يُقال إن القراءة عموماً هي quot;إعادة كتابةquot; بالدرجة الأولى. وليس التلميحُ هنا إلى نظرية quot;التلقي واستجابة القارئquot; الشهيرة في النقد الأدبي المعاصر، حيث ينتج quot;القارئquot; معنى النص، بدلاً من quot;المؤلفquot;. التلميح هنا، هو إلى ما تولَّد لديَّ شخصياً من معانٍ أخرى جديدة ndash;وعجيبة بعض الشيء- لكلمة quot;قراءةquot;، وأنا أطالع مقال الكاتب عبدالمحسن الرشود: quot;دخيلون على أميركاquot;، المنشور في صحيفة quot;الوطنquot; السعودية، يوم الأربعاء 14 مارس 2007. فقد جاءت قراءة الرشود حقاً في واد، وكان الكتاب ndash;الذي قرأتُه لحسن الحظ- في واد آخر. وادٍ بعيد، في غاية البُعد. وهذه هي الحقيقة التي لا تغيّر منها شيئاً طريقة الدخول القوي، بالإعلان عن quot;مفاجأةquot; الكتاب والكاتب لـquot;قارئهماquot; المزعوم وغير النموذجي هذا. يقول الرشود متحدثاً عن الكاتب: quot;فاجأني... مفاجأة محزنة، وموجعة وأحسست بإجحافه في حق نفسه، أولاً، وفي حق الوطن، وفي حق أمريكا وفي حق المبتعثين إلى أمريكا من السعوديينquot;. لاحظ أن هذه ndash;لسوء الحظ- هي بداية المقال، وتصور ما ادخره الرشود لختام مقاله من أحكام تعميمية جارفة، وتهم جزاف طائرة، كالها هكذا ابتداءً غير مطفِّف ولا محترز، ودون أدنى تمسك بأوهى خيوط وأصول القراءة المنهجية أو الموضوعية المتعارف عليها عند عرض أو نقد الآثار والنصوص. والأدهى من ذلك والأنكى -وربما الأبكى- أن رأس مقال الرشود منكّس إلى أسفل، ورجليه إلى أعلى، إذ بدأ بما كان يفترض أن يكون quot;نهايةquot; أو quot;خاتمةquot; -في أسوأ الأحوال- وانتهى أيضاً، بما كان يفترض أن يكون quot;بدايةquot;، وهو إزجاء انطباعه الشخصي، الذي لا صلة له بـquot;نقدquot; النص المقروء، فقد كتب ومقاله يلفظ أنفاسه الأخيرة: quot;على أية حال يبدو أن تأليف الكتب في أيامنا هذه أصبح مثل التمشية بعد العصر في الثمامة أو على كورنيش جدة أو على جسر البحرين!quot;، وهو انطباع شخصي ndash;وإن كانت فيه خفة ظاهرة لا تخطئها العين- أوافقه عليه مع ذلك، ولكنْ بشرط واحد، وهو أن نستبدل معاً كلمتيْ quot;تأليف الكتبquot; بـquot;كتابة المقالاتquot;!


أما إذا تجاوزنا تلك quot;البدايةquot; وهذه quot;النهايةquot; فسنجد أن المقال كله حشو واستطراد، وليس له quot;جسد عجل له خوارquot;. فقد مارس فيه كاتبنا الهمام، وبامتياز، عادة ذميمة هي ما يسمى بعملية quot;طرد المتْنquot;، إذ تصور أن مهمة الانتقال من عثرة الاستهلال إلى سوء الختام، يمكن أن ينهض بها دفق من سرد الخرافات والانطباعات الشخصية جداً، والظرفية جداً، والجزئية العابرة عبوراً يجعلها لا تعني شيئاً معيناً على الإطلاق، أولاً وأخيراً. فراح يسرد تفاصيل وأشياء متعلقة بزمن آخر، وبشخوص آخرين، وبمشاهدات ومشاهد لا صلة لها بما تناوله تركي الدخيل في كتابه والذي نفدت طبعته الأولى بعد أسبوع واحد فقط من صدورها، وفي يومياته الأمريكية تلك.


وعندما تحول الرشود لتقديم مبررات حكمه المفتئت على الدخيل وقع هو أيضاً وبكلتا رجليه ndash;لحسن الحظ هذه المرة- في ذات quot;الفخquot; الذي نصبه ndash;دون تمويه ذكي- للكاتب، حين اتهمه ظلماً بتشويه سمعة السعوديين. فها هو الرشود أيضاً يقول واصفاً الدخيل: quot;وألَّف كتاباً عن السعوديين في أمريكا لو قرئ خارج البلاد لأعطى غير السعوديين انطباعاً سيئاً بأن السعوديين مهما سافروا وابتعثوا في أرقى الدول.. فإنهم يعيشون عيشة البدو الرحل.. أو كأنهم مجموعة شباب في الجنادرية أو الثمامة أو مخيمين في روضة الخفسquot;. لاحظ هنا أن النظرة المعيارية وهوس إطلاق أحكام القيمة دون حساب أديا بالكاتب إلى اعتبار quot;عيشة البدوquot; مسبَّة، أو من أسماهم هو بـquot;ربع تركي القروية والمساكين حقاًquot; واعتبار مشاهد بريئة من حياة الناس العادية في المملكة بمثابة نقيصة. هذا في حين أن هذه وتلك، إن لم تكونا مدحاً فإنهما ليستا، بأي وجه، قدحاً أو تشويهاً.
وإليكم الآن مثال نموذجي آخر لـquot;الحشوquot; غير البنَّاء، وللكلام المُرسل المُطلق على عواهنه، بل وللكلام المهلهل غير المتّجه أصلاً، بكل بساطة وبحصر المعنى، يقول الرشود: quot;وأظنُّ أن ظروف هذا الكتاب وصدوره وقت المعرض يخلقان أسئلة ليست في صالح الكاتب تركي الدخيل! فإما أنه فعلاً لم يعرف أمريكا حقاً بحكم أنه استقر في يوجين في الشمال الغربي. ولم يتحدث عن غيرها من المدن الأكثر أمريكية وحرارة وإمتاعاً ومكانة علميةquot;. حسناً، صدَّقنا وآمنَّا بأن بعض مدن بلاد quot;العم سامquot; أكثر أمريكية وأكثر quot;حرارةquot; وإمتاعاً ومكانة علمية من بعض آخر. وصدَّقنا أن تركي الدخيل لم يزر تلك المدن، وبالتالي لم يتحدث عنها، لكن ما علاقة هذا بظروف صدور الكتاب وقت المعرض، ومن أي منظور يمكن القول إن الترابط الموهوم بينهما quot;ليس في صالح تركي الدخيلquot;. هل فهمتم شيئاً؟ لا، لستم وحدكم من لم يفهم، فمثل هذه الطريقة في الاستطراد والمغالطة الصورية ليست مستغلقة فقط على أفهامكم أنتم وحدكم، بل لعلها حتى تقدم استثناءً نادراً مما يُستدعى فيه القول الدارج عند وصف الملغزين والمتقعِّرين والشطّار: quot;المعنى في جوف الشاعرquot;.
وحين يبدأ الكاتب الرشود لا شعورياً في كشف دوافع كتابته لمقاله، نجد أن كل المسألة وما فيها أنه لم يجد في كتاب تركي الدخيل قبْضاً على لحظته هو الأمريكية، يوم كان الرشود منذ عقدين من الزمن في أمريكا أخرى، وفي مدن أمريكية أخرى، ويومها كان موقف أميركا التسعينيات من السعوديين -ومن العرب عموماً- مختلفاً عن موقفها الآن بعد أحداث سبتمبر 2001. وعندما لم يجد الرشود مرابع أيامه الأمريكية العتيدة، التي كان أوْلى به هو أن يخرج بها على الناس في كتاب ما دامت تستحق إلى هذا الحد أن تُروى، ووجد فقط أيام تركي الدخيل وفتافيت ذكرياته الخاصة، التي اختار لها من الأسماء مدركاً خصوصيتها: quot;سعوديون في أمريكاquot; ولم يقلْ quot;السعوديون في أمريكاquot; على إطلاق العنوان، عندها بلغت بالرشود سوْرة الغضب ولا أقول الحسد، حد قفل دفتي الكتاب، وتدبيج مقال طويل عريض في التقليل من شأنه ومن شأن كاتبه، ومن ثم اتهامه بالإساءة إلى صورة السعوديين، بل حتى إلى صورة أمريكا ومدنها والمبتعثين إليها، مرة واحدة، وإلى الأبد.
والحقيقة أنه يندر أن يشتمل مقال صحفي واحد على كل هذا القدر من المغالطات والأخطاء في القراءة، ومن عدم الاحتشاد في الكلام، وأيضاً من إساءة استخدام فرصة الحصول على منبر حُر للتعبير عن الرأي في وسيلة اتصال جماهيرية واسعة الانتشار كـquot;الوطنquot; الغراء. إنه حقاً أحسن مثال على أسوأ مقال. ولولا ذلك لكان الكاتب عبدالمحسن الرشود قرأ كتاب quot;سعوديون في أمريكاquot; وفق منطق الكتاب الخاص، وليس وفق منطق الرشود وتوسُّعه المُفرط في تجسيد مبدأ quot;طغيان سلطة القارئquot;. فكتاب تركي الدخيل ليس ndash;يا مولانا- بحثاً علمياً أكاديمياً أنثروبولوجياً أو سوسيولوجياً مملاً عن أرقام ومفردات وجود المبتعثين السعوديين للدراسة في أمريكا، ودورهم هناك. وليس تخريطاً توبوغرافياً لبلدات أمريكا وقراها وأريافها وأسماء شوارعها، ومدنها حتى تلك الأكثر quot;حرارةquot; التي لم يفوِّت الرشود الفرصة للإيحاء بأنه يعرفها جيداً كلاس فيغاس وسان فرانسيسكو، وغيرها. وليس في الكتاب أيضاً زعم بأنه يؤرخ لوجود السعوديين في أمريكا منذ بدء الخليقة وحتى وقت كتابة هذه السطور. بل هو قبْض طريف على لحظات من الزمن الهارب من نفسه، نراه يتدفق من ثنايا وطوايا الذاكرة. وهو تسجيل أمين لتجارب ومشاهدات مما رآه تركي الدخيل أيام وجوده في أمريكا. ولم يزعم الدخيل -الذي استثمر الرشود على نحو غير موفق الخامة الاشتقاقية اللغوية لاسمه العائلي في عنوان المقال: quot;دخيلون على أمريكاquot;، وليت quot;شَنْفراناquot; الفصيح قال quot;دخلاءquot; حتى تستقيم عملية الاشتقاق القيصرية تلك- أنه quot;أصيلquot; في أمريكا، بل هو صحفي عربي مرَّ بتجربة إنسانية فسجلها بعين لاقطة حِشَرية، وبقدرة عجيبة على تسجيل وفك اشتباك المشاهد والأحداث والأشياء والناس، وإعطاء مفردات الحياة البسيطة العفوية وتجاربها العابرة الصغيرة، معنى، غير المعنى المعتاد الساذج السطحي الذي يلحُّ الرشود ndash;وبشكل مدرسي- على البحث عنه، في غير مظانِّه.


لقد تذكرتُ صراحة عنوان كتاب quot;نقدُ نقادِناquot; للمفكر الشيوعي الروسي جورج بليخانوف، وأنا أقرأ quot;نقدquot; عبدالمحسن الرشود لكتاب تركي الدخيل. وإذا كان بعض نقاد الروس اشتهروا منذ عقود بانتمائهم إلى quot;المدرسة الشكلانيةquot;، فما أحرى بعض quot;نقادناquot; نحن الآن بأن يشتهروا بـquot;المدرسة الشكليةquot;، وذلك لأنهم جعلوا الانطباعية والسطحية والضحالة في القراءة فناً قائماً بذاته، وصناعة من صناعات الكلام، متناسين ما قاله أبوحيان التوحيدي منذ دهر، حين نصح أمثالهم في كتابه quot;الإمتاع والمؤانسةquot; بعبارته المسجوعة الشهيرة: quot;الكلام صلفٌ تيَّاهٌ لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحبُ كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرُون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهَّل مرةً ويتعسر مراراًquot;.


والعجيب أن عبدالمُحسن الرشود نفسه حاول إيهام القارئ ndash;القارئ الحقيقي غير الموهوم- بأنه هو وحده مَن يعرف غرض تركي الدخيل من كتابة quot;سعوديون في أمريكاquot; حين قال: quot;ألَّف هذا الكتاب من باب الفكاهة وسياق الذكريات الخاصة. ولكنها كانت على حساب الحقيقةquot;. يا له من quot;اكتشافquot;! ولو صحَّ هذا الكلام لنسف صدر عبارة الرشود عجزها. فإذا كان الأمر تفكُّهاً وتسجيلاً لذكريات شخصية، فمعنى ذلك أنه ليس بحثاً متجهِّماً عما يسميه الرشود quot;الحقيقةquot;. وأية حقيقة؟ إنه لو تأمّل كلامه هذا لاقتنع حقاً بتناقض خطابه وتهاوي مسعاه للتقليل من قيمة الكتاب، وللزم مكانه حيث هو... ولأخذته الحجة، ولكفانا أصلاً عناء الرد عليه. ولكنْ أنَّى لهذا النوع من الكُتَّاب الأغمار الساقطين سهواً، وبقدرة قادر، على صفحات الرأي في الصحف الرصينة، أن يكتشفوا تناقضاتهم الذاتية؟ فدون ذلك غفلة متأصِّلة، وزيف في النفوس مُقيم. وإلا لما كان ناقدنا العتيد يأتي معززاً رأيه باستطراد يكون في النهاية حجة عليه، فكشف نفسه بلسانه، وأخذته الحجة. وليس حال كاتبنا الكريم للأسف بعيداً عن هذا الحال في قراءته المبتسرة المسلوقة تلك لكتاب تركي الدخيل. وقديماً قيل: من غرْبل الناس نخَّلوه. ولا أقول لكاتبنا الهمام الآن: وداعاً، بل أقول له: إلى اللقاء

سلطان القحطاني