في إحدي لمحاته الذكية أفاض المنظر الروسي laquo;ميخائيل باختينraquo; في بيان أهمية quot;الآخرquot; بقوله : laquo;إننا نخفق في النظر إلى أنفسنا ككليات ، ولذا فإن الآخر ضروري، لاستكمال فهمنا لذواتنا، إذ أن الذات تختبئ في الآخر، وترغب أن تكون ذاتًا أخرى للآخرين، أن تخترق عالمهم كآخر، وأن تطرح عنها ثقل الذات المتفردةraquo;.
إلا ان معرفة الآخر، لاتحدث أو تتم، بالنظر إليه من بعيد أو من خارجه، وإنما بالولوج إلى أعماقه وبتحسس حقيقته المحتجبة وراء التصوّر.
وهنا يكمن مأزق الفلسفة، منذ أكثر من قرنين، والذي كشف عنه كانط في كتابه العمدة quot;نقد العقل الخالصquot;، حين دعا الى تواضع الفلسفة، لانها تقف عند حدود الشيء في ذاته فلا تدرك إلا ظاهره، وتعجز عن ازاحة حجبه. وعندئذ فقط بدأ البحث عن مخرج جديد للمعرفة من سجن ظاهريتها.
كما أن أكتشاف الآخر لا ينفك عن الاعتراف به، ولا ينفصل عن ترتيب الأثر الوجودي على حقيقته ومعناه فالانطولوجي(الوجودي) متضمن في الابستمولوجي (المعرفي).
وحسب الفيلسوف الأمريكي laquo;تشارلز تايلورraquo; في مقاله (سياسات الاعتراف): laquo; فإن الاعتراف ليس مجاملات يتبادلها أحدنا مع الآخر، لكنه laquo;حاجة إنسانية حيويةraquo; تقوم على أساس أن الحياة laquo;ذات طابع حواريraquo;، وأننا نعاين أنفسنا عن طريق الاتصال بالآخرين. وlaquo;الاعتراف الخاطئraquo; يتضمن ما هو أكثر من عدم الاحترام، فهو يمكن أن يحدث جراحًا خطيرة، ويثقل ضحاياه بكراهيةمعوقةللذات.
ونحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضي، بتأصيل معطيات جديدة فى التعامل مع الآخرين، أهمها أن نصغى إليهم، بدافع التعلم منهم لا أحترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا.
ان تعلم فن الإصغاء إلى الآخرين يعنى ببساطة أننا راغبون فى الدنو من الحقيقة وأكتشاف أفضل أسلوب للتعامل بيننا . quot;فقد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلانى قد نصل سوياً إلى تصحيح أخطائنا، وربما نصل معاً إلى مكان أقرب إلى الحقيقة أو إلى العمل بطريقة صائبةquot;.
إن مقولة سقراط : quot;إننى أعرف أننى أكاد لا أعرف شيئاً، وحتى هذا أكاد لا أعرفهquot;.. ما تزال حية وفاعلة حتى يومنا هذا، ومنها أشتقت وأستنسخت معظم النتائج الأخلاقية عند إرازموس ومونتينى وفولتير وليسنج وكانط وهيجل وليفيناس وغيرهم، فالتواضع الذهنى والأمانة العقلية تقتضى الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ، أو ما يسميه quot;كارل بوبرquot; وquot;بول ريكورquot; بـquot;اللاعصمة من الخطأquot;، هكذا تتداخل الابستمولوجيا والأخلاق بالمعني الفلسفى.
إن البحث عن الحقيقة، أو الاقتراب منها، واللاعصمة من الخطأ، كلها تقود إلى موقف نقد ذاتى. فالمبدأ القائل: علينا أن نتعلم من الأخطاء، إذا كان لنا أن نتعلم تجنب الوقوع فى الأخطاء، يعنى أن إخفاء الأخطاء إذن هوالخطيئةالفكريةالكبرى.
ولما كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، فلا بد أن نتعلم أيضاً أن نقبل ndash; شاكرين ndash; أن يوجه الآخرون أنتباهنا إلى أخطائنا، وعندما نقوم نحن بدورنا بتوجيه أنتباه الآخرين إلى أخطائهم، فعلينا دائماً أن نتذكر أننا قد وقعنا نحن أنفسنافيأخطاء.
إننا نحتاج إلى الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها، وهم يحتاجون إلينا أيضاً... أن النقد الذاتى هو أفضل النقد، لكن النقد من الآخرين ضرورى، بل يكاد أن يكون له نفس أهمية النقد الذاتى.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات