وأخيرا تغلبت الحكمة على الحماقة، ونأمل إن يكون ذلك هدفا وقناعة، لا تكتيكا، لكسب الوقت والتقاط الأنفاس. وأن يدرك كل طرف من أطراف الحرب الأهلية الفلسطينية، بعد هذه المعارك العبثية المدمرة، أن مصلحته ومصلحة قادته وحزبه، تكمن في نهوض الوطن من حفرته، وصون دماء شبابه، وتوفير الطعام والأمن والآمان لشعبه، وتوحيد كل الجهود والطاقات لبناء البلاد. فالحاضر يرسم المستقبل، والتاريخ لن يرحم العابثين بحياة البلاد والعباد، ولم يعد بالإمكان تزييفه، فالناس شهود على ما يجري، وذاكرتهم قوية.
لقد فرق بين الأشقاء والأصدقاء في الأسرة الواحدة، والحي الواحد، والمدينة الواحدة، شعارات وادعاءات، وُظفت في خدمة مصالح القادة ومسانديهم، فكلٌّ يدعي خدمة الله والشعب والوطن. والحقيقة أن أكثرهم يجري خلف المال والسلطة والأطماع الشخصية.
لقد اعترفت حماس أخيرا بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، أملا بفك الحصار عن هذا الشعب المغلوب، وإعادة تدفق المساعدات العربية والغربية والأمريكية، لسد حاجاته، وتأمين لقمة عيشه.
ونأمل أيضا أن لا يكون هذا الاتفاق حبرا على ورق، وأن يوضع موضع التطبيق، ويلتزم به الموقعون عليه، وأن لا يكون قد وُقع خجلا من وجود عاهل السعودية الملك عبد الله، أو لرفع العتب الفلسطيني والعربي، وذر الرماد في عيون الناس. كي لا يكون مصيره مصير الاتفاقات السابقة التي فشلت جميعها بُعيد توقيعها، بل خُرقت عن عمدٍ، ونوايا مسبقة، قبل أن يجف حبرها. لأن طبيعة البدوي ونزعته في السيادة والتفرد، تأبى أن يشاركه أحد في الكلأ والمرعى والماء، وربما أيضا خُرقتْ لأسباب أخرى. فما أسهل أن يختلق المتخاصمون المبررات، ويحملون بعضهم بعضا مسؤولية الخرق. فتلك لعبتنا التقليدية.
ومما يدعو إلى التفاؤل أن الاتفاق أُبرم في مكة المكرمة، ويكفي اسمها ليعطي الاتفاق قدسية. وبإشراف ودعم وطني وشخصي من السعودية وعاهلها الملك عبد الله، الذي لا شك سيستخدم كل ما يتوفر له من إمكانات لإنجاحه. ففشل الاتفاق سيجر الويلات على الفلسطينيين في الوطن والشتات، وينعكس سلبا على البلدان العربية، ويتيح لإسرائيل الحرية الكاملة بالقضم، والضم، وكسب التأييد العالمي، ورفض المفاوضات. ويرتب على الطرف الذي أفشله مسؤوليات شخصية جسيمة، عدا عن تعكير صفو علاقاته مع السعودية التي لا أظن أحدا من الفلسطينيين يرغب في إغضابها.
كما نأمل أن يكون هذا الاتفاق مقدمة لتنقية الأجواء بين الرياض ودمشق قبيل انعقاد مؤتمر القمة في السعودية، ومصالحة أخرى مع إيران- فما كان لحماس أن تتنازل عن قسم هام من سلطتها، وتبت أمرا كهذا، لولا دعمهما وتشجيعهما- وأن يمهد الطريق لمصالحة ضرورية بين الأطراف المتنازعة في كل من لبنان المرمي على حافة الهاوية، تتربص به حرب أهلية سنية شيعية. والعراق الساقط فيها، والغارق حتى قمة رأسه، في حرب دموية دينية مذهبية، ستفتته أشلاء عدة.
إن الأوراق التي يملكها اللاعبون الأساسيون، المحركون والمساندون لهذا الفريق أو ذاك، هنا أو هناك، والتي قد تكون الآن رابحة، ستتحول بين أيديهم إلى أوراق مدمرة خاسرة، ترتد على الجميع وبالا، دون هذه المصالحة. فمن مصلحة جميع الأطراف العربية والإقليمية، أن تسعى إلى تبديد الغيوم، وتنقية الأجواء فيما بينها. وعلى إيران التي تتقن فن السياسية، وتقف شبه منفردة في مواجه الأقوياء، بسبب سعيها لامتلاك تكنولوجيا نووية، إزالة المخاوف، وطمأنة دول الخليج ومصر والسعودية، ودول المنطقة السنية.
إن بوادر حرب إسرائيلية على لبنان تلوح في الأفق، وأظنها قريبة. وأمريكا (بوش) كما تدل تحركاتها السياسية في المنطقة والعالم، والمالية في الكونغرس، والعسكرية في العراق، مدعومة من بريطانيا، ودول أخرى، تبيت أمرا تسترد فيه هيبتها وكرامتها التي سقطت في عيون شعبها وأصدقائها وأعدائها على السواء. وبدون هذه المصالحة سيكون الأمر صعبا إلى أبعد الحدود.
[email protected]