تفتقر الى الوعي والذاكرة الشعرية واللغة بقدر ماتفتقر إلى ضرورة الوصول إلى نهاية النمط الذي تلبسته وتلبسها .
ومن حقنا ان نتساءل بعد هذه اين الااطروحات الفكرية والثقافية الجديدة التي تعيد التجانس الثقافي المخرب وتبدأ حوارات قومية ووطنية كبرى وترسم سياسات حول قضايا الثقافة الصحيحة باعتبارها انتاجا للافكار والقيم والاصول والمرجعيات لاي بلد، لا بتدخلها وسياستها التمييزية واحكامها المسبقة في تصنيف المثقفين بالثوريين والتقدميين والوطنيين اوالخونة والعملاء والجواسيس.او الانطلاق من الانتماء الحزبي بتقسيم المثقفين الاخرين إلى عدو وصديق حسب موقفه من سياسة الحزب لو موقفه من قيادة الحزب.
- آخر تحديث :
التعليقات