بدأ يومك هكذا: في الصباح، وعدتَ الأولاد بتنفيذ وعدك السابق : أن تأخذهم إلى أول فسحة ترويح على شاطئ البحر، منذ خرج الاحتلال بقواته الموغلة في الدم، من قطاع غزة. كانوا طلبوا منك وألحّوا، أسوة بغيرهم من الطلبة، الذين دخلوا عطلة الصيف الطويلة، فأجّلتَ وراوغتَ، إلى أن دبّرت تكاليف الرحلة المتواضعة. فأنت، كما مئة وخمسين ألف موظف حكومي، لم تقبض راتبك منذ أربعة شهور. فرحَ الأولاد، إذ أخبرتهم، أنّ هذا اليوم، الجمعة الموافق 9 يونيه، سيكون مخصصاً لهم، وستمارس خلاله، دورك كأب حقيقي كاملاً غير منقوص! إنها إذاً فرصتهم الأندر من أظافر الخنزير : وهكذا، منذ الفجر، قاموا فرحين مرحين، زائطين، يجهزون للرحلة، ويتدلّلون على أبيهم الحاضر _ الغائب. طلبوا منك، وبالأخص البنتان الكبريان، أن يستضيفوا ابنة خالتهم، لكي تكتمل البهجة، فوافقت. وفي الثالثة ظهراً، بعد أن أتممت شذرات أدبية ناقصة، كنت كتبتها وقمتَ عنها فجرَ الليلة الماضية، جاؤوا بسيارة الأجرة على الباب، وخرجتم جميعاً، تسعةُ أنفسٍ، إلى براح البحر الطليق. خرجتم، كما يقال، لا لكم ولا عليكم. فسحة وحيدة في السنة، إلى بحر كان مسروقاً ومحاصراً، هو الذي لا يبتعد عن عتبة بيتك، بأكثر من كيلو متر ونصف. جلستم هناك، كما تيّسر، فلا خدمات أصلاً، ولا تجهيزات من أي نوع. بل لا دورة مياه واحدة، على طول الشاطىء الذهبي البكر. عشرات الآلاف من المواطنين، الذين ضاق بهم فضاءُ بيوتهم في المخيّمات المكتظة بساكنيها، أتوا ليستروحوا نسمة هواء صافية ونظيفة، من بحرهم المستعاد. أناس مثلك، فقراء إلا من السُترة والستيرة، لا يعلم إلا الشيطان، كيف دبّروا أمورهم، ليكونوا سحابة هذا النهار القائظ، موجودين هاهنا. فردتم حِراماً على الأرض، وجلستم، وبعد لحظات قليلة، قمتم، أنت والأولاد الصغار، إلى البحر الذي ينادي. ظلّت الزوجة والبنات، جالسين مع ضيفتهم الصغيرة، يتفرّجون على الناس، ويأكلون الفلافل والجبنة، ويتجاذبون أطراف الحكايات مع الجارات القادمات لنفس الهدف. فرح صغير قليل متواضع بل متقشف، هو فرحهم الفلسطيني في يومٍ نادر كهذا. حين غربت الشمس، وخفّت الأرجل، قمن وسبحن قليلاً، في المتريْن الأولين من الشاطئ، وبكامل ملابسهن، ثم رجعن، وجهّزن حاجياتهنّ، عائدات إلى كتمة البيوت، حتى دون أن ينتبهن إلى تبديل الملابس المبللة. عدتم، واغتسلتم، وتعشّيتم- وإلى هنا : مضى اليوم دون منغّصات استثنائية. إلى أن قمتَ وفتحتَ جهاز التلفزيون، فمن يدري، ربما ثمة أخبار تستحق المتابعة، ومن ثمّ، تستحق الكتابة عنها لإيلاف. لم تسمع شيئاً، فقمتَ كعادتكَ، إلى غرفة المكتبة، وإلى جهاز حاسوبك الخاص، لتكتب مقالاً سياسياً (من وراء يدك)، عن هموم وطنك الأكبر من احتمال تجاهلها، في هذه اللحظة الأشدّ حراجة، من تاريخ شعبك المقتول. بعد لحظات فقط، دخلتْ عليك الابنة الصغرى مايا، ذات الأحد عشر عاماً، والحسّاسة على نحو مأسويّ، لتقول لك : قم يا أبي، وانظر : فقد حدثت مجزرة على شاطيء منطقة السودانية بغزة، واستشهدت عائلة بأكملها، كانوا مثلنا، يتفسّحون! استشهدوا جميعاً، ما عدا بنت في سني، كانت بعيدة عن أهلها بضعة أمتار، فبقيت هي الحيّة الوحيدة في العائلة!
قمت مصدوماً، وتابعتَ تفاصيل الخبر عبر فضائية فلسطين، وكان لا بدّ مما ليس منه بدّ : تبللت عيناك، وتحشرج صوتك (فأنتَ منذ أسابيع، في حالة شجن كتابي، ومنذ أسابيع، تستمع طوال الليل وبعض النهار للموسيقى، ومنذ أسابيع تتأثّر بأقلّ نأمة) فما قدرتَ على المتابعة، وآثرتَ الانسحاب من لمّة الأولاد، الذين يتابعون صور المشهد المروّع، بتحديق مؤلم، وهي تُعاد وتُكرّر، بينما قادة فلسطينيون، يستنكرون ويتكلمون بألم وقهر، عما حدث ويحدث كل ساعة، من جرائم محتل فاشستي، لا يتورّع عن قتل الأبرياء، المسالمين، حتى وهم في يوم فسحة بريئة على بحر. لكن ما لم يقله هؤلاء القادة، بل قاله الناس العاديون المتصلون، هو مهزلة ما يجري في ساحتنا الداخلية، من مآس تُضاف إلى مآسي الاحتلال، وتجعل من المشهد برمّته، سوريالياً، عصياً على المنطق والفهم والتبرير.
إسرائيل المجرمة، نعم المجرمة، وأقولها بالفم الملآن، لا تتورّع عن العبث بالدم الفلسطيني، فتقصف زوارقها الحربية، ومن عمق البحر، المتنزّهين على الشاطئ. في عُرف أية بلاد يحدث مثل هذا الأمر؟ بل في قانون أيّ غاب؟ لقد جاوزت إسرائيل كلّ حدّ وكل بداهة. والمضحك، أن عمير بيرتس هو الآن وزير الدفاع الآمر بقتل هؤلاء البسطاء الفقراء، الهاربين إلى البحر، لكي ينسوا قليلاً، حصار دولته، وتجويعها لهم، دون ذنب ارتكبوه، ولا جريرة وقعوا فيها. كيف يمكننا، أن نقف نحن دعاة السلام والمؤمنون بالعيش المشترك والمصير الأبدي بين الشعبيْن، وندافع، قدّام شعبنا، عن مواقفنا وقناعاتنا تلك؟ مجازر وجرائم واغتيالات تُرتكب كل يوم بل كل ساعة. ومحاولة كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وفرض شروط الاستسلام والإذعان عليه، توطئةً لتصفية قضيته الوطنية، تحدث كل ساعة أيضاً. فماذا بقيَ لنا لنقوله أمام شعبنا؟ الشهر الماضي فقط، كانت حصيلته أربعين شهيداً ومئات الجرحى. وهذا اليوم، الذي لم ينته بعد، سقطَ عشرة شهداء، وأربعون جريحاً، والحبل على الغارب. فماذا تريد إسرائيل المجرمة؟ ماذا تريد بعد أن حاصرت الهواء والماء والرواتب ولقمة العيش والغاز وأحلام الفتيات بالزواج وطموحات الطلبة؟ وبعد أن سدّت كل أمل في حلّ معقول؟ عائلة كاملة هي عائلة (غالية) الغزية، تذهب إلى الموت العبثي، بلا أي سبب ولا ذرة منطق، وبلا أوهى مبرّر. لمَ قُتلت هذه العائلة الفقيرة البريئة؟ بأي ذنب قُتلت؟ هل يستطيع الجنرالات الصغار في إسرائيل أن يجيبونا على سؤال كهذا؟ إن هذه العربدة الحيوانية، لا يمكن أن تصدر عن أناس أصحّاء نفسياً. كلا، فغالبية وأغلب الشعب الإسرائيلي مريض وبحاجة إلى علاج طويل، وإلا كيف ينتخب هؤلاءَ الناس، ليكونوا قادته، وليصدروا أوامر من نوع قتل المصطافين على الشواطىء، بعد أن تمّ تجويعهم مدارَ أربعة أشهر؟ إنه يوم محنة شديدة في حياة شعبي. يوم يستحق فعلاً، أن يُنكّس العلم الفلسطيني فوق السفارات والمباني الحكومية لمدة ثلاثة أيام، وأن تُعطّل المدارس، يُعطّل امتحان التوجيهي، غداً السبت. فالحدث كبير، وإن القلب لينزف دماً، على عينه التي رأت وسمعت!
تقوم في الواحدة فجراً، بعد أن نام الأولاد وأمّهم، وتتابع وحيداً، في مأمنٍ من ضعف الآباء أمام أبنائهم، وتوغل في الدمع والأسى. شاشة التلفزيون بنغاميشها البيضاء كالنمل، مغطاة بالدم العائلي. والطفلة التي في عمر ابنتك مايا، تصرخ (يابا)... وتصرخ في طاقم التلفزيون الفلسطيني أنْ : صَوّروا! خلّوا كل العالم يشوف! تبكي كما لم تبك من شهور. تتذكّر مشهد محمد الدرة وأبيه. تتذكّر أنه لولا الصدفة، لكانت مايا هي التي تبكي وتُجنّ الآن. أية أقدار مبتذلة وأي عالم! تبكي صامتاً في هدأة الليل الذي بلا ترف الهدآت. فمنذ ساعات وطائراتهم الإف 16، تخترق حاجز الصوت فوق المدينة المتحلّق سكّانها أمام الفضائيات. مرتين، اهتزّت شاشةُ حاسوبك وأنت تكتب. مرتيْن اهتزّ سقفُ البيت الإسبست عليك وعلى الأطفال النائمين، فاستيقظوا فزعين، لتحضنهم أنتَ الذي تتحرّق لحضنٍ يحضنك! ففي هذه الساعة من الليل، كم تحتاج لحضن حان، وكم يحتاج شعبك، لمن يقف معه، ولمن يخفف عنه في ذروة الألم الإنساني. أسرى تتدهور أوضاعهم في سجن بئر السبع، فينادون وما من مُلبٍ مجيب، وعائلات بالآلاف تنام على لحم بطنها، وما من مُحرّكٍ إصبعه. جدار الفصل العنصري يُبنى بوتيرة متسارعة، وما مِن آبهين. فقط بضع عشرات أو مئات من الإنسانيين الأوربيين وآحاد الإسرائيليين. نصف الضفة الغربية، يُسرق على عينك يا تاجر. وغزة تعود للعصر ما قبل الحديث، فيُجازى الذين يحاصرونها جوعاً وبثَّ رُعبٍ، بالتفهم والتعاطف والدعم المالي والمآزرة في كل المحافل. وكل هذا ليس غريباً على إسرائيل، فقد عوّدتنا من ستة عقودٍ عليه وعلى ما هو أسخم منه. فما هو الغريب إذاً؟ الغريب هو أن نتجادل ونتقاتل ونضيّع وقتاً ودماً وأعصاباً، في أمور لا تليق بتضحيات ولا بوعي وبخبرة شعب عظيم. الغريب حقاً، هو استمرارنا في الجدل حول جنس الملائكة! وأن ننسى، بأن كل شعبنا، عموم شعبنا، من هذا التنظيم أو ذاك اللاتنظيم، هو اليوم وغداً وبعد غدٍ، واقعٌ في دائرة الاستهداف. الغريب حقاً، هو أن ننسى أو نتناسى، وإني وحق الشيطان، لا أعرف كيف نفلح حتى في التناسي، بداهة أن تناقضنا الرئيس والمركزي والجوهري، هو مع الاحتلال الغاشم، لا مع بعضنا تجاه البعض الآخر. هل حقاً نسيَ الفلسطينيون هذه البديهية الأولى! وهل حقاً نسوا وتناسوا أن تمتين وتعزيز وحدتهم الوطنية، هي أهمّ رأسمال معنوي ومادي في مواجهة العدوان والاستغوال الإسرائيلي؟ وهل يحتاجون حقاً إلى هامشيّ مثلي، غير محترف سياسة مثلي، ليقول لهم : توحّدوا وتكاتفوا، فإن السفينة كلها تتعاورها اللجّة!
تصرخ الطفلة، عبرَ الشاشة [ يابا.. يابا ] وتتمردغ في رمل غزة الطاهر. فيجيبها دمعي في الساعة الواحدة من حليب الفجر الخفيف الأشبه بفقاعة صابون. تصرخ طفلتي التي لم ألدها، وما من أحد، ما من أبٍ، بعد هذه اللحظة المصيرية، سيلبّي النداء. فالأب والأم والأخوة والأخوات سكتوا إلى الأبد : نزلت عليهم قذيفة الزورق البحري، فأسكتتهم أبدا. تُرى : كيف ستُمضي هذه البنت ليلتها الأولى هذه؟ وأية مشاعر وأحاسيس تعبرُ قلبَها الذي بحجم وبراءة زغلول؟ وماذا؟ ماذا تفعل الآن، في هذه اللحظة التي أكتب لكم فيها هذا المقال؟ الثانية والنصف فجراً من سبت أسود؟ هل نامت؟ هل أخذتها حمأةُ الكوابيس؟...... لو كنتُ مكانَ أحدٍ ما، من بشريي زماننا، لأعطيتها مخدّراً، بنْجاً، لا تقوم من تأثيره إلا بعد ثلاثة أيام أو أسبوع.. لو قلبُها يحتمل!
لو كنتُ مكان أحدٍ ما، أعلى وأبعد، لخجلتُ من نفسي، ولندمتُ على ما جنته يداي! بشراً استولدَ لكي يُؤبّدوا في كهوف التعاسة، وبشراً استولدَ، لكي تكون مهمّتهم الأولى، في حياةٍ هيَ ومضةٌ بين عَدَمَيْن، إلحاقَ الأذى والظلم، بالضعفاء والمُعدمين والطيبين _ ملح الأرض _ من الناس. فأي عدلٍ قسَمَ، وأيّ ظلمٍ أعطى! وأية قسمةٍ ضيزى أو طيزى!
(يابا).. (يابا) وما من أبٍ، حتى ولا quot;أبانا الذي في الهُناكquot;! فالكُلُّ، فقاعةُ صابون. والكلُّ أقفلَ حواسهُ، فلا عينٌ ترى، ولا لسانٌ يتكلّم، ولا أُذنٌ تسمع : حكمة القرود الثلاثة: المجتمعُ الدولي، الرباعيةُ، مجلس الأمن. ومن بعدهم ومن قبلهم، حكمةُ قرودٍ كُثر آخرين : أولمرت، بوش، عنان، العرب... الخ. والأسوأ في الأمر / الأسوأ في كل القصة، أنّ سأمَنا من استنشاق الهواء الفاسد فجراً، بعد استنشاقنا الهواء الطاهر نهاراً، لن يدفعنا، فيما تبقى لنا من مهزلة عُمْرٍ، إلى الامتناع تماماً عن التنفس! فرحماكَ عذيري كانط، حين يبوخ حتى جلال ما كتبتَ على شاهدة ضريحك. إذ في هذه البلاد المُبتلاة بأعتى وأشرس استعمار استيطاني، ما من شيء، وما من شيئيْن يملآننا إعجاباً : لا السماء المرصّعة بالنجوم فوق رؤوسنا- فهذه السماء ملطّخة الآن، كما في الماضي، بالأباتشي والإف 16- ولا القانون الخُلقي في دخيلة نفوسنا. حيث في إسرائيل، في معظم العالم، لا أخلاق ثمة ولا ما يحزنون.
إن هي، إلا فقاعة صابون. سواء أكانت حياة نحياها أو نموتُها. أم وجوداً نحياهُ أو نموتُهُ. أم سياسة أم اقتصاداً أم فلسفةً أم كياناً فلسطينياً مسْخاً أم إسرائيلاً عظمى، أم لا شيء. أم إلخ..
فقاعةُ صابون. محض فقّاعة صابون!
التعليقات