مقدمة: طبيعة الصدمة التاريخية:
ازعم ان العالم قد تغير سلوكه السياسي (وحتى الحضاري) بعد تلك الصدمة التاريخية الكبرى التي اهتاج لها العالم كله في 11 سبتمبر 2001.. وبقدر ما كانت اسبابها ومسبباتها واضحة، فانها تعد من اخطر الاحداث التي اجتاحت العالم في التاريخ الحديث.. وصحيح ان حدث الصدمة دام لمدة ساعات محددة، لكن نتائجها كانت ولم تزل قوية صاعقة ومؤذية جدا.. لقد نتجت عنها ركامات من النتائج وجملة من فرز التداعيات التي لم تزل تغّير مجرى التاريخ في القرن الواحد والعشرين، والتي لم يكن يحسب لذلك أي حساب على امتداد القرن العشرين.. واعتقد ان تلك الصدمة القوية الصاعقة قد قسمت العالم الى قسمين اثنين لا ثالث لهما.. واعتقد ايضا بأن العالم كله لم يزل يعيش تداعيات تلك الصدمة، وانه لم يدرك ما الذي ستنتجه على مستوى الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين. ان الصراع يأخذ له مساحات جديدة كل يوم، وان العالم الاسلامي سيبقى عرضة لانعكاسات تلك الصدمة، خصوصا وان افتراق الرؤى وتشظي الافكار لدى ابنائه حيال تقييم تلك الصدمة التاريخية.
تغّير الانسان اثر الانقسام
انها صدمة تاريخية ونقطة تحول كبرى بعد ان اصبحت مصائر دول وشعوب على المحك.. لقد خسرت دول عدة وقطاعات كبرى وشركات واسعة الانتشار خسارات لا يمكن تخيلها، وتبلورت سلوكيات مختلفة حتى على مستوى الدول وتبدلت نوازع حتى على مستوى الافراد.. لقد حّلت القتامة الفكرية وسط تناقضات لا حصر لها مقارنة بما كان عليه وضع الانسان بشكل عام قبل خمس سنوات.. تشّظت النزعات الدينية والطائفية وانتشرت تقاليد مضادة بين هذه وتلك حتى على مستوى الامم التي لم تعرف من قبل هكذا انواع من الانقسامات.. وقد غدت السلوكيات عند الانسان تلوذ بالهروب دوما من الاعتراف بالحقيقة.. لقد نضج العنف والارهاب نضوجا فاضحا نتيجة انعدام اعتراف الجميع به، بل ولقد تسّبب الخوف منه الى محاباته وتشجيعه.. بل واتخذ في اكثر من مكان وسيلة واضحة لقتل المشروعات وقتل الابرياء من اجل اهداف سياسية او سلطوية او حتى مكاسب تافهة! في حين انتج الارهاب الذي قامت به اعداد من المتطرفين في هكذا صدمة تاريخية الى ان تزرع الكراهية الجديدة التي تعمّ العالم ضدّنا نحن العرب والمسلمين كما أضرت بالقضايا التي يعاني منها عالميهما.
لماذا قتل الأبرياء؟ هل هو شرعة دينية وحضارية؟
ان صدمة 11 سبتمبر 2001 هي النموذج التاريخي من نماذج انقسام العالم بين عالمي الشمال والجنوب وهو انقسام حقيقي بين مصالح الدول وبين قتل الابرياء.. وبين كلتا التجربتين تتجبّر القوة وتتسلط على كل الحياة الرائعة لتغّير التاريخ تغييرا بشعا.. لم يكن العالم قبل 11 سبتمبر 2001 بريئا من كل الشوائب ولم يكن خاليا من الالام والاجرام، ولكن الانسان لم يكن خاويا او ضعيفا او متراخيا او مترددا او هاربا.. كان الصراع العالمي يأخذ له مدى من نوع آخر اذ كانت الوسائل متباينة تمام التباين عما غدا عليه الصراع اليوم.. كان الصراع يتم عبر المواجهات مع وجود منظمات الارهاب التي تصّفي حساباتها ضد الابرياء، ولكن صراع اليوم يتم عبر المخفيات ويتبلور من خلال المنظمات الارهابية كي تقف في ثنائية الصراع ضد ارادة الاستقطاب. ومن الهزل ان اسمع وارى بعض العرب والمسلمين يتساءلون عن تعريف الارهاب وان تعريفه محدد بكلمتين اثنتين: قتل الابرياء!
لقد كانت الصدمة التاريخية صاعقة حتى اليوم وبعد خمس سنوات من حدوثها، وبالرغم من كل الصلابة والحرب ولكن تبلور التصعيد والتحريض ضد الولايات المتحدة الامريكية التي ازدادت كراهية شعوب عدة لها، علما بأن ليس هناك من انسان سوي يقبل البتة بقتل اي انسان برئ مهما بلغت درجة الكراهية والاحقاد ضد نظامه السياسي او بلاده بشكل عام! والمشكلة بقدر ما فشلت الولايات المتحدة والعالم من ورائها بمعالجة الظاهرة معالجات جذرية من نوع جديد، بقدر ما فشل العالم الاسلامي من جانبه في ان يكون ضد هذه الظاهرة بشكل جاد.. وفشل العالم الاسلامي في ان يقول كلمة واحدة بالضد من قتل الابرياء بكل حرية وشجاعة!! بقدر ما استخدم العالم تلك الصدمة التاريخية شماعة لتبرير مصالح معينة، فان العالم الإسلامي الذي يتهم اليوم اتهاما خطيرا وجدناه يلوذ بالتردد وباللف والدوران من اجل الخروج من بين فكي كماشة القدر.. فهو مدان ان قال الحقيقة وهو مدان ان بقي كذوبا!!
التحولات التاريخية بين قرنين
ان الصدمة التاريخية التي حدثت قبل خمس سنوات بالضبط قد حوّلت ثنائية الانقسام من حروب باردة الى حروب ساخنة.. ومن حروب الصالونات الى حروب التلفزيونات.. من حروب المواجهات الى حروب المفاجئات.. ومن حروب الخطابات والسياسات الى حروب المافيات والاقتصادات.. من حروب التجسس والدعايات الى حروب التداعيات والاختراقات.. الخ لقد اختنقت الحريات والممارسات الديمقراطية وحقوق الانسان وتبلور الخوف وعمّت الويلات وتفاقمت المخاطر والتهديدات.. كان العالم اكثر هدوءا وأمنا ونجاعة وغدا تكتنفه التمويهات والعدسات اللاقطة الخفية والتحقيقات والهواجس والتهديدات.. وبقدر ما خسر العالم كله جراء الصدمة التاريخية، فان الخاسر الاكبر ـ كما اعتقد ـ هو العالم العربي والاسلامي بشكل خاص انه ينتقل من يوم الى آخر الى الويل والثبور وعظائم الامور، اذ لم يعد العالم يثق بأي انسان عربي مسلم، واصبح متهما حتى في مشيته وفي عاداته وتقاليده والبسته وفولكلورياته وحركاته من حيث يدري ولا يدري!
من صدمة نيويورك الى احتراق العراق!
ان الولايات المتحدة الامريكية التي نالت لأول مرة صدمة تاريخية بمثل هذا الحجم، لم تعترف كم ساهمت على امتداد خمسين سنة من ادوار في صناعة قوى وجماعات ومنظمات وافراد يستخدمون كل الوسائل بما فيها وسائل دينية لتحقيق اهداف معينة، وفجأن نضجت تلك quot; الحقائق quot; في بيئات تختلف اختلافا حقيقيا عن بيئات العالم الاخرى، لتغدو الاليات الانية ركائز واسس راسخة في الوجدان والضمائر ومن شبهات وquot; حقائق quot; لا وجود لها الى حقائق لها القدرة على ان تنتشر انتشارا مضاعفا وسريعا.. ومن جعل العقائد والاساليب الدينية مجرد وسائل من باب (الغاية تبرر الوسيلة) ولكن اللعب بعواطف ومشاعر الناس وجذبهم الى هيمنة ذلك في صنع القرارات وصنع الانتحاريين وصنع الارهاب وصنع كل من يجعل نفسه جسرا نحو الموت الجماعي باساليب جنونية! وبقدر ما نجحت الولايات المتحدة في اخراج الاتحاد السوفييتي من افغانستان ودعم (المجاهدين) بقدر ما فشلت تجربتها في افغانستان مع طالبان والافغان العرب من حلفائها المجاهدين القدماء.. ومن سخرية القدر ان هؤلاء هم انفسهم الذين يقفون وراء صناعة الصدمة التاريخية.. وبقدر ما نجحت الولايات المتحدة الامريكية بازاحة نظام صدام حسين في العراق بقدر ما فشلت في جعل العراق (الجديد) بلدا آمنا مستقرا مطمئنا يبني نفسه ويستعيد حضارته اذ غدا مركزا تعيسا لجذب العتف والارهاب، بحيث غدا العراق يحترق يوما بعد آخر!
ان الصدمة التاريخية التي عانى منها اهل نيويورك على مدى ساعات من يوم 11 سبتمبر 2001 قد انتجت صدمات تاريخية يعاني منها شعب العراق على مدى سنوات، وان مجرد جعل العراق بؤرة لاستقطاب الارهاب انما يخرج عن كل مواثيق الشرف والاخلاق.. ان معالجة الصدمة التاريخية بوسائل سياسية قد أخّل بالتوازن الحضاري الذي طالما تعب من اجله المئات من الكتّاب والفلاسفة المستنيرين في القرنين التاسع عشر والعشرين..
حقيقة صدام الحضارات وخواء حوار الحضارات
ينبغي القول، انه بالقدر الذي فشل فيه الامريكيون في معالجة الارهاب منذ ان اصدر صموئيل هانتيتغتون كتابه الشهير quot; صدام الحضارات quot; حتى اليوم، فان العرب والمسلمين قد فشلوا هم أيضا فشلا ذريعا في التعامل مع هذه الظاهرة المرعبة خصوصا وانهم موضع اتهام بتخضيب الدماء وتصدير الارهاب.. ولم تنفع كل الخطابات السياسية التي يقدمونها للعالم شجبا واستنكارا ليوم 11 سبتمبر او الخطابات الاعلامية التي يقدمونها للعالم دعما وتأييدا ليوم 11 سبتمبر، بل وان مجرد تقديم بديل غير واقعي الى العالم باسم quot; حوار الحضارات quot; فهو مجرد اضحوكة ليس لها أي واقع وليس لها أي مستقبل! اننا لا ننظر من خلال تفكيرنا الى افتراق الرؤى بين المسلمين بقدر ما ينظر الغربيون الى ذلك بعد الصدمة التاريخية، فكم هو الفرق شاسع بين ايمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة والذي يدعو الامريكيين الى الاسلام!! وبين محمد خاتمي الرئيس الايراني السابق وهو يدعو الى حوار الحضارات؟؟
لقد انتجت الصدمة التاريخية تداعيات على مستوى المجتمعات.. فلقد اصطدمت المجتمعات الاسيوية والامريكية معا ممثلة بهجرة معاكسة من الاف الناس الاسيويين اذ عادوا من الولايات المتحدة الى مواطنهم الاصلية.. ولا ينفي العديد من المسلمين المهاجرين الى ان اخطاء قد ارتكبت من قبل جماعات اسلامية في امريكا واوربا الغربية.. انهم قد استهلكوا التكنولوجيا الامريكية المتطورة لضرب المصالح الامريكية والغربية.. لقد كانت القاعدة منظمة صغيرة تافهة، ولكنها غدت اليوم منظمة متغلغلة في كل انحاء العالم ولا حوار يمكن حدوثه بديلا عن الصراع.. ويترقب الغرب حدوث هجمات عنيفة قادمة، ولديهم ان لابد من خطوات استباقية ومنها اجراء حوار مع الجاليات وتشديد قوانين ضد الارهاب والتي تقف ضدها جمعيات حقوق الانسان وحرية التعبير والحريات العامة. ان وسائل التفتيش والمداهمات والاجراءات الاستثنائية والفرز والمصورات.. كوسائل مكافحة الارهاب قد سببت جملة هائلة من المشكلات والتنديدات.
الحصاد المر للصدمة التاريخية
ان الحصاد كان مرا بالنسبة للعالم كله، ومنذ الصدمة التاريخية كان النضال مستمر ضد الارهاب كان ولم يزل مستمرا، واشتركت دول العالم كله في حرب الارهاب.. ولقد تفاقمت تناقضات عدة بعد تلك الصدمة وخصوصا بين اجهزوة المخابرات في العالم والتي اصبح الارهاب واحدا من ابرز اهتمامات العالم كله.. وان مضاعفة الجهود لضرب العنف قد خلقت ردود فعل في المناطق الحيوية من العالم الاسلامي.. وان السياسات التي تخدم الاجندة الامريكية بضرب انظمة محددة.. ان المشكلة ليست في الانظمة السياسية بقدر ما تكمن المشكلة في الانظمة الاجتماعية التي تقف في اغلبيتها ضد السياسات الامريكية، بل وتجد بغيتها في القاعدة وانها تتقّبل كل الاساليب في ضرب ليس الولايات المتحدة، بل ضد الغرب بشكل عام.
ان الفوضى التي تجتاح منطقة الشرق الاوسط وان الارهاب الذي يجتاح العالم لا يمكن معالجته بالاساليب الساذجة على ايدي ساسة حمقى.. ان عالم ما بعد الصدمة التاريخية سيستمر يوّلد المزيد من التداعيات المرة والنتائج المريرة.. ان تنامي التيار الاسلامي ووصول عناصره الى السلطة في اكثر من مكان في العالمين العربي والاسلامي ما هو الا من نتائج الصدمة التاريخية التي صنعها تنظيم القاعدة الذي كسب الريادة في ايذاء امريكا والغرب. ان الاحتقانات التي يعيشها العالمين العربي والاسلامي قد خلقت ارهابيين وبدأوا يتحركون على مساحات واسعة في العالم ويتغلغلون بشكل سريع يستخدمون آخر مستحدثات العصر، بل وبدأ الارهاب ينتقل من مكان الى آخر، وان ثمة مجتمعات تصدّر الارهابيين الى مجتمعات اخرى.
وأخيرا، ان العرب والمسلمين لابد ان يحددّوا موقفهم من ظاهرة الارهاب، ليس حّبا أو كرها بالامريكيين والغربيين، بل لأنها اشنع ظاهرة تاريخية عرفتها البشرية.. وان يدينوا قتل الابرياء مهما كانت الاسباب والمسببّات، فلقد دفع العالمين العربي والاسلامي ثمنا باهضا لهذه الظاهرة التي تتلبّس العالمين، وخوفا على مصيرنا وعلى مستقبل اجيالنا، لابد من خيارات اخرى في التعامل مع العالم دفعا بالتي هي احسن.. وايقافا لسعير النار وانهيار الاحجار التي ستحرق الاخضر واليابس وانهاء لكل الاخفاقات التي يعيشها هذا العالم.
التعليقات